عائد إلى الحياة، رواية عن مقاومة الإنسان، وانتصاره بكبرياء – رشاد أبو شاور
أتمنى في بداية مقالتي هذه عن رواية الدكتور فايز رشيد، الروائي، والقاص، والكاتب السياسي، أن لا يضطر أحد لمواجهة هذا العدو الشرس، الخبيث، القاتل بلا رحمة، والذي، مع ذلك، يمكن للإنسان أن ينتصر عليه بالإرادة، وبحب الحياة، وأيضا: بمساعدة الآخرين: مقربين،وأصدقاء، وأطباء.
ولأن هذا العدو يباغت ضحاياه فجأة، ولا يترك لهم فرصة للمواجهة قبل استفحاله، فقد حدث هذا مع الدكتور فايز رشيد، الطبيب المختص بالعلاج بالوخز بالإبر الصينية، وصاحب الخبرة في ممارسة العلاج في مواقع كثيرة، سيما المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان، والمستقر حاليا في العاصمة الأردنية عمّان، والممارس للعلاج في عيادته الكائنة في شارع الغاردنز، والتي يستخدمها غالبا للقراءة والكتابة حين يقّل توافد المرضى.
فجأة، وبعد شعور بالألم المباغت في البطن، اكتشف الدكتور فايز رشيد، بعد فحوصات، وصور أشعة أجريت له، أنه مصاب بسرطان( البروستات)، الذي يهاجم الرجال تحديدا، في هذه الغدة الذكورية.
بيني وبين فايز رشيد صداقة عمرها سنوات طويلة، ونحن نلتقي غالبا في عيادته، نتبادل الحديث، ونتأمل حالنا العربي ( المائل)، والذي يوجع القلب، ونعرّج على الكتابة وهمومها، فنحن في حالة حوار دائم، في مواضيع لا ينتهي الحديث فيها، وحولها.
قلت له، وكررت القول مرارا، بعد أن أخبرني بالنبأ المفزع، ومع بدء دخوله في مرحلة العلاج، وفي زيارتي له في مستشفى( الأمل) المختص بمعالجة الأمراض السرطانية:
_ اكتب يا صديقي، فهذه تجربة لا تتكرر، وأنت ستنتصر على هذا المرض الخبيث، وسنفوز برواية هامة.
كان متعبا وقلقا في البداية، ولكنه بدأ بالتحسن نفسيا مع الشروع في العلاج، ومع اتخاذه قرار المواجهة، فحياته ليست لعبة لتسرق منه هكذا ببساطة من مرض شرس عدواني.
استنفر فايز رشيد قدراته النفسية، والبدنية، والفكرية، والطبيّة، وتجلّت لديه إرادة المقاومة التي ميّزت حياته منذ قُبض عليه في بلدته( قلقيلية)، بعد احتلالها عام 1967، وزج به العدو الصهيوني المُحتل في السجن، ثم ليبعده عن وطنه، وأسرته، ووالدته التي كان متعلقا بها، ولتبدأ رحلته في دراسة الطب في روسيا البيضاء، وليعود بعد تخرجه ويعمل على تقديم علمه لأهله في المخيمات، وقواعد الفدائيين، وأثناء الحرب على لبنان، ومعركة بيروت عام 1982، والتي أصدر عنها كتابا بعنوان( والجراح تشهد: مذكرات طبيب في زمن الحصار).
نجا فايز من المرض بعد معاناة، ومعركة بطولية خاضها، وفاز بكتابة رواية تقدم تجربة مواجهته مع المرض الخبيث، وهي ثاني رواية في الأدب العربي الحديث تعالج تجربة معاناة هذا المرض، بعد رواية التونسية حفيظه قاره بيبان، والتي صدرت في تونس بعنوان (العراء)، وكنت قرأتها مخطوطة، وكتبت عنها مقالة اجتزأت منها الكاتبة مقطعا وضعته على غلافها الخلفي.
رواية حفيظه قاره بيبان قدمت تجربة امرأة في مواجهة سرطان الثدي، وانتصارها عليه بالحب، وفي مقدمة أسباب انتصارها حب الأسرة: الزوج، والإبن والإبنة،..وصداقة الشاعر الفلسطيني المنكوب بسرطان الاحتلال، والذي رمت به أقداره إلى تونس.
رواية (عائد إلى الحياة) قال فيها الطبيب الجراح الذي أشرف على إجراء عمليتين للدكتور فايز، في المقدمة: أن تواجه عدوا تعرفه غير أن تواجه عدوا لا تعرفه.عرفت الدكتور فايز رشيد منذ سنوات وهو يواجه عدوا يعرفه حق المعرفة، وقد كرس فكره وقلبه لمواجهته، منذ أن سرق منه أرضه وبحره وحلمه، وكان وما يزال هذا ديدنه مع رفيقة الدرب السيدة الفاضلة والمناضلة ليلى خالد.
يختم الدكتور خالد الصافي مقدمته: وإذا كان هناك للرسائل أدب، وللرحلات أدب، وللسيرة الذاتية أدب، فالدكتور فايز يكون، في كتابه هذا، قد أرسى _ إن صحت التسمية_ أدب السيرة المرضيّة، كي يكون دليلاً، وبلسما للمرضى الجدد، وهم على وشك الإمساك بالحياة من جديد.
كتب فايز روايته بسرد سلس، بدءا من زيارته لبيروت للمشاركة في مؤتمر يعقد هناك، ثم عودته إلى عمان، بعد أن دهمه وجع شديد في بطنه، وهو ما دفعه لعرض نفسه على طبيب مختص، ثم فصول مجابهته وتحديه للمرض الذي هدد حياته..حتى خروجه سالما من هذه ( المحنة).
في ختام الفصل الرابع يعرف ويقّر بأنه مريض بالسرطان، ثم تبدأ رحلته مع العلاج، وإجراء عمليتين، واحدة لاستئصال السرطان، والثانية لاستعادة القدرة الجنسية التي تتأثر باستئصال البروستات.
يحقن فايز بحقنة مورفين لتخفيف أوجاعه، فيبدأ في الهلوسة، وهو يستعيد تجربته تلك في الفصل ال11 ، فالجن، والبحر، والناس، يختلطون في جو من الغرابة بفعل المخدّر، وهذا فصل بديع، ومثير، وممتع…
يدخل فايز في روايته فصلاً كتبته زوجته ليلى، وهو فصل حميم، ينقل هواجس الزوجة، ورفيقة العمر، وكأن فايز يقول: معجزة شفائي ليست خاصة بي وحدي، فمعي كانت ليلى الزوجة ورفيقة رحلة العمر.
في روايته ( عائد إلى الحياة) يكتب فايز لوعته كرجل، والجهود التي بذلها لاستعادة قدراته الجنسية، بجرأة، ودون لف أو دوران، فالحياة الجنسية تعبّر عن الرغبة في الحياة، والاستمتاع بها، واستمراريتها، وديمومتها، و( ذكورة) الرجل بدونها تكون ناقصة…
بعد عودته لعيادته، وتفقده لموجوداتها، يتساءل: هل يمكن الاشتياق للأغراض؟! يجيب: نعم. فالأشياء التي نملكها، ونتعايش معها تكون عزيزة علينا، وهي عندما نعود إليها تشعرنا بأننا (عدنا) أسوياء، وفي وضع طبيعي، وأليف.
انتصار فايز على سلس البول، كما يخبره طبيبه، وفي غضون عشرة أيام، وبمعالجته لنفسه بالوخز بالإبر الصينية، اعتبره طبيبه المعالج بأنه الحالة الأولى التي يشهدها في حياته كطبيب.
يكتب فايز: ارتحت من هم ثقيل، ومن معاناة تعمل تدريجيا وببطء شديد على تدمير الذات الإنسانية. لا أبالغ في هذا الوصف، فكم هذه التجربة مريرة لمن يمر بها. فجأة وبدون مقدمات تشعر بما يشبه الإعاقة. تضطر لاستعمال الفوط الصحيّة، وتستبدلها كل بضع ساعات. إنها مهمة ثقيلة، لم تصدّق ليلى أنني تخلصت من الفوط.( ص211 )
إذا كان السلس البولي بعد العملية يؤرق المريض، فإن موضوع الجنس يضغط على نفسه أكثر مما يتصوّر. يكتب فايز بصراحة وجرأة:
صحيح أن المريض بالداء الخبيث، وبعد استئصال البروستات المصابة به، يتأثر سلبا من ناحية النشاط الجنسي، لكن يظل هناك ما هو كفيل باستعادة هذه الوظيفة المهمة للجسم، والتي بعد افتقادها يتعرض المريض لضغوطات نفسية هائلة، إن على الصعيد الذاتي النفسي، أو من حيث علاقته بالآخرين، وبخاصة شريكة حياته، فهي إن تفهمت وساعدت زوجها على إعادة تأهيله، فهذا نصف العلاج، أما النصف الثاني فهو إرادته وإصراره على الوصول إلى حل، بالطبع بمساعدة الطبيب.
الخجل في هذه الناحية مدمر، ويؤدي إلى الاكتئاب،وهو ما يصعّب كثيرا محاولة الشفاء، وتجاوز الحالة المرضيّة.( ص217 )
رواية( عائد إلى الحياة) مفعمة بالإنسانية، وحب الحياة، والتفكير في الآخرين، سيما المرضى الذين عرفهم فايز، واقترب منهم، وفكّر فيهم كثيرا بعد انتصاره على المرض.
عاد فايز رشيد إلى الحياة، وأتحفنا برواية عميقة الإنسانية، تلهم ، ليس فقط المرضى بالمرض الخبيث، بل كل إنسان يواجه تعقيدات الحياة وقسوتها، وتدفعه للمقاومة، فالحياة..حياتنا تستحق أن نخوض معركة الدفاع عنها، وانتزاعها من بين أنياب مرض السرطان، وأي مرض يتهدد حياتنا أفرادا، وشعوبا.
رواية ملهمة لكاتب، وطبيب، وإنسان، حياته في كل أدوارها يمكن أن تختصر بكلمة واحدة مشرّفة تقول الكثير: المقاومة…
* صدرت رواية ( عائد إلى الحياة) عن دار الآداب في العام 2014