عاريا أرتجف في ساحة المهد – رشاد أبوشاور
وأنا أتأمل، بقدر استطاعتي وقدرتي على إبقاء عيني مفتوحتين، لأرى مشاهد الموت والدمار على الشاشة التي تنقل بعض ما يقترفه العدو في قطاع غزة، تعود إلى ذاكرتي مشاهد من تلك الأيام والسنوات البعيدة بقسوتها: طائرة عالية تسبح في الفضاء الشاحب، تنخفض وتعلو، ولها عين واحدة تخفق بالترافق مع ( الونين)، فيرتجف البدن، فطفولتنا تتفتح على ما هو مرعب، دون أن نعرف السبب لهذا الوحش الذي يسبح في الفضاء، ومن فوق رؤوسنا يرسل ضوءه اللامع المتفحص الباحث عنّا، ونحن من هلعنا نلتصق بأمهاتنا، وأنا الذي بلا أم أنطوي على نفسي وألتصق بالتراب موارياً عيني حتى لا أرى، ولكن (الونين) وهو الدوي الذي لا ينقطع يغيب ويعود باحثا، وأنا الذي بلا أم التصق بأمي التراب، فأمي دفنت في قبر كبير للعائلة أمام بيت خالي، وأبي يحمل بارودة ويقود مسلحي قريتنا ذكرين مع رجل آخر، و..بقي في القرية لرّد اليهود عنّا بالرصاص، ونحن، امرأة عمي وأبناؤها في العراء قرب بلدة (بيت جبرين) في واد يوارينا عن الطائرة، ولكن الطائرة لا تكف عن الباحث عنّا…
شعرت بالعطش، وغيري من الأطفال طلبوا من أمهاتم أن يسقينهم، وألحوا، ومن بعد حضر رجل يحمل وعاء فيه ماء، وأخذ يغرف ويسقينا، وأنا شربت و..نمت جائعا بردانا خائفا محتضنا التراب لأن أمي بقيت في ذكرين يحتضنها التراب قبل أن ترى الطائرة التي تسبح في الفضاء ولها عين واحدة تضئ وترمش وتفتش عنا، دون أن نعرف لماذا، وماذا تريد منا، ولماذا تلاحقناّ!
لو أن أمي بقيت ولم تمت لاحتضنتني لصق صدرها.
_2_
كنت أحب سيدي مرشد، وهو عم أبي وزوج خالته، وأبي كان –كما علمت من بعد يناديه، أو يستذكره ب( أبوي مرشد)- وانغرس حضوره في ذاكرتي في الأشهر الأخيرة من عام 1948، وبالترافق مع أيام الحرب.
لم يغادر سيدي مرشد، ونحن الأولاد كنا نناديه هكذا (سيدي مرشد)، أولاد عمي عبد الرحمن و..أنا..الكرم، كرمه الذي زرع أشجاره بيديه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الأتراك، هو الذي قاتل على الدردنيل و..في اليمن حيث انهزمت قواتهم وانسحبوا، وبعدئذ عاد إلى ذكرين وانهمك في نكش أرضه وزراعتها من جديد بغراس الزيتون، والتين، والعنب، وسوّر كرمه بأشجار الصبّار، ورعاها حتى اخضرّت واينعت وأثمرت فأطعم كل مشته وهو يردد: اللهم أطعمنا وأطعم منّا..والله استجاب له، ونحن الصغار أكلنا عنبا وتينا وصبّارا لذيذا مما زرعت يداه.
أذكره بثوبه الأبيض وعليه تراب من تراب أرضه التي رأيته يمسّد عليها ويربت ويتشمم راحتيه وهو يردد: فيها رائحة وضعها الله من سرّه ومحبته ومباركته..إنها نعمة صونوها تصونكم، وكان يُمسّد على رؤوسنا الصغيرة، ويريت على ظهورنا وهو يردد: حماكم الله، والله ماني عارف كيف ستكون أيامكم الجاية!
سمعنا الطخ، وكنّا في كرم سيدي مرشد، فجاء أبي مندفعا، وهو يصيح: يلاّ أركضوا إلى بيت جبرين مع أحمد، وهو الحفيد الكبير للجد مرشد، وابن عمي عبد الرحمن، فاليهود دخلوا بعض القرى، وهم يهجمون على قريتنا. ثم خاطب سيدي مرشد: يلا يابا مرشد إلى بيت جبرين، ومن هناك إلى الخليل إذا دخل اليهود.
ما زال المشهد في رأسي وقلبي و..روحي. انحنى سيدي مرشد وتطاير شعر لحيته الأبيض على صدره وركع ثم سجد على التراب، وحفن حفنة وأخذ يفرك شعر لحيته بالتراب: تتركون هذه الأرض يا محمود أنت وابن عمك، يقصد إبنه عبد الرحمن وهو أكبر من أبي بعدّة سنوات، وأخذ يُمرّغ لحيته بالتراب، ويحفن ويلطخ لحيته من تراب أرضه! . من هم اليهود لتهربوا منهم يا محمود؟! اهجموا عليهم بالعصي، بالحجارة، بالشباري _ الخناجر الصغيرة التي يحملها الفلاحون_ واطردوهم بعيدا عن أرضكم..آخ لو أن صحتي تساعدني لأريتكم ماذا سأفعل مع اليهود..آخ!
رفض سيدي مرشد مغادرة ذكرين، و..مات ودفن في أرضها بعد أيّام قليلة، وما زال رفاته هناك. (بعد سنوات كتبت عنه قصة بعنوان (الأسلاف) وقد ترجمت ونشرت في مجلة عالمية اسمها بروفيل).
-3-
نُقلنا إلى كروم الخليل، ونمنا تحت الأشجار وغرقنا بماء المطر وفي الوحول، وعانينا من الجوع ..واسعفتنا (بركة) أبونا الخليل، وهي جريشة مطبوخة، أو برغل مطبوخ، والتهمناها فأسكتت جوعنا..ونمنا في بيوت صيفية في (كروم) الخليل التي بلا أبواب وبلا شبابيك..وبعد معاناة امتدت حضرت سيارات شحن وحملتنا إلى (مخيم الدهيشة) جار بيت لحم..وأقمنا تحت الخيام، وحملنا حجارة لنجلس عليها تحت الخيام لنتعلم القراءة، ونبدأ من:
راس روس
دار دور
ومن تلك الأيام انغرست دورنا في رؤوسنا، وفي أرواحنا، وفي قلوبنا.
الخيام وما أدراك ما الخيام! لا تحمي من برد، لا ترّد المطر، وماء المطر كان يتدفق من تحت أطراف الخيمة التي منحت لأبي، وهي زعموط يعني مثل القُمع المقلوب، فعائلتنا ثلاثة أفراد أبي وجدتي أمه..وأنا.
سقط علينا الثلج في مخيم الدهيشة، وبعض الخيام سقطت، وبعضها طارت، و..جاءت سيارة حملت من رغبوا إلى بيت لحم، و..جُمعنا في المسجد المقابل لكنيسة المهد، مسجد عمر رضي الله عنه، وأنا وأبي أقمنا بضعة أيام، وجدتي فاطمة بقيت مع أختها أم عمي عبد الرحمن في خيمتهم الواسعة، وأنا دهشت في بيت لحم، في ذلك اليوم، بالأحرى الصباح عندما استيقظت من تحت البطانيات ورفعت رأسي واسترقت السمع فملأت الموسيقى رأسي..فتسللت ب(شويش) حتى لا يستيقظ أبي ويسألني، وتوجهت إلى باب المسجد..فرأيت حشدا كبيرا ورايات وأولادا يدقون الطبول و..دهشت وانبهرت، واندفعت واقتربت من المشهد الملوّن، فأرجفني البرد الذي اجتاح بدني شبه العاري، ولكنني ورغم ارتجافي واصلت التفرّج، وأخذت أقف على قدم واحدة وأرفع الثانية، وهكذا إلى أن رأيت أبي وسمعت صوته مناديا بشئ من الغضب، فذهبت إليه غير راغب بترك الفرجة والموسيقى، ورؤية الأولاد الذين يرتدون ملابس جميلة تغطي كل أجسادهم وتبعث الدفء فيها.
وبعد أيّام عدنا إلى مخيم الدهيشة بعد توقف العاصفة الثلجية، واستأنفنا قراءة دروسنا تحت الخيام.
رأينا رجالاً كبارا يتجمعون على الإسفلت الذي يذهب من بيت لحم إلى الخليل، وهم يهتفون بغضب، وسمعنا أساتذتنا يلوّحون بأيديهم صارخين:
يلاّ يا أولاد يلاّ
انضموا للمظاهرة واهتفوا:
لن نعيش لاجئن
بدنا العودة لفلسطين
وصاح أُستاذنا سليمان مزهر:
هبّت النار والبارود غنّى
وظهر الشاعر خليل زقطان في منتصف التجمع، وارتفع صوته:
قسما بجوع اللاجئين
وعري سكّان الخيام
لنصارعن الموت
من أجل الوصول إلى المرام
آنذاك عرفنا كيف تهب النار، ولكننا احتجنا لوقت حتى نعرف كيف يغني البارود!
أترون كيف تغني الصواريخ في غزّة؟
الأولاد هناك يُقتلون، ويموتون وهم لا يعرفون الأسباب، فهم أصغر من أن يعرفوا شيئا، لأنهم بالكاد قد خرجوا من أرحام أمهاتهم…
في هذه الأيام يرتجف ألأطفال في قطاع غزة بردا..وغضبا.. لأنهم يعرفون وجوه أعدائهم والمتآمرين عليهم، ألا ترون وتسمعون فيديوهات طفلاتنا وأطفالنا في قطاع غزة؟ إنهم قادمون لكم جميعا يا أعداء فلسطين المتفرجين على آلامها ومعاناتها التي حتما ستنتهي بهزيمة (كل) أعدائها وفي مقدمتهم الإمبراطورية الأمريكية رأس الشر والجريمة…
قادمون لعقابكم ايها المتفرجون..والويل لكم!
النكبة!: منذ 75 توقع كل أعدائنا أنها نهايتنا كشعب فلسطيني، بريطانيا والصهاينة والمتخاذلين من حكام (عرب) يعملون في خدمة راعيتهم أميركا، و..لم يتوقعوا أننا حفظنا وصية سيدي مرشد: قاتلوهم بالشباري، بالحجارة ..بالعصي..بال..وقد قاتل شعبنا بالشباري والحجارة والكلاشنوكفات، وها هو يقاتل بصواريخ القسام وسرايا القدس وأبو علي والناصر صلاح الدين..وبصواريخ وقنابل ورصاص كل أخوة ورفاق السلاح في القطاع البطل مدهش العالم..ومدن ومخيمات الضفة التي تنخرط في المعركة…
تنويه: أنا كنت هناك قبل 75 عاما، عشت فصول نكبة ال 48..وها أنا أعيش وأشهد ترنح الكيان الصهيوني منذ يوم 7 تشرين..يوم بدأ الطوفان.. وما بعده، رغم دعم الإمبراطورية الأمريكية ورئيسها الصهيوني التافه الخرف بكل الأسلحة لكيانهم الصهيوني وكيانه العنكبوتي لتقوية رُكب قادته وجنرالاته المرتجفة أمام المقاومة الفلسطينية .. والمتصاعدة على طريق القدس.
3 كانون الثاني 2024