عرس طارق الفلسطيني وبولا البولندية – نضال حمد
“الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة” أغنية جميلة أنشدها الفنان الكبير الراحل سيد مكاوي وهي ذات شهرة عربية واسعة… تذكرتها ليلة عرس أو فرح طارق وبولا في بلدة لانسكرونا الجبلية البولندية، البلدة الهادئة والوديعة والخضراء والجميلة. التي تحيط بها الوديان والسهول والجبال والهضاب والغابات من كل صوب وحدب. هناك أقيم حفل الزفاف بحضور الأهل والأقارب والأصدقاء والصديقات والمقربون جداً وكذلك المقربات من العروسين.
منذ فترة طويلة والعروسان طارق وبولا كانا يحضران أنفسهما لليلة الفرح، للزفاف الموعود و الليلة الكبيرة والناس الكثيرة… حيث شهدنا وشاركنا باستحضار بعض من الذكريات وأعراس البلاد.. فسمعناها مع موسيقى العازف السوري وسيم، ابن الجولان السوري العربي المحتل. وسيم دندن وقسم على العود وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية، التي شاهدت مثيلتها فيما بعد على رأس وحول عنق تمثال الزعيم البولندي يوسف بيسودسكي في صالة الفرح وكان العلم الفلسطيني معلقاً فوق رأسه.
في فرح طارق وبولا شاهدت بعيني حضوراً عالمياً منوعاً يدل على علاقات الزوجين الشابين، المتشعبة والواسعة والأممية. فبولا بولندية من مدينة كلوشبورغ وتعيش وتعمل في كراكوف، وقسم كبير من عائلتها يعيشون منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في بريطانيا.
شاهدت في الحفل شباب وصبايا من البرتغال وفرنسا وبريطانيا وبلغاريا وألمانيا وايرلندا وهولندا وطبعاً الأكثرية من بولندا بلد العروس… ومنهم من حضروا ومعهم أطفالهم. كانوا فرحين سعداء ورقصوا وغنوا وثمل بعضهم حتى بلغوا الفجر والبسمات تعلو وجوههم، فيما قهقهاتهم كانت تصل إلى مسامعي عند الفجر في غرفتي بالفندق بالقريب. فأنا ووالد طارق غادرنا فيلا تادئوش حيث حفل الزفاف والرقص والغناء بعد منتصف الليل بقليل.
عند عودتي إلى كراكوف أوصلت ثلاثة من الضيوف الهولنديين إلى مدينة الملوك والتراث والتاريخ في مقاطعة بولندا الصغرى، ثم أنزلتهم في حارة اليهود بالقرب من منزل طارق وبولا. على الطريق تحدثنا طول المسافة عن فلسطين والاحتلال. كانوا على دراية بقضية فلسطين. الفتاة التي لم أسالها عن بلدها أو جنسيتها بادرتني بالسؤال إن كنت أتقن اللغة الروسية. والحقيقة انني لا أتكلم الروسية فتكلمنا طوال الطريق بالانكليزية. عبرنا الغابات والسهول والقرى والتقينا بثعلب جميل كان يقف على جانب الطريق، وبالقرب من أحد المنازل، ربما خرج من الغابة المجاورة بحثاً عن طعامه.
أولائك وهؤلاء كلهم-ن من أصدقاء وصديقات العروسان المقربين والمقربات. لذا كانت أجواء الفرح عالمية والحديث دار بلغات مختلفة وإن طغت عليه اللغات البولندية والعربية والانجليزية، بسبب وفرة المتحدثين بها. سمعنا طوال السهرة نكاتاً وأحاديث مضحكة ومسلية فكل واحد من الحاضرين أدلى بدلوه وبما لديه من كلام. وخلال الرقص بدى البعض مثل المهرجون والمهرجات والراقصون والراقصات، استعراضيون واستعراضيات ومضحكون ومضحكات وغير مبالين ومباليات بالصاحين القليلين من المشاركين والمشاركات.
من أجمل لقطات الضيوف كان وصول الشاب الفلسطيني ياسر جمعة وهو من مخيم برج الشمالي في لبنان، وللعلم فقد ولد بعد حصار بيروت الشهير نهاية سنة 1982، وهو بالمناسبة نجل صديقي ورفيقي المناضل الوطني الكبير أبو جمعة. وصل ياسر مع زوجته البولندية مونيكا وهي تحمل العلم الفلسطيني وقد أظهرته من شباك السيارة، فرفرف عالياً في شوارع البلدة الجبلية. بلا شك لاحظه ورآه كل من كان في ساحة البلدة وكنيستها وحديقتها الرئيسية وعلى طرقاتها وشوارعها… كما انه رفرف عند كاتدرائية لانسكرونا وفي أهم معالمها السياحية والتاريخية “فيلا تاديئوش” حيث جرت مراسم حفل الزفاف من العصر حتى الفجر.
مقابل كل ذلك فكرت أنا أيضا بالعلم والكوفية والرموز الفلسطينية التي أحضرتها معي في سيارتي خصيصاً حيث جلست مع الضيوف مرتدياً الشال الفلسطيني. على كل حال صدقوني كل هذا لا شيء أمام ما أبتكره العروسان من مفاجآت فقد أحضرت عائلة طارق من طولكرم ورام الله وأريحا زيت زيتون وتمر (ريحاوي) وأوراق زيتون أصلية من شجر الزيتون الفلسطيني بناء على طلب طارق. حين جلسنا على الموائد في صالة العرس كان أمام كل واحد منا علبة كرتونية صغيرة فيها حبتا تمر ومكتوب على العلبة اسم الضيف. كما سلمونا شعاراً علقناه على قمصاننا، مصنوع من ورق أشجار زيتون طولكرم حيث أهل ودار جد طارق جراد. أما أم المفاجآت الأجمل فقد كانت صباح اليوم التالي إذ عند قيامنا بتسليم مفاتيح غرفنا وخروجنا من الفندق، كانت تنتظر كل واحد منا زجاجة صغيرة فيها زيت زيتون فلسطيني من طولكرم، صافي وفيه لمعة شمس البلاد ولسعة زيتها المعتادة… هدية تذكارية من العروسين.
طبعاً خلال الحفل كانت هناك الأغاني الوطنية والتراثية الفلسطينية وحضرت الدبكة الشعبية مع أهل طارق ووالده وزوجته السيدة رانيا وكذلك مع أحمد شقيقه ومع شقيقتهما القادمة من دبي. كذلك مع شاب سوري بلغاري على بريطاني ومع العزيز الفلسطيني المخيمجي ياسر جمعة… أنا من بعيد كنت أدبك على الواقف وأقوم بالتصوير وهي هوايتي المحببة. هذا وشارك البولنديون والأوروبيون وشاركن الفتيات البولنديات والأجنبيات بالدبكة وبالرقص كل على هواه وحسب انبساطه. يجب أن لا ننسى ذكر الأغنيات الشعبية البولندية وأغاني الأعراس والأفراح فهي أيضاً ممتعة وترقص الصبايا والشباب من المساء حتى الصباح…
أحد أكبر أصدقاء طارق المقربين وهو شاب ايرلندي نسيت الآن اسمه قال لي تعال “شاركنا الدبكة”. قلت له لا أستطيع. قال فهمت، فهمت، وأنا فهمته فوراً لأانه قال كلامه عندما لاحظ عكازتي، التي رآها نهاراً لكنه نسيها بعد مرور ساعات على بدء الفرح … سألني ما أسمك؟ قلت له نضال.. ضحك وهتف في أذني أعرفك جيداً فقد سمعت عنك الكثير من طارق.. قلت له والحقيقة أنني أنا أيضاً سمعت كثيراً عنك أيها الايرلندي من نفس المصدر… وأضفت أنتم في ايرلندا تحبون فلسطين وتتفهمون قضيتنا وتعرفون من هو سبب نكبتنا ومأساتنا ومأساتكم.
طارق نايف جراد من أب فلسطيني من طولكرم وأم بلغارية من صوفيا كانت حاضرة في الفرح وجلست على مقربة من مكان جلوسي.. عاش طارق حياته متنقلاً بين فلسطين وبلغاريا ثم في البرتغال وهولندا وبولندا. شاب مجتهد وناجح ومثقف ووطني وملتزم ويحب وطنه فلسطين. تعرفت عليه صدفة أو بالأحرى هو عرفني على نفسه قبل سنوات. حضر ندوة سياسية عن فلسطين ومعرضاً للصور عن النكبة كنت أقيمه أنا والفنانة البولندية دومينيكا روجانسكا، وهي صديقة شعب فلسطين أما أنا يومها فقد جئت خصيصاً من أوسلو إلى كراكوف لهذا الغرض… حضر طارق يومها هو وبولا. لم نتعارف خلال الندوة في “دوم بولونيا” لأنه يومها لم يتحدث معي، ربما لأن الوقت لم يسمح له ولي بذلك، وكذلك بسبب الحضور الكبير وانشغالي مع الجميع. لكنه عاد وألتقى بي صدفة في أحد الشوارع بعد شهور من الندوة. يومها عرفني على نفسه ومن يومها أصبحنا صديقين بالرغم من فارق السن الكبير بيننا فهو من جيل نجلي البكر يعقوب وأنا أصغر من والده قليلاً.
جلسنا أنا وأبي معروف جراد وزوجته على مقعد في الحديقة وكانت أمامنا تنتصب الخيمة المضاءة والمنيرة بلمبات من ألوان عديدة. تلك الخيمة التي رقص بها الضيوف على أهازيج موسيقى البلاد الكنعانية العربية الفلسطينية وعلى موسيقى وأغاني بلاد البولون. كنا نتحدث مع الضيوف بكل الموضوعات ونطلق النكات فتعلو الضحكات والقهقهات حتى في بعض الأحيان كانت أعلى من صوت الموسيقى.
مع مرور الوقت وبعد ذلك تعرفت على والده الكترونيا وعبر الفيسبوك وغدونا صديقين افتراضيين. لكنني في يوم فرح طارق التقيت به وجهاً لوجه وجلسنا معاً على الطاولة رقم 5 حيث تحدثنا طويلاً لنكتشف أن هناك اصدقاؤنا المشتركون بالجملة، خاصة جماعة الدراسة في بلغاريا زمن الاشتراكية. منهم أخي جمال -أبو محمد- والدكتور طلال أبو جاموس والدكتور بسام العصفور والرفيق نجيب الحلبي والدكتور عارف حمو والرفيق الجميل تحفون تونس الفلسطيني علي أبو رفيق، والجميل أخي وصديقي ورفيقي الأستاذ الناجح بلال قشوع، الذي يعيش مع زوجته وابنته في مدينة ميشلينتسه الجبلية البولندية.
لم يسعفني الوقت للقيام بواجب الضيافة ودعوة الأخ نايف جراد -أبو معروف- والد العريس طارق وعائلته على فنجان قهوة أو مأدبة غذاء، ببساطة كان وقتهم ضيقاً جداً. فهم لم يحصلوا على تأشيرة دخول إلى بولندا سوى لخمسة أيام فقط، طار يومان ونصف منها في المطارات وعلى الطريق من فلسطين المحتلة إلى بولندا. يبدو أن دائرة منح التأشيرات في بولندا ليست كريمة أبداً مع العرب والفلسطينيين بعكس الشعب البولندي المضياف والكريم مع ضيوفه.
مبارك فرح طارق وبولا…
نضال حمد
24-8-2023