عبد الرحيم محمود الكلمة والفعل .. والشهادة
رشاد أبوشاور
في شهر تموز رحل ثلاثة كبار ممن أنجبهم شعبنا..شهداء، وسيحفظ ذكرهم أبد الدهر مع كباره : الشاعر عبد الرحيم محمود، الروائي والقاص والإعلامي غسان كنفاني، الفنان ناجي العلي…
في كل تموز نستذكره كل واحد منهم، ونكتب عنه قليلاً أو كثيرا، ولكن، ومع مضي الزمن يبدو أننا بحاجة للتذكير بعطائه لترسيخه علامات على طريق مقاومة شعبنا ..وعودته، فالأجيال الطالعة مشتتة في أماكن متباعدة، وما عادت أعمال هؤلاء الكبار – وغيرهم من كبار شعبنا – تُدرّس، أو تتوفّر لمن يرغب في الإطلاع عليها.
قبل أيام قلية مرّت ذكرى اغتيال الكبير غسان كنفاني بتاريخ 8 تموز 1972 فأقيمت ندوة حول الرواية العربية باسمه في رام الله، وكتبت عنه بعض الصحف الفلسطينية كتابات سريعة، وأشارت للذكرى بعض الفضائيات، وشخصيا لبيت دعوة للمشاركة عبر السكايب مع ( بوابة الهدف) في غزة بالاشتراك مع أخوة رائعين يعيشون في غزّة المحاصرة بفنهم وكتاباتهم…
بكلمات قليلة متواضعة أود أن أُذكّر بالشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود، الذي أصفه بالرائي انطلاقا من رؤيته لما حاق بفلسطين مبكرا، ولما خفي من مؤامرة بريطانيا مع الصهيونية العالمية، ولتقاعس الأنظمة العربية وتواطؤها، ولرفضه التقسيم ففلسطين لا تقبل القسمة بين أهلها ( العرب) والغزاة الصهاينة بالتآمر البريطاني الذي تجلّى في وعد بلفور وافتضح بعد احتلال فلسطين وتعيين اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل مندوبا ساميا على فلسطين، وهو ما سهل تسريب ألوف اليهود إلى فلسطين، ومكّن من فرض الضرائب الهائلة المجحفة على الفلاحين الفلسطينيين…
عبد الرحيم محمود بسيرة حياته القصيرة التي بلغت خمسة وثلاثين عاما، والذي استشهد يوم 13 تموز..ترك إرثا شعريا غنيا، البطولة والشهادة عنوانه، وقرن الكلمة بالفعل برهان مصداقيته.
تتلمذ على يد إبراهيم طوقان في كلية النجاح بنابلس، وفي الانتماء الوطني على والده المناضل والشاعر، ثم ترافق مع إبراهيم طوقان في الغربة القسرية في العراق.
اشتهر عبد الرحيم محمود بقصيدته التي مطلعها:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق
وإمّا ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
هذه القصيدة اشتهرت كثيرا وأنشدها أكثر من فنّان في بلاد العرب، ولا يغيب عن سمعي صوت الفنان اللبناني إيليّا بيضا وصوته ينطلق نافذا إلى أفاق بعيدة، كأنما يمزّق الحدود بين بلاد العرب، مناديا عليهم، مفعما بالكبرياء، غير هيّاب من الموت، حّاضا على الشهادة دفاعا عن حرية الوطن –فلسطين، وكل وطن عربي منتهك من قوى الاستعمار.
نشر الكثير من شعره في صحف تقدمية واقترب من يساريي فلسطين، بخاصة ( عصبة التحرر الوطني)، ولكنه اختلف معهم عندما رحبوا بقرار التقسيم…
تدرب عبد الرحيم محمود في العراق، وتخرّج برتبة ضابط، وانحاز لثورة رشيد عالي الكيلاني، وبعد فشل تلك الثورة زج به في السجن، ثم رُحّل إلى فلسطين.
عندما بدأت المعارك في فلسطين توجه إلى سورية، وانتمى لجيش الإنقاذ برتبة ضابط، ودخل إلى فلسطين، وخاض عديد المعارك…
عبد الرحيم محمود، الشاعر المثقف الثوري الميداني، انخرط في معمقان المعارك التي خاضها عرب فلسطين، وازدرى أصحاب خيار الكلام في التصدي لبريطانيا والغزو الصهيوني:
فشل الذي تخذ الكلام مجنة تحمي وخاب
الحق ليس براجع لذويه إلاّ بالحراب
من عاش ما بين الوحوش يكن له ظفر وناب
إن لم تكن ذئبا تُخاف فرتك أنياب الذئاب
عبد الرحيم محمود شاعر ومثقف (عضوي) بدون تنظير، بالممارسة والكلمة والسلوك، وهو ترك شعرا غنيا عميق الوطنية والإنسانية…
نحن لا نسبغ عليه صفات من عندياتنا، فهو رأى النكبة آتية بسبب بؤس الزعامات في فلسطين، واستخذاء الحكّام وتبعيتهم في الوطن العربي.
عندما زار ولي عهد السعودية سعود بن عبد العزيز فلسطين عام 1935 خاطبه وجها لوجه بقصيدة جاء فيها:
المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه؟!
يستحق هذا الشاعر الفّذ أن نحتفي به، وأن تقرأه الأجيال الفلسطينية، والعربية، الطالعة، لتتعلم من حياته..وليتعلم من حياته شعراء وكتاب ومثقفو الأمة الذين يكتفون- وفي المقدمة الفلسطينيون – ( بقول) كلماتهم و..مواصلة حياتهم العادية البليدة الكسولة..والجبانة!
رحم الله أبا الطيب، الذي اكتنز شعره بالكبرياء، وبروح الفداء..وبعظمة الشهادة التي تحنّى دمه بها وهو يواجه العصابات الصهيونية بسلاحه في معركة قرية الشجرة، مسقط رأس ناجي العلي تلميذه الغاضب الشجاع الفنان الثوري الذي سار على دربه ، واستشهد مثله…
قل لا وأتبعها الفعال ولا تخف
وانظر هنالك كيف تحنى الهام
إصهر بنارك غلّ قيدك ينصهر
فعلى الجماجم تُركز الأعلام
كلماتي المتواضعة هذه لا تعدو أن تكون تحيّة لشاعر فلسطين المقاوم الثائر الشهيد الرائي عبد الرحيم محمود…
عبد الرحيم محمود
الكلمة والفعل .. والشهادة