عاصمة اللاءات الثلاث تُطبّع مع العدو – أسعد أبو خليل
السودان الحديثة يربطها الجيل الجديد بالطاغية العسكري، عمر البشير، الذي اشتهر بحروبه في دارفور وضد التظاهر والاحتجاج. وهو مثل سلفه، تقلّب في المواقف والتحالفات وفق مصلحة نظامه: الممانع لسنوات، ختم حياتَه متحالفاً مع طغاة الخليج، وشنّ الحروب ضدّ حركات مقاومة كان يدعمها في الماضي. لكنّ للسودان تاريخ خصب من النضال الشعبي الحرّ. الشعب السوداني قاد انتفاضة شعبيّة حقيقيّة ضدّ الفريق إبراهيم عبّود، في عام 1964، وكانت هذه الانتفاضة تجربة رائدة وفريدة في العالم العربي لإطاحة نظام مستبدّ. تميّزت هذه التجربة فرادةً في الستينيات في عصر الانقلابات العسكريّة (كانت السيطرة على الإذاعة هي مفتاح الانقلاب، ولهذا كانت مقرّات الإذاعات العربيّة مزنّرة بالدبّابات. ماذا يفعلون اليوم؟ هل يستولون على صفحة «فايسبوك» لإعلان انقلاب؟).
لم تكن الدعاية الصهيونيّة تحرص يوماً على الدقّة أو الحقيقة أو الموضوعيّة. وَسَمت الأكاذيب الحركة الصهيونيّة، قبل سنوات من تأسيس دولة الاحتلال. وليس هناك ما استقرَّ في دعاية الصهيونيّة في أميركا أكثر من أنّ إسرائيل هي «الدولة الديموقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط». طبعاً، لم يكن هذا صحيحاً يوماً: ليس فقط لأنّ النظام الصهيوني – مثله مثل النظام الأبَرثايدي في جنوب أفريقيا – ليس نظاماً ديموقراطيّاً عاديّاً لأنّه يعتمد عنصر التفريق العنصري (القائم على العرق والدين) فقط، أي إنه كان ديموقراطيّاً فقط في ما يتعلّق باليهود، وليس بباقي السكان المحليّين. ثم ما فضل نظام ما، ولو كان ديموقراطيّاً، لو هو تأسّس على أنقاض وطن متجذّر لقرون طويلة؟ وحتى في ما يتعلّق باليهود أنفسهم، فإنّ النظام الإسرائيلي السياسي كان (ولا يزال) مليئاً بالنواقص. يتّخذ النظام السياسي “الإسرائيلي”، اليوم، المزيد من السمات الإردوغانيّة حيث تتقلّص الفروقات بين السلطات، وتتزايد قدرة الحاكم على التأثير عليها. كم مرَّ على اتهام بنيامين نتنياهو بالفساد؟ كيف كان هذا النظام ليتعامل مع متهم عربي – بهذه التهم نفسها، والتي لا يرقى الشك إلى صحتها؟ النظام السياسي “الإسرائيلي” في عهد بن غوريون، مثلاً، كان نظاماً تسلّطياً وكان العرب يخضعون حتى عام 1966 تحت حكم عسكري (وهذا الحكم لم ينتهِ بعد عام 1966، بل تغيّر شكلاً).
لكنّ النظام السوداني، في الستينيّات، كان الأكثر ديموقراطيّةً بين الأنظمة العربيّة ومنها لبنان، حيث كان عدد من الزعماء الموارنة (المرتهنين للخارج الغربي) يتداولون السلطة في ما بينهم، وكانت سلطة الدولة تُستعمل جهاراً لضرب حركة الأحزاب والنقابات اليساريّة والقوميّة العربيّة والمخيّمات الفلسطينيّة. عاش السودان، في الستينيّات، مرحلة من الازدهار السياسي، حيث وُجدت مروحة نادرة ورائعة من التيارات والأحزاب السياسيّة التي تعايشت تحت سقف البرلمان والجامعات (لم يخلُ الأمر من مشاحنات واشتباكات بالأيدي والعصي، هنا وهناك، بين الإخوان والشيوعيّين). والحزب الشيوعي (بلغ عدد أعضائه وأنصاره نحو مئة ألف) أضفى على الحياة السياسيّة في السودان طابعاً حيويّاً ومتنوّعاً، وإن شابت تجربة تعميم المفاهيم الشيوعيّة في السودان مسايرة مع الثقافة الشعبيّة الدينية، إلى درجة أنّ الشيوعيّة هناك كانت مؤمنة، ولم يشكّل ذلك حرجاً عند القادة الشيوعيّين (كان هناك رجال دين في اللجنة المركزيّة للحزب). وتواضع الحزب الشيوعي في الانتفاضة ضد عبّود، ولم يحاول الاستئثار بالسلطة (وهناك جدال بشأن إذا ما كان ذلك ممكناً له آنذاك، مع أنّ نقاباته واتحاداته كانت فاعلة في إشعال الانتفاضة ومسارها).
لم يكن التطبيع السوداني ممكناً من دون مشاركة قوى «ثوريّة»، أي «قوى مدنيّة»، كما تسمّي نفسها في السودان
لا يزال السودان ماثلاً في مخيّلتي من سنوات الطفولة. وكان ذلك قبل مؤتمر الخرطوم و«لاءاته»، التي مسحت على العاصمة السودانيّة طابعاً من العزّة والأنفة بعد إذلال هزيمة 1967. كانت هناك حياة سياسيّة في السودان، وكان هناك أحزاب، فيما كانت السياسة في العالم العربي مختصرة، إما بالسلطان أو الطغمة العسكريّة. لا أحزاب في الأردن ولا أحزاب في دول الخليج، والدول التقدميّة كانت تفصّل ما تقبل به من أحزاب – هذا لو قبلتها – على مقاس مصلحة النظام. لم يكن هناك اسم يمرّ في نشرات الأخبار في تلك السنوات أكثر من اسم محمد أحمد محجوب، وزير الخارجية ورئيس الوزراء السوداني. إذا كان عبد الناصر هو الأمين العام للجماهير العربيّة ورمزٌ لتلك المرحلة من الحياة السياسيّة الخصبة والشائقة، فإنّ محمد أحمد محجوب هو وزير خارجيّتها ووسيطها. هو الذي كان يوفد من قبل عبد الناصر للتوسّط بين متخاصمين بين الأنظمة وفي داخل الدول. والدبلوماسيّة السودانية في تلك الحقبة، كانت مثل الديبلوماسية المصريّة في زمن عبد الناصر: توفّق بين السلوك الدبلوماسي المقبول من الجميع وبين الإيمان العميق بثوابت لا تتزعزع في ما كان يُسمّى القضايا العربيّة – تلك القضايا التي حوّلها طغاة الخليج إلى بضائع للبيع في السوق “الإسرائيليّة”.
تلك المرحلة من الحياة السياسيّة السودانيّة التي طغى عليها ساسة وقادة ذوو سحر خاص (الكاريزما فضيلة يزخر بها شعب السودان أكثر من غيره، على ما يظهر – وإن هي ناقصة في حكامها من النميري إلى البشير إلى الطغمة العسكريّة الحاكمة التي باعت كرامة السودان مقابل طحين إسرائيلي بقيمة 5 ملايين دولار. هذه قيمة كرامة شعب السودان عند حكام الخرطوم العسكريّين). وكان قادة الحزب الشيوعي، هم أيضاً من نوع آخر من القادة و – خلافاً للشيوعيّة المشرقيّة التي ارتهنت بالكامل للإرادة السوفياتيّة – زاوجوا بين عقيدتهم وبين الالتزام بقضيّة فلسطين والوحدة العربيّة. مَن غيرهم من الشيوعيّين العرب أرسلوا متطوّعين إلى السويس خلال العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956؟ وكان متطوّعون سودانيّون قد استبسلوا في حرب فلسطين، في عام 1948، واشتبكوا مع الجنود الصهاينة بالسلاح الأبيض في بيت دراس. لكن شابَ موقف الحزب الشيوعي «تطوُّراً» بتأثيرٍ سوفياتي وفتحاوي: كان محجوب يقول «لا مكان ل(إسرائيل) بين العرب» في عام ١٩٦٥، ثم قبل الحزب بالقرارات الدوليّة، في عام 1970 (راجع كتاب فؤاد مطر المذكور أدناه، ص. 92). لكن الحزب الشيوعي انتهى بالمجزرة التي دشّنها جعفر النميري بعد محاولة انقلاب هاشم عطا في عام 1971. وكان النميري قد وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري، في عام 1969، وقضى على الحياة الديموقراطيّة في السودان (وهذه الحياة كانت تشوبها نخبويّة وزعامات سلاليّة). المجزرة التي ارتكبها النميري ضد الشيوعيّين لم يُكتب تاريخها بعد (كتب عنها فؤاد مطر في كتابه «الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر»). ومن الأكيد أنّ الحكومة الأميركيّة تعاونت مع النميري في مطاردة وملاحظة وتطهير البلاد من الشيوعيّين، كما فعلت أميركا في حملة الحكومة الإندونيسيّة في عام 1965 – 1966 التطهيريّة ضد الشيوعيّين، والتي أودت بحياة أكثر من نصف مليون نسمة. لم تكن هناك حملة ضد الشيوعيّين في أيّ بلد في العالم لم تشارك أميركا فيها مباشرة، وبرعاية النظام المجرم الذي يقوم بها. وكانت حرب النميري ضد الشيوعيّة متوازية مع تحوّله نحو الغرب. لكن حرب النميري ضد الشيوعيّين كانت بالرغم من وحشيّتها، لحظة بطوليّة لقادة تاريخيّين. عبد الخالق محجوب رفض أن يسلّم نفسه لسفارة ألمانيا الشرقية (بعد هربه من السجن) و«الشفيع» مشى إلى المقصلة وتولّى وضع الحبل حول رقبته بنفسه، وصاح: «عاش الشعب السوداني. عاشت الطبقة العاملة».
جمع نظام النميري بين الفساد الشخصي وبين إصابة الحاكم بما سمّاه جمال عبد الناصر «نوبة الدين» (في وصفه لاستغلال الدين من قبل الملك حسين في سياساته الرجعيّة). وكان دين النميري قاسياً ومتزمّتاً وصارماً، خلافاً لما عهدته الثقافة الشعبيّة للشعب السوداني (بعد سقوط النميري، تجمّع متظاهرون سودانيّون أمام الفنادق الكبرى وهتفوا: «نريد الجعة. نريد الجعة» (بالإنكليزيّة) بعدما حرمهم النميري إياها) وكان النميري يقدّم الخدمات لدول الغرب مقابل أموال. وقد خرج نظامه عن الإجماع العربي (الرسمي الكاذب) بشأن معارضة مبادرة السادات وحافظ على العلاقة معه. ومقابل المال، فتح بلاده أمام الموساد للمساعدة في تهريب الفلاشا من إثيوبيا. وسقط النميري في انقلاب محمد سوار الذهب، وهو عسكري محافظ، ونادر، لأنّه سلّم السلطة طوعاً للمدنيّين. لكنّ الحقبة المدنيّة لم تطل، إذ إن عمر البشير قاد انقلابه في عام 1989.
ما حلّ بالسودان غير ما حلَّ بدول الخليج. طغاة الخليج منعوا الأحزاب والحركات وحظروا أو قيّدوا العمل النقابي. لم يتيحوا مجالاً لنمو «(مسرح) الفارق الذي يتدخّل بين العائلة والدولة»، بحسب وصف هيغل في «فلسفة الحق» للمجتمع المدني. أي إنّ تطويع المجتمع نحو التطبيع في دول الخليج أسهل ممّا هو عليه في مصر أو السودان (وظهر ذلك في تغيّر مواقف كتّاب وأكاديميّين من التطبيع بين يوم وآخر). القمع في دول الخليج فعّال وعريق، ويزداد صرامة مع استعانة كلّ دول الخليج بأجهزة إسرائيليّة متطوّرة لمراقبة المواطنين وقمعهم. نتكلّم عن نظام مثل الإمارات، حيث تصل عقوبة التغريد برأي يختلف عن سياسة النظام الخارجيّة، إلى خمسة عشرة سنة سجناً. وفشلُ التطبيع في مصر على مرّ العقود، يعود إلى قدرة منظّمات المجتمع المدني – حتى تلك المخترقة من قبل النظام – على تشكيل رأيٍ معارض، يعبّر عن موقف الرأي العام. والرأي العام العربي لا يزال معارضاً، وبقوّة، للتطبيع مع العدو، ولا يزال – حتى في دول الخليج – يعتبر (إسرائيل) العدو الأوّل للعرب. لكن هذه الحقيقة أزعجت نظام الإمارات المُطبِّع، فطلبت من شركة «زغبي» (التي تربطها بصاحبها جون، وشقيقه جيمس، علاقة بزنس – على – سياسة عمرها سنوات طويلة) طبخ أرقام جديدة على عجل، وإذ بالرأي العام العربي يتغيّر 180 درجة، بعد أيّام فقط من تطبيع دولة الإمارات، لأنّ القتال أنهكَ عبد الله بن زايد وإخوته.
السودان كان على مرّ الأعوام، وحتى في سنوات الطغاة، مُعبِّراً عن تعاطف قوي مع الشعب الفلسطيني. وكانت مدن السودان الأولى دائماً في التعبير الجماهيري عن التعاطف مع الشعب الفلسطيني واللبناني في الحروب (الإسرائيليّة) ضدنا. ويندر أن تجد شاعراً سودانياً لا يكرّس الكثير من قصائده لموضوع فلسطين. الفيتوري تحدّث عن فلسطين التي «وخانتها الطرابيش وخانتها العمائم» في ديوان «ويأتي العاشقون إليك»). وعبد الخالق محجوب لم يكن مثل الزعماء الشيوعيّين المشرقيّين الذين كانوا يتلقّون الأوامر بطاعة من موسكو، ومن دون سؤال. محجوب زار عبد الناصر بعد الهزيمة، وطلب منه بالتفصيل مطالبه واعتراضاته على نوع التأييد السوفياتي العسكري، كي ينقلها بلسانه إلى قادة الاتحاد السوفياتي. ولم يكن اختيار الخرطوم عاصمة للمؤتمر في عام 1967 من أجل إعلان اللاءات عرضيّاً. هل كانت تجرؤ دول الخليج مثلاً أو عمّان، أو حتى بيروت، على إعلان اللاءات منها؟ موقع اللاءات كان حصرمة في عين العدو، ولم أدرك ذلك إلا في مرحلة إقامتي الأميركيّة. لاحظتُ أنّ الدعاية الصهيونيّة كانت تكرِّر الإشارة إلى لاءات الخرطوم، لأنّها أزعجت العدو وعبّرت عن رفضٍ شعبيٍ ورسميٍ لشرعيّة الكيان. وأراد نتنياهو أن يُمعن في إذلال الشعب السوداني (والعربي)، عندما غرّدَ قبل أيّام ناطقاً باسم الشعب السوداني، قائلاً: «لكن الخرطوم تقول نعم – نعم لسلام مع “إسرائيل”، نعم للاعتراف ب”إسرائيل”، ونعم للتطبيع مع إ”سرائيل”». ولم يعد التطبيع على النسق الأردني أو المصري مناسباً بعد هذا الهجوم الغرامي الإماراتي العنيف نحو “إسرائيل”: أصبح النسق الإماراتي التحالفي هو النسق الذي ستطلبه أميركا من كلّ الدول العربيّة التي ستطبّع مع “إسرائيل”.
كان النظام السوداني، في الستينيّات، الأكثر ديموقراطيّةً بين الأنظمة العربيّة، ومنها لبنان
ما حدث كان درساً تقليديّاً في طبيعة السياسة الخارجيّة الأميركيّة. التهديد والابتزاز والعصا الغليظة. مصطلح العصا والجزرة، لا يسري لأنّ أميركا تستعمل العصا فقط وتعدكم بالجزرة. هي لا تعطي جزرة إلا للطغاة التابعين. أميركا وضعت السودان أمام خيار لا تقبل بغيره: إما أن تستمرّ العقوبات على السودان وأن يستمرّ التصنيف (العلمي؟) للسودان كدولة راعية للإرهاب (بسبب دعمها لحركات مقاومة في الماضي) أو يرضخ السودان ويطبِّع؟ لا، أميركا أيضاً فرضت على السودان أن يدفع ديّات لعائلات ضحايا تفجيرات بن لادن، عندما كان مقيماً في الخرطوم. لم يكن الشعب السوداني، ولا حتى النظام آنذاك، يعلم بما كان بن لادن ينوي فعله لكنّ الحكومة الأميركيّة أصرّت على حكومة السودان أن تضع في مصرف في الخارج مبلغ 335 مليون دولار قبل أن تقبل رضوخه. أميركا تريد مكافأة لها على تركيعها لشعب السودان، والطغمة العسكريّة الحاكمة (التي تورّط بعضها في جرائم حرب في دارفور) وافقت وكذبت على الشعب السوداني. يقول «حميدتي» (الذي كان مسؤولاً ليس فقط في مجازر دارفور، بل حتى في قمع تظاهرات الشعب السوداني في عام 2013، والتي راح ضحيّتها المئات) لـ«الشرق الأوسط» (جريدة التطبيع العربي الرسميّة) إنّه لم يكن هناك ربط بين إزالة اسم السودان عن قائمة الإرهاب وبين التطبيع؛ أي إنّ «حميدتي» لم يلاحظ أنّ الإدارة الأميركيّة التي لا تقيم اعتباراً لأمثاله من الطغاة المطيعين قالت عكس ما يقوله، وحتى الإعلام هناك تحدّث عن الربط. حتى إنّ مسؤولين سودانيّين تحدّثوا من دون الإفصاح عن أسمائهم واعترفوا بحنق لـ«نيويورك تايمز» بضغوطات صعبة تعرّضوا لها. لم تكن الضغوطات سرّاً من الأسرار. أميركا مستعدّة لأن تجوِّع الشعوب لتطوّع إرادتها. عندما صوّت مندوب اليمن في مجلس الأمن في عام 1990 بعد اجتياح الكويت، نظر إليه المندوب الأميركي، وقال له مهدّداً: هذا أغلى اقتراع لكم وسيكلّفكم. وبالفعل، عاقبت الحكومة الأميركيّة البلد الفقير بحجب مساعدات عنه. حتى حكومة الأردن المتحالفة مع الصهيونيّة عوقبت بسبب موقف الملك حسين من اجتياح الكويت (ثم جال الحسين ذليلاً على المسؤولين الأميركيّين و”الإسرائيليين” في ما بعد، طالباً الصفح والمغفرة منهم).
يقول حازم صاغيّة (الذي انتقل أخيراً من صحيفة الأمير المتنوِّر خالد بن سلطان، «الحياة»، إلى صحيفة الأمير المتنوّر محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط» – أي إنه متمرّس في صحافة المهنيّة العربيّة والتنوير)، إنّ الفيصل في قرار السودان لا ينبغي أن يرتبط بفلسطين، بل بمصلحة السودان؛ أي إنّه أفتى أنّ دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بَنَيا قرارهما في تطبيع السودان على مصلحة الشعب السوداني. والوعود بالازدهار والبحبوحة كانت وفيرة، عندما زار السادات القدس، وقد أغدق الوعود (بالنيابة عن أميركا التي رعته وحَمَته) على الشعب المصري، وكرّر أنّ الخير سيعمّ مصر بسبب السلام، ومثله فعل الملك حسين والحكومة الأميركيّة بعد وادي عربة. والبلدان فقيران محتاجان يعتاشان على المساعدات الخارجيّة والديون. ويبلغ دين السودان الخارجي أكثر من 60 ميليار دولار، وقد وعد ترامب بتسديد 100 مليون دولار منها، أي 0،1 في المئة من الدين الخارجي. المساعدات الأميركيّة ستفيد فقط حكم العسكر، وهذا ما قاله عبد الفتاح البرهان بصراحة، إنّ التطبيع سيفيد تعزيز القدرات العسكريّة للجيش. سيجد الشعب السوداني أنّ النار التي ستحرقه لو اعترضَ على حكم العسكر ستكون أكثر فتكاً من نيران عمر البشير. وبعد إعلان التطبيع، زادت أسعار المحروقات بنسبة 400٪؛ هذه من ثمار التطبيع.
لم يكن التطبيع السوداني ممكناً من دون مشاركة قوى «ثوريّة»، أي «قوى مدنيّة»، كما تسمّي نفسها في السودان. هذه القوى باتت في كلّ الدوَل العربيّة الطابور الخامس في كلّ الانتفاضات الشعبيّة، والمعطِّل الحقيقي للتغيير في كلّ الدول العربيّة. هؤلاء حصان طروادة لأعداء الشعوب، ويبدو أنّ النظام السعودي والإماراتي يعملان معهم بتنسيق كلّي (كما جرى مع «تمرّد» في مصر). عارض حزب الأمّة التطبيع (وإن بكلام مائع)، فقام النظام التطبيعي بشقّه وخلق حركة تعمل باسمه وتنادي بالتطبيع. والحزب الشيوعي السوداني هادَن قبل أن يقرّر أخيراً أن يشنّ حملة قاطعة ضدّ التطبيع. وهناك من يعارض التطبيع لأسباب تقنيّة محض، عبر الحديث عن ضرورة عرض التطبيع على مجلس منتخب (مثل الصادق المهدي).
هناك حملة تطبيع عاتية، لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً من قبل. هناك ممثّلون لأكثر من 12 شركة تكنولوجيّة في الإمارات، اليوم، والحاخام الطبيب الأميركي الصهيوني إيلي عبادي (الذي يصف اليهود الذين يطالبون بالدولتيْن باللا ساميّين) سيصل إلى دبي رئيساً للجالية اليهوديّة في الإمارات. وجريدة «النهار» نشرت عنه مقالة تزهو بأصله اللبناني، من دون الإشارة إلى وجوده الدائم في تظاهرة «الزهو بإسرائيل» في نيويورك، والتي رفض ضم جمعيّات يهوديّة غير متطرّفة إليها. (وعبادي يقول إن كليّة الطب في الجامعة الأميركيّة تدعوه دائماً إلى المحاضرة فيها لكنّه لا يأمن لسلامته في لبنان). التطبيع ينتشر ويتعمّق، والوفد اللبناني في مفاوضات الناقورة يصف لقاءه مع وفد الجيش الذي يحتلّ أرضه ويخرق سيادته يوميّاً بـ«الإيجابي». واللقاء الأخير جرى على مأدبة غداء، لعلّها ضمّت الأطباق نفسها التي كانت سولانج الجميّل تعدّها بيدَيْها لأرييل شارون. هذا تطبيع أيضاً ــــ وتطبيع صفيق. لكنّ «الدنيا دولاب»، كما غنّت صباح، والجو التطبيعي الذي ساد لبنان عام 1983، انقلب في غضون سنة. لكنّ ذلك يحتاج إلى القوة. وكما أنّ أميركا تفرض التطبيع بالقوّة، فإنّ رفض التطبيع لا يكون إلا بالقوّة.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
الاخبار اللبنانية