عدم شرعية وعد بلفور- د.غازي حسين
للأجيال القادمة كي لا تنسى
ظهر تقرير كامبل نبرمان حول الإستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط عام 1907 و جاء فيه : ” إن البحــــــر الأبيض المتوسط شريان حيوي لمصالح بريطانيا الآنية و المقبلة 000 وكل حماية ناجحة للمصالح الأوربية المشتركة لا بد لها من السيطرة عليه و على شطآنه الجنوبية و الشرقية , وكل من يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على العالم . وان الخطر في هذه المنطقة يكمن في تحريرها و تثقيف شعوبها و تطوير و توحيد اتجاهاتها , و على الـــــــدول ذات المصلحة أن تعمل على استمرار تأخرها و تجزأتها وإبقاء شعوبها متفككة جاهلة متناحرة وعلى محاربة اتحاد هـــذه الجماهير , وإيجاد الوسائل العملية لفصلها عن بعضها البعض ما أمكن .ويجب إقامة حاجز بشري قوي مانع غريب لفصل البلدان العربية الآسيوية عن البلدان العربية و الإفريقية و ذلك بشكل قوة صديقة لبريطانيا و عدوة لشعوبها .” (1)
و طالب التقرير بضرورة إقامة “إسرائيل” في فلسطين .
و عندما جرت المباحثات بين فرنسا و بريطانيا و روسيا القيصرية عام 1916 لاقتسام مناطق النفوذ لم تتوصل هذه الدول في اتفاقية سايكس- بيكو إلى اتفاق حول مصير فلسطين لان كل دولة من هذه الدول كانت تطمع بالاستيلاء عليها , لذلك نصت الاتفاقية على وضع فلسطين تحت الوصاية الدولية .
أخذت بريطانيا بكل ما لديها من أساليب للسيطرة على فلسطين , فوجدت في الحركة الصهيونية ضالتها المنشودة , كما رأت الحركة الصهيونية بدورها في بريطانيا البلد الوحيد في ذلك الوقت الذي بمقدوره أن يساعد الحركة الصهيونية بعد فشل مساعيها لدى تركيا و ألمانيا و روسيا و فرنسا و بإقامة “إسرائيل” في فلسطين العربية .
و جرى الاتفاق بين دحاييم وايزمان زعيم الحركة الصهيونية و المسؤولين البريطانيين على أن تتعهد بريطانيا بمنح فلسطين لليهود مقابل أن تعمل الحركة الصهيونية على فرض الانتداب البريطاني على فلسطين . و تعهد وايزمان بتجنيد ما لدى الصهيونية من نفوذ سياسي و اقتصادي لفرض الانتداب البريطاني على فلسطين .
و عندما تولى لويد جورج رئاسة الوزراء تحمّس لوضع فلسطين تحت السيطرة البريطانية و ذلك للمحافظة على المصالح البريطانية في الشرق الأوسط وبشكل خاص قناة السويس و تامين مواصلات بريطانيا بالهند و جنوب غرب آسيا , ولان تأسيس الدولة اليهودية سيحول دون تحقيق الوحدة العربية التي تهدد مصالح الاستعمار البريطاني في المنطقة .
وهكذا تلاحمت مصالح الاستعمار البريطاني والصهيونية وتم تجسيد هذا التلاحم في وعد بلفور الاستعماري وغير القانوني.
سلم الصهيوني و ايزمان بتاريخ 18 آب 1917 مسودة الوعد إلى بلفور وزير الخارجية البريطاني ليعرضها على مجلس الوزراء و جاء فيها :
” 1- تقبل حكومة صاحب الجلالة المبدأ القائل بوجوب إعادة قيام فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي.
2- ستنسق جهودها لتحقيق هذه الغاية مع المنظمة الصهيونية العالمية ” . (2)
وعرض بلفور صيغة الوعد عدة مرات على مجلس الوزراء إلى أن وافق عليها المجلس في التاسع من تشرين الأول عام 1917و اعترفت بريطانيا رسميا في الوعد بتاريخ الثاني من تشرين الثاني بشكل رسالة ووجهها بلفور إلى المليونير اليهودي روتشيلد .وجاء في هذه الرسالة ما يلي :” إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف على تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين , على أن يفهم جلياً انه لن يؤتى بعمل من شانه أن ينتقص من الحقوق المدنية و الدينية التي يتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ” . (3)
إن هذه الرسالة التي وجهها بلفور إلى المليونير روتشيلد لا تعتبر في نظر القانون الدولي تصريحا أو معاهدة دولية لأنها وحيدة الطرف و لا قيمة حقوقية لها .
فالقانون الدولي يعّرف التصريح بأنه يصدر عن دولتين او أكثر تحددان به موقفهما من قضايا سياسية او اقتصادية او حقوقية معينة ووجهات النظر في هذه القضايا .
ووعد بلفور لم يكن اتفاقا بين دولتين و إنما عبارة عن تصريح وحيد الطرف أعطي لشخص ليست له صفة دولية0
و التصريح لم يوقع عليه شخصيتان حقوقيتان دوليتان و لم يوقع عليه رسميون من جانب تلك الشخصيتين الحقوقيتين فاللورد روتشيلد شخص عادي ليس له صفة حقوقية دولية .
و أما فحوى رسالة بلفور فهو مخالف لأبسط مبادئ القانون الدولي و حتى الوعود الرسمية التي وعدتها بريطانيا للعرب كما إن فلسطين ليست بأرض بريطانية و سكانها ليسوا برعايا بريطانيين فلا يحق لبريطانيا ان تنتزع فلسطين من أكثرية سكانها الساحقة لتعطيها لأقلية مستوردة من خارج البلاد .
و خلال انعقاد مؤتمر السلام عام 1919 في باريس طالبت الحركة الصهيونية بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني كي يتم تحقيق وعد بلفور وقد مت مشروعا لنظام الانتداب في فلسطين .
وأعلنت عصبة الأمم صك الانتداب على فلسطين بتاريخ 6 تموز 1921 , و صودق عليه في 24 تموز عام 1922 , ووضع موضع التنفيذ في 29 أيلول من نفس العام 0وجاء في نص المادة الثانية من صك الانتداب ما يلي :
” تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية و إدارية و اقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقا لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك , وتكون مسؤولة أيضا عن صيانة الحقوق المدنية و الدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس و الدين ” .(4)
وهكذا استطاع الاستعمار و الصهيونية تجسيد أهدافهما في وعد بلفور و نظام الانتداب الذي تضمن تنفيذ هذا الوعد.
إن نظام الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى كان وسيلة من وسائل الاستعمار لإعادة توزيع المستعمرات و مناطق النفوذ التي كانت خاضعة تحت السيطرتين التركية و الألمانية و كانت عصبة الأمم أداة في يد الدول الاستعمارية لخدمة مصالح هذه الدول .
و عينت بريطانيا الصهيوني صموئيل كأول مندوب سامي على فلسطين لكي يعمل على خلق أجواء لتنفيذ وعد بلفور و إقامة الدولة اليهودية .
وخلال فترة الانتداب عملت بريطانيا على جعل الوكالة اليهودية حكومة داخل حكومة وفتحت أبواب فلسطين للهجرة اليهودية وشجعت الصهاينة على الاستيلاء على الأراضي العربية وسمحت للوكالة اليهودية بإنشاء قوات مسلحة كعصابة الهاتماناة شيرن و الارفون .
وكانت قوات الانتداب البريطاني تقمع انتفاضات الشعب العربي الفلسطيني بمنتهى الوحشية .
و بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية خرجت بريطانيا من الحرب اضعف مما كانت عليه بعكس الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت أقوى مما كانت عليه و لاحظت الحركة الصهيونية مركز بريطانيا الآخذ في التدهور فتوجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية و ارتمت في أحضان الاستعمار الأمريكي و حولت مركزها من لندن إلى واشنطن و استغل الاستعمار الأمريكي هذا التحول و اخذ يتدخل في القضية الفلسطينية لصالح الحركة الصهيونية العالمية و صالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط
وأخذت الولايات المتحدة تزيد من اهتمامها بالشرق الأوسط لوجود كميات هائلة من النفط ولموقعه الاستراتيجي الهام و اخذ النفوذ الأمريكي يزداد في المنطقة بينما أصبحت فرنسا و بريطانيا عاجزتين عن المحافظة على مصالحهما الاقتصادية و الإستراتيجية في المنطقة .
انطلق وعد بلفور الاستعماري , ونظام الانتداب البريطاني , الذي كان شكلا جديدا من أشكال الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى من الأطماع. و الخرافات و الأكاذيب التي رسخها كتبة التوراة و التلمود لإقامة دولة اليهود في فلسطين العربية , لخدمة مصالح الاستعمار البريطاني و الصهيونية العالمية و عرقلة الوحدة العربية و معاداة العروبة و الإسلام .
وتستند الأمة العربية في موقفها من عروبة فلسطين إلى الأسباب التالية :
-
الحق التاريخي للعرب منذ بدء التاريخ و حتى اليوم فالعرب سكان فلسطين الأصليون و أصحابها الشرعيون.
-
بطلان وعد بلفور و نظام الانتداب البريطاني .
-
عدم شرعية تقسيم فلسطين .
-
حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير , وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم و استعادة أرضهم و ممتلكاتهم انطلاقا من مبادئ القانون الدولي و العهود و المواثيق و القرارات الدولية , وأسوة في التعامل الدولي .
بنَت الأمة رفضها للتقسيم لاعتبارات تاريخية و قانونية و اقتصادية و جغرافية و قومية , لأنه جاء نتيجة تخطيط و تنسيق و تعاون استعماري – صهيوني موجه ضد العرب لتقويض عروبة فلسطين , وإنشاء دولة لليهود غريبة عن المنطقة , دخيلة عليها و معادية لشعوبها و صديقة للدول الاستعمارية .
وتصر الأمة على أن فلسطين ارض عربية , وان وعد بلفور و نظام الانتداب باطلان , لان فلسطين ليست بأرض بريطانية كي تمنحها بريطانيا إلى اليهود الغرباء عنها و الدخلاء عليها .
المصادر
-
انظر: وثائق فلسطين، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية 1987، ص 81 نقلاً عن: منشورات المؤتمر السادس للثقافة العمالية في الوطن العربي وطرابلس 1983، الصراع العربي الصهيوني، د.غازي حسين، ص7.
-
ليونادر شتاين”وعد بلفور” بالانكليزية نقلاً عن وثائق فلسطين، دائر الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية 1987، ص 83.
-
وثائق فلسطين، مصدر سابق ص 84.
-
وثائق فلسطين، مصدر سابق ص 106.