عروبتنا ملاذنا – عبد اللطيف مهنا
طيلة القرنين الأخيرين ونيِّف وإلى ماشاء الله، ظل وسوف يظل استهداف رئيس متصدراً لقائمة الأولويات في المشروع الإستعماري الغربي المعادي للأمة العربية، بنسختيه القديمة والمحدثة ومعهما المستقبلية. إنه المتمثل في محاولات تعددت اشكالها ولم ولن تتوقف لضرب عروبة العرب، باعتبارها هويتهم القومية والحضارية والثقافية والقيمية الواحدة، أي الجامعة المانعة لكتلة تاريخية ممتدة وتترامى خريطتها الجغرافية من محيطها إلى خليجها…ولكونها هى وحدها، ووحدها لاغير، تشكِّل الوشيجة الضامنة، والعروة الوثقى، لتماسك عرى نسيجها الثقافي والحضاري الثري، والاجتماعي الحافل بالتعدد والزاخر بالغنى والتنوُّع.
ما ينطبق على هذا المشروع، لجهة هذه الأولوية، يمكن سحبه تلقائياً على آخر من نسله هو المشروع الصهيوني في بلادنا، باعتبا هذا الآخير ملحقاً للأول وتفصيلاً وظيفياً من تفاصيله وامتداداً عضوياً له. لأن تحقيق مثل هذه الأولوية هو شرط اجباري، إلى جانب كونه السبيل الأنجع والأسهل، لكل ما ترومه مخططات هذا المشروع وملحقه لكتلة هذه الأمة من تفتيت وتمزيق وبعثرة، وكل مامن شأنه أن يسهِّل سبل اخضاعها ويقلل من كلفة فرض الهيمنة عليها واستدامتها، إلحاقاً واستتباعاً واستلابا. الأمر الذي إن كان، فسيعني بدوره وتلقائياً تثبيت الكيان الصهيوني المفتعل، بما يعنيه وجوده في القلب من بلاد العرب من دور ووظيفة في خدمة المشروع الأصل، ثم أن هذا التثبيت بدوره أيضاً يعني استدامة لتفتيت المفتت وتمزيق الممزق وشرذمة المشرذم منها، إذ يجب أن لاننسى أن زرع هذا الكيان في البقعة الفلسطينية من هذه البلاد هَدَف أصلاً للفصل الجغرافي بين جناحي الأمة مشرقاً ومغرباً.
نحن هنا لانأتي بما هو أكثر من مجرَّد تذكير بما هو في حكم المُسلَّمة، التي هى في رأينا لاتقبل نقاشاً ولا تعوزها برهنةً، لأنها واحدة من استخلاصات ما واجهته هذه الأمة على امتداد تاريخها المعاصر، وصولاً إلى واقع راهنها الأسوأ في تاريخها، والذي إن هو لايسُّر صديقاً فما من مثله سار لإعدائها. وهو تذكير، ومن أسف، على الرغم من بداهته، نجد أنفسنا الآن أكثر من أي مرحلة سابقة في أمسِّ الحاجة الى التذكير به، إذ تتناهشنا الآن مخططات التفتيت ودواهي التطييف ورياح التشويه، ويراد أن تصول وتجول في ربوعنا النازفة عواتي فتن لاتبقي ولاتذر…فتن تجد أمة بكاملها نفسها الآن محشورة بين مباغت مطرقتها وسندان استبداد مقيم.
وإذ لامن أمة بلا أولويات، ولا أولويات لاتكون أولاها اللوذ بالهوية الواحدة، فإنه بات لا من منجاة لأمتنا الجريحة، في مثل هذه المرحلة العصيبة، وهذا الواقع المريع الذي تمر به، إلا لجوءها إلى عروبتها، باعتبارها خيار ضروره وحبل نجاة، قلنا أنفا ونكرر، إنها وحدها تظل الجامع المانع، والبوتقة الحاضنة لمختلف ما يعتمل في كتلتها من هويات صغرى هى من تفاصيلها العاكسة لسمات من تعدد ثقافي واجتماعي هو مصدر غنى امتلكته حريٌّ بالتفاخر. إذ أن البديل لذلك، إن هو لم يكن الزوال، فهو ما ارادوه لنا من التبعثر والشرذمة وتوطُّن الفتن، وبالتالي تمكُّنهم من استحضار مسميات واختلاق مكوِّنات من كهوف التاريخ يضيفونها إلى ما ابتلينا به، ومنذ أن رحل الاستعمار القديم وحل محلة الجديد، من شائه القطريات المانعة لوحدة الأمة والحائلة دونها، والتي إذ هى لم تحقق لإنساننا لا كرامة ولاحرية ولاتقدم، بل وحرمته حتى من حلم توفير قوت يومه، اسلمت مجتزءاتها من وطننا الكبير الى مهاوي التبعية ودفعت بها الى شفا حفرة تجزئة المجزأ، واجمالاً، عين ما سعت وتسعى اليه أولويات أعداء الأمة المشار اليها بدايةً.
إن ما يؤشر إلى خطورة ما وصل اليه الحال، هو في أن يردد البعض، ببغاوياً، أو مدفوعاً، ما يُزعم عن معاناتنا لمشكلة هوية، وكأنما نحن أمة بلاها، أو هى ليست بالقائمة، أو هى غير عروبتنا الحاضنة لتاريخنا ومواريثنا الحضارية وقيمنا الثقافية والدينية…في مثل هذا ما يؤشر بدوره الى أن مشكلة الأمة كانت وتظل في نخبها المستلبة أو القاصرة، وربما بما يفوق خطراً مشكلتها مع انظمتها التابعة والمستبدة، وتكفينا هنا نظرة فحسب إلى ما نصلى به من لغو يتسم به أغلب الإعلام العربي، المتعدد مواقعاً ومواقفاً وتمويلاً وتوظيفاً واجندات، ليهولنا ما يراكمه من تزييف للوعي وخلط للحقائق، بل منه مابات وكأنما لا من مهمة له سوى تحفيز الفتن ونشر وباء التطييف، وكل ما من شأنه أن يلحق افدح الضرر بروح أمة عرفت بتسامحها، وأن يشوِّه في عيون الغير نصوع هويتها الحضارية، ويحرف عن سواء السبيل وجهة توقها التحرري.
قد يبدو بعض ما طرحناه للدون، وهم بيننا كثير، ضرباً من الشعاراتيه، وللمستلبين، وهم كثر في نخبنا، ما يوصف عندهم عادةً باللغة الخشبية، وقد يسارع داسوا رؤسهم في الرمال برده الى نظرية المؤامرة، رغم أن كل ما هو في راهننا لا يشي بغير ما ذهبنا اليه، أو ما ينطبق عليه المأثور: الحلال بيِّن والحرام بيِّن، فهاهو نسيج الأمة سائر إلى التهتُّك أمام ناظرينا، ووباء الطائفية، وسعار المذهبية، اللذين ينفخ في ريحهما على مدار الساعة، يفتكان بوعي إنساننا، ويعيثان في وجدانه إفساداً، فيبعثان في ديارنا جنون الشطط وغوائل فقه عصر الإنحطاط،، وكل هذا المرافق لمثل هذه الحالة المفتقدة للمعقولية، والتي ضاعت فيها البوصلة واختلط حابلها بنابلها…وكله، لا لشيء ألا لافتقادنا للرؤية السليمة لتراتبية أولوياتنا، وانعدام إيماننا، الذي لايأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، بأنه ما من منجاة لنا إلا بوحدتنا ولا من ملاذ إلا عروبتنا.