عسفيا وشرفة الذكرى! – آمال عوّاد رضوان
افتتح منتدى الحوار الثقافي/ البادية في عسفيا الكرمل لقاءَهُ الأوّلَ مِن عام 2015، بأمسيةٍ شعريّةٍ تناولتْ كتاب (على شرفة الذكرى)، للكاتبة نسرين حسين فرّاج، وذلك بتاريخ 29-1-2015، في صالون البادية/ عسفيا، ووسط حضور من الأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء وذوّاقي الكلمة، وقد افتتح الندوة الأستاذ رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة، تلاه د. فهد أبوخضرة بمداخلة نوعيّة عن القصّة، ومن ثمّ مدلخلة د. بطرس دلة، تلته مداخلة الأستاذ صالح عبّود، ومداخلات أخرى لد. منير توما، ود.محمد خليل، وبروفيسور رياض إغباريّة، ومداخلة الروائية فاطمة ذياب، وقد تخلّلت المداخلات قراءاتٌ مِن نصوص الكتاب بصوت نسرين فرّاج، ومن ثمّ تمّ التقاط الصّور التذكاريّة.
جاء في كلمة الاستاذ رشدي الماضي:
قليلٌ مِن أبجديّتِكِ كثيرٌ مِنَ الذّكرى والذّكريات. أنا هنا في حديقتي التي كانت تفسّرُ هجرةَ الأشجارِ في ليالي الحالكاتِ على قارعة كانون. هي تعرفُ: لا حَطبَ في موْقدي، فجمعتُ زيتونَ حيدرَ حنينًا إلى شرفةٍ انتِ عليها ذكرى قيثارةٍ. يُبلّلُ موجُ الإيقاع أوتارَها، تجتمعُ في يدَيْها القبّراتُ صاعدةً هابطةً، لترمقكِ مِن زجاجِ طفولتهِا. تمنحينَ الكلامَ فصولَهُ الربيعيّة صلاةً تلمُّ الشّوكَ عن صدرِ المعاني، حتى يُكملَ الجَمالُ رحلتَهُ فتوحاتٍ في تَجوهُرِ اللغة، ويرجعُ بعدَ طولِ غيابٍ مساربَ دلالاتٍ، تتناسلُ بين النّصوصِ. نسرين مبدعتي، تعالي مُعجمًا وافيًا مُفرطًا في لغةِ الوقت، في دفتري قصيدةٌ ظامئة، ضاقت بما تحتملُ من الشوق لبحر حيفا، وعكا، ويافا، وشجر الجليل. اِقرعي شمالَ أبواب مدينتي، وانزلي مضاءةً بعذريّةِ ماء الكلمة، لنُعمّدَ الدّروبَ، والبيوتَ، وانسحاباتِ الأرض الحزينة، ونرفع كأسًا نرشفُ منها معًا نخبَ نصر الآلهة!
وفي مداخلة نوعية لد. فهد أبو خضرة جاء حول القصّة جاء:
ليس كلُّ ما كُتب بمستوى واحد، إنّما أقولُ وبكلّ الوضوح، إنّ لدينا كمّيّةً جيّدة جدّا مِن النّصوصِ القصصيّة، وفي مستوى جيد جدا وممتاز، ليس فقط على الصعيد المحلّيّ، وإنّما أيضًا على الصعيد العربيّ كلّه. ولكي تبرز هذه الكمّيّة الجيدة، يجبُ أن يتمّ النقد، والنقدُ لم يَقُمْ بدوره حتى الآن، فمعظمُ ما عندنا من النقد هو إمّا نقدٌ يقوم على تشجيع صاحب النّصّ، أو كنوع دعائيّ، أو كنوعٍ مَذهبيّ، أو ما يُسمّونه حزبيّ، فيه محاولة لإظهار النصّ بصورة جيّدة مهما كان مستواه، وذلك لعلاقةٍ مُعيّنةٍ بين الناقد والمنقود، وهناك النقد الصحفيّ الّذي يُحاول أن يستعرض المادة، وهذا لا يُفيدنا في شيء من ناحية النقد، لأنّه لا يُقيّم النّصّ أبدًا.
القارئ وحده لا يستطيعُ أن يَحكم، فهو بحاجة إلى ناقد يعتمد على أسسٍ ومقاييسَ نقديّةٍ مَنهجيّةٍ معروفةٍ ومتعارف عليها، أو على الأقل على أسس مقنعة، وكل ما يمكن أن نجده الآن، نعدّه على أصابع اليدين.
هناك محاولات عديدة قامت بتجميع هذه القصص والكتابة عنها، إنّما بمعظمها كانت توثيقيّة، والتوثيق أمرٌ مُهمّ جدّا، لكنّه لا يُغني عن التقييم أبدًا، لأنّ التوثيق يجمع الجيّد والوسط والممتاز معا في كتاب واحد، وهذا لا يعطي القرّاء فكرة جيّدة عن المستويات المختلفة لهذه النصوص.
نحن الآن أيضًا بحاجة إلى مؤسّسة مُعينة، تقوم بتبنّي مشروع لجمع قصص تقييميّة، أي مبنيّة على أساس تقييميّ، وهذه يمكن أن يكون لها شأن كبير في الداخل والخارج. أظنّ أنّ هناك مؤسّسات عديدة يمكن أن تقوم بذلك، ولكن نحن بحاجة إلى نقاد، يقبلون أن يقوموا بهذا العمل، وأعتقد أنه إذا كانت هناك مبادرة، فسوف نجد نقادًا مستعدين، وهم عددهم ليس بالقليل.
في العالم العربيّ يقولون إنّ هناك أزمة في النقد، ليس فقط في القصّة القصيرة، وإنّما في الرواية والشعر أيضًا، وليس هناك منهج واحد للأدب العربيّ، يدرس فيه النقد ما يُنتج، وإنّما كلّ ناقد يتأثّر بأدب من الأداب الغربيّة وغير الغربيّة، فيأخذ مقاييسه ويطبقها على الأدب العربيّ، وهي غير ملائمة لأدبنا، لأنها ليست منه، وحين تطبق على الأدب مقاييس ليست منه، فتقييمه يصبح غير مقنع.
لماذا لا تبحث عن مقاييس تنبع من داخل المجتمع؟ من داخل أدبنا؟ ومن داخل تراثنا؟ وطبعا مع التحديث والتجديد المطلوب، وحتى أنّ الناقد نفسه أحيانًا لا يهضم المقاييس الغربيّة التي يجمعها.
لكي نعطي نقدًا جيّدا، يجب أن يكون لدينا نقد منهجيّ يدرس كل إنتاجنا، فكلّ إنتاجنا المحليّ من رواية وقصة وشعر لم يُدرَس جيّدا، وأُخِذت عنه فكرة مزيّفة وغير حقيقيّة، ومن يعود الآن ويقرأ ما كتب من قصة وشعر ورواية، سينتبه إلى أشياء عديدة ستفاجئه، فهناك أقلام جيّدة لم ينتبه لها أحد، وهناك أقلام لا تساوي شيئًا وأُعطِيت أكثر ممّا تساوي.
وهكذا فالتقييم الحقيقيّ يحتاج إلى ناقد حقيقيّ، وناقد موضوعيّ مُطّلع على المناهج، ويحتاج أيضًا إلى نوع من التذوق، لكي يستطيع أن يُنصفَ الإنتاجَ الأدبيّ الذي يتناوله ويكتب عنه.
باختصار شديد إقول: إنّ ما يجب أن يكتب عنه الناقد، وهذا ما لم يحدث أبدًا عندنا، هو أن يتناول المضمون، والشكل من الناحية الفنية، واللغة، والناحية الاجتماعيّة في هذه الرسالة التي يُحاول الكاتب أن يوصلها، فالمضمون وما يُسمّونه الرسالة أو المحتوى، هو شيء أساسيّ، وما لم تكن هناك ناحية فنيّة، فالمضمون لا يساوي شيئًا، فيمكن أن يكتب مقالة لا قصّة قصيرة، واللغة يجب أن تكون ذات مستوى أدبي جيّد جدّا، وبدون أخطاء وتراكيب ركيكة، وهي كثيرة جدّا، والأخطاء كثيرة جدا، والمتابع يلاحظ ذلك جيّدا، وأحيانا نبالغ ونقول: إنّ من يخطئ خطأ واحدًا، لا يمكن أن نُعدّهُ أديبًا، ولكن اليوم يتساهلون ويقولون: من يخطئ حتى مئة خطأ، يمكن أن نعتبره أديبا، وذلك لأنّ الأخطاء أكثر من أن تُعدّ، وهي مزعجة جدا.
وأيضًا قضيّة الأصالة والتقليد، فهل العمل أصيل ومن إنتاج الكاتب مضمونًا وفكرة وشكلا ولغة، أم أنه متأثر يحاول إعادة أشياء قرأها؟
يجب دائمًا أن نميّز بين أمرين، فيما نُسمّيه المشهور وما نسمّيه المُهمّ، فليس دائمًا المشهور هو المُهمّ، وليس دائمًا المُهمّ هو المشهور، وما نلاحظه أنّ هناك الكثير من الإنتاج القصصيّ الذي يمكن أن نصفه مشهورًا، هو ليس مُهمًّا، وهناك الكثير من الإنتاج القصصيّ المُهمّ وهو ليس مشهورًا حتى الآن، فلكي ننصف المُهمّ وننصفَ (المشهور) بين قوسين، يجب أن تكون هناك دراسات منهجيّة تقييميّة، تعيد النظر فيما كُتب حتى الآن، وبغير ذلك، لن يتقدم أدبنا، ولن نعطي فكرة صحيحة عنه، ولن نستطيع أن نسير إلى مستقبل أفضل.
وجاء في مداخلة د. بطرس دلّة:
هذا الدّيوانُ الـمُنمنمُ هو أوّلُ إصدار لهذه الشّاعرة الواعدة، والّذي فيهِ تتجلّى موهبتُها الشّعريّةُ، في مجموعة من القصائدِ القصيرة المُنمنمة، والتي تكشفُ لنا فيها عن مكنوناتِ قلبها الدّافئ، بكلماتٍ أشبه ما تكونُ بنزفِ الرّوح حبرًا على ورق، أو قُلْ هي مناجاةٌ بضميرِ المُتكلّمة لفتى الأحلام، فيها الكثير من الرّقة والجمال، تُهديها إلى كلّ امرأةٍ نزفت روحَها ولم ينزف قلمُها، ولوالديها وزوجها وابنها وابنتها الغالييْن على قلبها، وإلى كلّ قارئ وقارئة، خاصّة أولئك الذين يقرؤونَ السّطورَ وما اختفى خلفَ الكلماتِ والسّطور.
هذا الإهداء يذكّر بما كان قد قاله محمود درويش:
اِجرْح القلبَ واسْقِ شعركَ منه فدَمُ القلبِ خمرةُ الأقلام
حقًا؛ إنّ كلماتِ هذا الديوانِ الصّغير هي نزفٌ لِقلمٍ شامخٍ، ونفسٍ فيها الكثير من الكبرياء المُحبّبة، والتي تخاطب شغافَ القلوب، مع شيءٍ مِن المُراهقة المُحبّبة على النّفوس! فالدّيوان كلّهُ عبارةً عن مجموعةِ همساتٍ دافئة، نسجَ الحبُّ رحلتَها قصيدة في كتاب، كما تقولُ في قصيدتها الأولى. فهي تمارسُ الرّحلة الأخرى، وتتعثّر جملتان حول تانك الغيمتين الشّاردتين، اللتيْن لولاهما لما اعتلى عرشَ اللقاءِ ووهجَ القبلتين همسُ العيون، ولم تتحقق فيما بعد رحلة أخرى إلى الذّكرى.
الصّمتُ واللّقاء: يتملكها الصّمت في لقاء مَن تحبّ، فتقول إنّ لعشقها سحرَ الخيال، وعندما تلتقي الشفتان يكون الصّمت أكثر بلاغة. من هنا ومن نبيذ الشّفتين المعتّق سوف تسكبُ صمتها قصيدة، فيتحوّل الصّمتُ إلى ثورةٍ على القيود. وفي محاولة منها للتّخلّص من تلك القيود سوف تعزف سيمفونيّة الوجد وتترك له قصيدتها ليغزل من خيوطها ثوبًا للشّمس وعباءة مجد للقمر، وعندها يتحوّلُ الشّوقُ ليصبح سفيرًا لروحِها، فتصبح كلماتها شعلة صمتٍ في صخب الحَبّ.
تقول في (ص 21): “لِيكُنْ شَوقي سفيرَ روحي/ كلماتي التّائهة/ على مُنحدرِ الغياب/ شُعلةَ صمتٍ/ في صخبِ الحُبّ/ روحًا تبحثُ عن روحِها/ في متاهاتِ الكبرياء”!
وتعود في قصيدتها “رحلة إلى النّسيان“، فتلجأ إلى الصّمت الذي يتملّكها بقولها (ص 52): “عندما أسافرُ/ في بحرِ عينيْك/ يَتمَلَكُني صمتٌ/ يحتضنُ/ ألفَ سؤال/ ترسو/ في الحزنِ المكتومِ/ حيرتي/ بعدما اغتالَ رحيلُكَ/ البسمةَ والأحلام”!
وفي قصيدتها “لقاء عند مفترق الزّمان” تعود إلى الصّمت بقولها (ص65): “مِن نظراتِ الشّمسِ/ أخفيْنا عيونَنا/ حتّى لا يفضحَنا الـهُيام/ ولا تبوحَ بِسِرِّنا/ خيوطُها الممتدّةُ على صفحاتِ الأيّام/ تحتَ شمسِ الخريفِ/ عشقتُكَ بصمتٍ/ حُرِّمَ الكلامُ.. وأُسرَت الحروف/ وما بقي.. إلّا همسُ العيون”!
وفي قصيدتها “ثورةُ نجمٍ واشتياق” (ص23): فتبدع في وصف اللقاء حيث تقول: “مُعَتّقٌ لقاؤُنا/ على أعتابِ الشّوق/ سرمديٌّ شغفُنا/ لعناقٍ طويل/ ليلكيٌّ انتظارُنا وأرقُ النّجوم/ تَوقٌ.. يُثيرُ اللّيلَ والشّجون/ عناقُ العُيونِ طال/ سقطتْ نجمةُ الأحلام/ ثارتْ على عبثِ الأيّام/ تناولتْها أكفُّنا/ باركتْ ثورتَـها/ اعتذرَ منها الزمان/ وأزهرَ اللّقاءُ/ فُلًّا وريحان”! فهل هناك لقاء أجمل من هذا اللقاء؟!
وفي قصيدتها “لم يزهر رحم الورد” (ص27) تقول: “هامَ اللّيلُ/ في عشقِ جنينِ الحُلم/ توْقًا/ لربيعِ الحُبِّ/ غابَ اللّقاءُ/ غابَ الحُلْم/ولم يُزهرْ/ رحمُ الورد”!
وفي قصيدة “حضور يغمره الغياب” تعود إلى الحديث عن اللقاء (ص58): “في حضورِكَ الفوضويّ/ إثارةٌ للعشقِ/ على مدارجِ الوهمِ/ ونقشٌ للحُلمِ/ على/ لافـتاتِ الزمنِ الماضي/ ودعوةٌ/ لِفراشاتِ الأرض/ إلى حديقةٍ مُتخيّلة/ في حضورِكَ الفوضويّ/ ترتبكُ مشاعرُ الوَلَه/ في حَضرةِ شَغَفِ/ اللقاءِ المُنتظَـر/ في حضورِكَ الفوضويّ/ نكهةُ الغزلِ/ ونسيمُ لقاءاتِ الهوى/ وهمسُ العيونِ/في حضورِك الفوضويّ/ إشارةٌ/ لغيابٍ مُرتقَب”!
وتعود للحديث عن اللقاء بقولها (ص64) في قصيدتها “ثورة عشقٍ ومطر”: “لحضورِكِ ورحيلِكِ/ في صَحْوي وهذياني/ يثور الشّوق أكثر وأكثر/ ولا يُخمِدُهُ اللقاءُ الـمُـؤجَّل/ ثوري قاتِلَتي/ ثوري/ ففي ثورتِك/ عشقٌ مُعَطَّر”!
وفي (ص74) في قصيدتها “طقوس الحب” تكرر الحديث عن اللقاء بقولها: “على ضفافِ اللقاءِ انحدرت/ قُبلاتٌ وأشواقٌ/ وكَلِمات/ لها نكهةُ النّبيذِ الـمُـعتّق/ ورائحةُ البَخورِ الـمُنبعِثة/ مِن مَعابِدِ الحُبِّ المـُعطّر”!
هكذا وجدناها في معظم قصائد هذا الديوان، تعود من حين لآخر، وتكرّر بعض المصطلحات مرّتين وثلاثًا وأكثر، فتكتسب هذه المصطلحات جمالًا على جمال، كما يردد المغنون ألحانهم، وفي كلّ مرّة يكتسبُ اللّحن المتكرر رونقًا خاصًّا، وجمالاً ما بعده جمال.
حوارات الحبّ والغزل: القسم الأكبر من قصائد هذا الدّيوان، يدور على طريقة الحوار بين الشّاعرة ومَن تُحب. فحينًا تلتقي فتى أحلامَها وتعاتبُهُ، وترتفعُ في وصفِ موقفها من الرّجل، الذي لا يرى في المرأة سوى جسد يُشتهى، بينما تجعل نفسها كمن يبحث عن الحبّ الرّوحاني الكامن في أعماق الرّجل، لدرجة التّجنّي على الرّجل، في قصيدتها “لا تنتظرها” (ص9)، تتجنّى على الرّجل، فتصفه كمن يبحث في أعماقها عن منفضة الشّهوة والغزل، بينما تصف نفسَها كمن يبحث في أعماق الرّجل عن روحهِ وذكريات الحبّ الحقيقيّ، مترفّعة بنفسِها عن الشّهوة والغزل!
فإذا كان الجنسُ حالة طبيعيّة، فإنّ الحاجة إليه متوازية بين الذكر والأنثى، فالمرأةُ تبحثُ عن أسباب وطرق إزالة الألم الذي يُصيبها، عندها لا تجدُ فتى الأحلام لتروي شهوتها، كذلك الرّجل عندما تعصرُهُ آلامُ الحياة، فإنه يبحث عن راحةِ البال والهدوء النّفسيّ، عندها يَركنُ إلى صدر المرأة، يستمع إلى نبضاتِ قلبها، ويعودُ بالذاكرةِ إلى أيّام كان طفلاً رضيعًا، كما قال أحد الشّعراء مُتغزّلاً:
سأغمر بالورد للشّامخين على الصّدر أغفو كطفل وليد
وكما قال نزار قبّاني: يا شاعري ألم ألقَ في العشرين من لم يُفطمِ!
في قصيدتها “لقاء عند مفترق الزّمان” تدخل في حوار مع ذاتها، فتصل إلى حدّ الهذيان، فهي إذ تلتقي به، يكون اللقاء كمن يشرب القهوة المعطّرة بحبّ الهال. فهي تعشقه بصمت، فلا يبقى لها سوى همس العيون التي تنزف بصمتٍ، خوفًا من عقاب الطّقس والتّقاليد والدّين. لذلك فهي تدّعي أنّها تعرفه لكنّها تجهله في آن. تعبده وتنكره في آن واحد. تعشقه وتكرهه، تشتهيه وتمقُتُه. تدعوه إلى رحلة في الذّكريات، فيصبح حبيبها وعدوّها في آنٍ واحد. لذلك فهي تطلب منه أن يرحل من سطور حياتها إلى اللاّمكان، لأنّها ترفض أن يستعبدها الزّمان، وأن تسجد للنّسيان! تصل درجة التّماهي مع من تحب، فتبدأ معه “حوارية الحب” وهي إحدى قصائد الدّيوان (ص68): “قالت: أتُحبُّني أنت؟/ قال: نعم! أعشقكِ أنا!/ قالت: أمجنونٌ أنت؟/ هل تعرف مَن أنا؟/ قال: مجنونٌ أنا منذ عرفتك!/ قالت: أتعرفُني جيّدًا؟/ قال: عِطرُ زهرِك مشهورٌ/ وعسلُ خدّيْكِ مشهودٌ/ وخمرُ فمِكِ مطلوبٌ/ والسّكْرُ في عينيكِ مأمولٌ/ قالت: أنا لا أعرفُكَ!/ قال: أنا مقتولُكِ في العشقِ/ قالت: إذن عشقُكَ مقبولٌ مقبول!”
هكذا تنتهي هذه الحواريّة بالقبول، بالرّغم من الكبرياء المارّ ذكرها، ولكنّها تبدو كنوع من الهذيان، فأيّ حبّ هذا لدرجة الهذيان، وذلك لما فيه من تناقضات كما بيّنّا!
المستحيلات: تَحدثنا عن بعض المتناقضات التي تؤدّي إلى الحبّ. والآن سنتحدّث عن بعض المستحيلات، التي تصل فيها شاعرتنا إلى الحُبّ أيضًا!
ففي قصيدتها “نوّر اللّوز في أيلول” (ص10): نجد الكثير من المستحيلات: ادّعاؤها بأنّ اللّوز نوّر في أيلول، ونحن نعرف أنّ اللّوز قد ينوّر في شهر شباط وآذار، ولكنّه لا ينوّر في أيلول لأنّ ذلك مستحيل. ثمّ إنّ الشّمسَ تشرق من الغربِ، وابتسمت أزهار الياسمين. هكذا إذن؛ طالما تكون هذه الأمور مستحيلة، كذلك فإنّ الحبّ لديها مستحيل، فلا يأتي إلاّ ثائرًا متمرّدًا على حرمة الوصل في ليل العاشقين.
وفي القصيدة التالية “رقصة على إيقاع الحُبّ” (ص11): “راقِصيني/ على إيقاعِ الحُبّ/ واغزلي/ مِن ورقِ الشّجر/ فستانَ عشقٍ أخضر/ اُتْرُكيـني/ عاشقًا/ هائمًا/ تائهًا/ غارقًا/ في عسلِ عينيْكِ/ أَمتصُّ رحيقَهما/ حتّى آخِرِ رمقٍ/ في العُمْر”!
فنلاحظ أنّها تتحدّث عن إيقاع الحب! فما هو هذا الإيقاع؟ وكيف يكون؟! إنّها استعارة رائعة! ولكنّها غير موجودة، لأنّ الحبّ ليس له إيقاع! والحُبّ يغرق ويتيه في عسل عينيها، حيث يمتصُّ رحيقهما حتّى آخر رمق في العمرِ!؟ هذه اللّغة الفنيّة هي ما تصبغ هذا الدّيوان؛ فتسبغ عليه ثوبًا من الجمال الذي ما بعده جمال!
الانتصار للمرأة وللإنسانيّة:
من يقرأ قصائد هذا الدّيوان، سيعتقد لأوّل وهلة أنّه ديوان حب، ولكن نظرة متمعّنة في مضامين القصائد سوف تكشف لنا، أننا إزاء شاعرة حسّاسة حتّى الثّمالة في محبّتها للإنسانية، وفي دفاعها عن المرأة المغتصَبَة، وفي لوعتها على الاطفال الأبرياء المشرّدين، والذين اغتُصبت طفولتهم بسبب الحروب. هكذا في قصيدتها “سأحبّك أكثر” (ص25): “وهجُ الحُبِّ يَكبُرُ ويَكبُر/ سأُحِبُّ أطفالَ العالمِ الـمُشرّدين/ على أرصفةِ الاغتصابِ/ وسُخريةِ الأقدار/ سأُحبُّ كلَّ امرأةٍ وفتاةٍ/ هُتِكَت أنوثتُها/ على مِقصلةِ الزّمنِ الغادر/ سأُحبُّ مَن خَذَلَهُ الضّميرُ الإنسانيّ/ وغابَ مِن ليْلِهِ سلامُ القلوب/ وافتقدَ نهارُهُ أمْنَ الدّروب/ سأُحِبُّ مَن أحبَّ السّلام/ هذا العام وكلَّ عام”!
وفي قصيدتها “فسيفساء وياسمين في ثورة الحنين” (ص29): لا تنسى شاعرتنا ما يحدث في سوريا من اغتصاب الحريّات، ومن مجازر الجلّادين وقتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال في قولها:
“أشلاءُ إنسانٍ أنتَ/ في سوريا/ أشلاءُ بَشَرٍ هناك/ على/أرصفةِ المدينة/ تتضرّعُ/ لِربِّ الأرضِ والسّماءِ/ طفلةٌ يتيمة/ تبكي/ دماءَ شهدائِها/ دمشقُ الحزينة/ يَعتذرُ الياسمينُ/ عن عطورِه الحائرة/ رثَتْ فسيفساءُ الشّام/ أمَّها/ أشلاءَ وطن/ باتت شامُكِ/ يا أحلامَ الطفولة/ انتفضَ التّرابُ/ وعادتْ أرواحُ الشّهداءِ/ نفضَتْ عنها ذُلَّ الهزيمةِ/ شوارعُ المدينة/ يا الله../ بعثُكَ خيرٌ وسلام/ أملُ اليتيمةِ واليتيم/ وطفلِ المدينة/ يَبحثُ فيكَ/ عن هُويّتِهِ/ بعدَما/ اعتصرَ الذلُّ فيهِ/هُويّةَ الطفولةِ/ وهُويّةَ المدينة”!
إنّ حساسيّة شاعرتنا وتأثّرها بما يدور حولنا من أحداث، كان يجب أن تتركَ أثرها في هذا الديوان، ولو بقصيدة واحدة أو أكثر. فهي في هذا المجال لا تقلّ كتابتها ولغتها الفنيّة روعة، عن كتابتها في مواضيع الحُبّ والعشقِ والجمال!
في نهاية الدّيوان وجدت قصيدة شذرات (ص76-77)، والتي رأيت فيها أجمل ما في قصائد هذا الدّيوان. ومع أنّ معظم القصائد جميلة، وقد اخترنا منها ما اخترناه، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي للحصول على الانطباع الحقيقيّ عن الدّيوان، لأنّه من أجل ذلك على القارئ أن يطالع جميع قصائد هذا الدّيوان، وأنا أَعِدُهُ بأنّه سوف يجد متعة ما بعدها متعة في كلّ قصيدة وفي كلّ شطر. وإلى شاعرتنا الواعدة أقول: لكِ الحياة أيّتها الصّديقة!
وفي مداخلة الأستاذ صالح عبّود بعنوان اللّغة الحواريّة في حواريّات “على شرفة الذّكرى” جاء:
السّادةُ الحضور، احتفاءً بولادةِ وليدِ نسرينَ الجديدِ: “على شُرفةِ الذّكرى”، أقفُ بينَ أيديكم أُطِلُّ من خلالِ ورقتِي هذهِ، والّتي أواري بها خلَجاتٍ أورَثَتْنِيها قراءتي ما جَمَعَتْهُ مجموعَتُكِ النّسرينيّةُ يا نسرينُ.
اسمحوا لي، وقبلَ الدّخولِ في قراءتي للحواريّات وأسلوبها في مجموعة “على شرفة الذّكرى”، وهي غايتي الثّانية من حضوري بينكم، أن أعلنَ عن غايتي الأولى، وهيَ أن أزفَّ شُكريَ وامتنانيَ العظيمينِ لشاعرتِنا المعطاءةِ الفذّةِ الجميلةِ في كلِّ ما كتّبتْ، ودَوّنَتْ، وأرَّقتْ بهِ سطورَ مجموعتِها هذهِ، وسِواهَا من قَبلُ ومن بَعدُ، وقدْ أدمنتُ قراءَتها يوميًّا في صفحتها المتوقّدة صباحَ مساءَ في الفيسبوك، وهيَ صفحةٌ حقيقةٌ بالقراءةِ والاهتمامِ لما فيها من نصوصٍ وقصائدَ ومقطوعاتٍ من إبداعِ النّسرينْ.ها أنا باسطٌ أكفّيَ ثناءً وعِرفانًا.
كانَ الحوارُ مرهونًا بالفنّ المسرحيِّ دَهرًا، إلى أن وَفَدتِ النّظريّاتُ النّقديّةُ الحديثةُ، واتّسعَ نطاقُ السّردِ ومفهومُ الخطابِ والتّناصِّ، فصارَ الحوارُ بأنماطهِ المتعدّدةِ عُمدةً من عُمَدِ المباني السّرديّةِ في النّصّ الشّعريّ، كما هوَ من قَبلُ في النّصِّ النّثريِّ.
يُشكّل الحوارُ مدخلًا أساسيًّا في الحداثة الشّعريّة الّتي نُعاينُها في الشّعر العربيّ الحديث بصورةٍ عامّةٍ، ولو أنْعمنا النّظرَ في نصوصٍ شعريّةٍ تعتمدُ بنيةَ الحواريّاتِ على اختلافِ أنساقها، لعلمْنَا أنّ تقنيّةَ الحوارِ قد ساهمتْ في رفع مستوى الوعيِ، والعمقِ في الكتابةِ الشّعريّة عند لفيفٍ من الشّعراء، ولو استقصينا المساحاتِ الحواريّةِ في مادّتهمِ الشّعريّةَ، لاستطعنا الوقوفَ على حقيقةِ ذلكَ.
للحوارِ حضورٌ ملفتٌ في مجموعةِ “على شُرفة الذّكرى”، إذ يشهدُ القارئُ في مادّته ونصوصهِ الشّعريّة مساحاتٍ حواريّةً شتَّى، توظّفها الشّاعرةُ النّسرينُ بما ينسجمُ والمضمونُ من جانبٍ، والمقصدِ أوِ المغزى من جانبٍ آخرَ.
لا شكَّ أنَّ اللّغةَ الشّعريّةَ الحواريّةَ تلعبُ دورَها، في نقلِ الجوِّ العامِّ للقصيدةِ من واقعهِ الخطابيّ اللّغويّ المُحَوَّرِ، إلى واقعٍ أكثرَ موضوعيّةً ودراميّةً ووقائعيّةً، وذلك من خلالِ حواريّةٍ إيحائيّةٍ ممتنعَةٍ على التّسطيحِ المبتذلِ، فصوتُ الشّاعرِ الفونولوجيِّ يتوجَّهُ من الخارجِ نحوَ داخلِ المتلقّي، باعثًا فيهِ شعورًا بالتّماهي معَ القضيّةِ الجوهريّةِ في القصيدةِ، وبذلكَ يلعبُ الحوارُ دورَهُ التّثويريَّ والتّحفيزيَّ، ويكونً مطيّةَ الشّاعرِ في التّواصلِ معَ القارئِ.
في قصيدتها “حواريّةُ حبٍّ” ص68، جاءَ فيها: حواريّةُ حبٍّ/ قالت: أتحبّني أنتَ؟/ قالَ: نعمْ! أعشقُكَ أنا!/ قالَتْ: أمجنونٌ أنتَ؟/ هَل تعرفُ من أنا؟/ قالَ: مجنونٌ أنا منذُ عرفتُكِ!/ قالتْ: أتعرفُني جيِّدًا؟/ قالَ: عِطرُ زَهركِ مشهورٌ./ وعَسلُ فمِكِ مطلوبٌ/ والسّكرُ في عينيكِ مأمولٌ!/ قالت: أنا لا أعرِفُكَ!/ قالَ: أنا مقتولُكِ في العشقِ/ قالتْ: إذًا/ عِشقكَ مقبولٌ مقبولْ!
صورةٌ حواريّةٌ رائقةٌ بينَ عاشقينِ يتبادلانِ أسئلةَ الوجودِ في عوالمِ العشقِ، تبدأُ هيَ حوارَها معهُ، بجملتِها الإنشائيّةِ وَسؤالِها: “أتحبُّني أنت؟”، وتنتهي القصيدةُ بجملَتِها الخبريّةِ “إذًا، عِشقكَ مقبولٌ مقبولْ”، وبينَ سؤالِها الاستهلاليّ وجملتِها الخاتِمةِ للنّصِّ أسئلةٌ أخرَى توجّهها الأنثَى، فيجيبُ عنها الذّكرُ، فعمادُ المشهدِ الحواريِّ في هذهِ القصيدةِ الوجدانيّةِ هوَ الأسلوبُ الاستفهاميُّ التّتابعيُّ، المُفضِي إلى علاقةٍ تقومُ على سؤالٍ محوريٍّ حولَ الحبِّ الّذي لا يعرفُ للتّفاصيلِ الشّخصيّةِ في حالاتٍ ما منزلةً، ولا يقيمُ للفروقِ بين الحبيبِ والمحبوبِ وزنًا.
في الواقع، ليستِ المساحةُ الحواريّةُ في القصيدةِ الأخيرةِ بديلًا عنِ الغنائيّةِ، بل متداخلةً فيها، وَكَأنّي بشاعرةٍ تجمعُ بينهما في بناءٍ إبداعيٍّ متكاملٍ، وهيَ دالَّةٌ تدلُّ على وعيها الفنّيِّ، بأهمّيّة التّكاملِ بين الحوارِ اللّفظيِّ والإيقاعِ البنائيّ للقصيدةِ الواحدةِ، ممّا يضمنُ اختراقًا للسّياق اللّغويّ التّقليديّ، ويفجّرُ الطّاقاتِ الإيحائيّةَ للنّصِّ الشّعريّ وَمَداهُ الحواريِّ.
لا بُدَّ لكلّ تجربةٍ شعريّةٍ حقيقيّةٍ من دَفقٍ شعريٍّ وَقَّادٍ يستنطقُ الذّاتَ، وَيكشفُ عن مكنوناتِ النّفسِ، ويغوصُ عميقًا في خَلجاتِ الرّوحِ، وبواطنِ النّفسِ، وتقلّباتِ الحياةِ الإنسانيّة وتناقضَاتِها وصِراعَاتها، بغيةَ الوصولِ إلى رؤية فنّيّة واضحة، تحملُ رسالةَ الأدبِ النّفسيّةَ، وتنقُلُها إلى عالمِ التّجربةِ الإنسانيّةِ بصدقٍ وشفافيّةٍ، دونَ تملّقٍ أو صَنعةٍ، شريطةَ أن تنصهرَ في بوتقةِ الشّكلِ، وتلتحمَ معهُ التحامَ الرّوحِ بالجسدِ، ليولدَ الإبداعُ من خلالِ ثنائيّةِ الرّؤيا والتّشكيلِ.
في قصيدة “حواريّة ذكرٍ وأنثَى” ص 69: نُعاينُ شاهدًا شِعريًّا يَعكسُ احترافًا في توظيفِ الحوارِ، لتبئيرِ قضيّةٍ باتتْ هاجسًا لدى كثيرٍ من الإناثِ، إذ يقومُ الحوارُ فيها على صورةٍ واقعيّة غيرِ مُتخيَّلَةٍ، ترصدُ الشّاعرةُ من خلالِها حالةً مجتمعيّةً، تُنبِئُ عنِ الهوَّةِ السّحيقةِ بينَ مشاعرِ الصّداقةِ الودّيَّةِ الصّادقةِ غيرِ المُلطَّخةِ بآثامِ الغرائزِ المُنفلتةِ، وبينَ مشاعرِ الحبِّ الشّهوانيِّ المجرَّدِ منَ العفَّةِ والصّدقِ والوجدانيّةِ، إذ جاءَ في القصيدةِ الحوارُ الآتي:
حِواريّةُ ذكرٍ وأنثَى/ قَالَتْ: أنتَ صَديقِي/ قالَ: أنتِ حَبيبتِي/ قالَتْ: أنتَ أخِي ورفيقُ فِكريْ/ قالَ: أنتِ دُميَتِي وَمبعثُ عِشقي/ قالَت: أنتَ زَميلي/ قالَ: أنتِ مُلهمتِي.. في العشقِ والغَزَلِ/ قالَت: أنَا أحترمكَ/ قالَ: أنا أشتهيكَ/ قالت: أراكَ لا تؤمنُ/ بصداقةِ الأنثَى والذَكَرِ/ قالَ: أنا أؤمنُ بثقافةِ العشقِ المحرَّمِ!/ فصفَّقَ لهُ المجتمعُ/ وَنَقاهَا/ إلى جزيرةِ الإثمِ.
المكاشفة الحواريّة في القصيدة الأخيرةِ تلعبُ دورًا في إيصالِ الدّلالةِ والغرضِ منَ القصيدةِ للقارئِ المتلقِّي،
استخدمتِ الشّاعرةُ التفاتًا مقنعًا في صيغِ الأفعالِ في قصيدتها الأخيرةِ، إذ جعلتْ من فواتحِ الجملِ القوليّةِ الفعليّةِ ماضويّةً في زمنها، ثمَّ أعقبتها بصيغٍ فعليّةٍ حاضرةٍ مُضارعةٍ متمّمةٍ للسّياقِ، وذلكِ يشيرُ إلى أنَّ النّظرةَ القديمةَ الماضيةَ في المجتمعِ الذّكوريِّ للعلاقةِ بينَ الذّكرِ والأنثى، لا تزالُ ترزحُ تحتَ وطأةِ القيلِ والقالِ القديمةِ، الّتي تفترضُ أنَّ اللقاءَ بينَ الجنسينِ حبيسُ الثّقافةِ الجنسيّةِ ومفاهيمِها الغرائزيّةِ الشَّبقيّةِ.
كما أنَّ القفزَ بين زمنيّ الماضي والمضارعِ في مساحةِ الحوارِ، في سياقِ القصيدةِ والبيتِ والجملةِ، يدلُّ على تعدّد الأصواتِ، وهيَ تقنيّةٌ حواريّةٌ واعيةٌ تُفصحُ الشّاعرةُ من خلالها، كما فعل كثيرٌ من الشّعراءِ، عن موقفِها وصَوتِها إزاءَ القضيّةِ أو المسألةِ وما يتعلّقُ بها.
أنْ ينطويَ النّصُّ الشّعريّ على مساحةٍ حواريّةٍ قصيرةٍ أو متوسّطةٍ أو طويلةٍ، يُعتبرُ أمرًا ناهِضًا بالنّصِّ نحوَ وَعيٍ وإدراكٍ بِأهمّيّةِ الحواريّةِ فيهِ، لكنَّ اعتمادَ الشّاعرةِ النّسرينْ مبنًى حواريًّا متكاملًا شَاسعًا، يسعُ حدودَ النّصِّ برمّتِهِ، لَهوَ مؤشِّرٌ على امتلاكِها ناصيةَ الحوارِ، وتوظيفها إيّاهُ بوصفِهِ تقَنيَّةٌ خليقَةٌ بالتّعبيرِ عنِ الدّلالاتِ والرُّؤَى المنشودةِ. تلفّعتِ القصيدةُ بواقعِ المجتمعِ، وصوّرتهُ من خلالِ فلسفةِ الحوارِ التي تُناقش جوهرَ العلاقةَ بينَ الأنا الذّكوريّة والآخرِ الأنثويِّ،
أختمُ بقولي: إنّنا في حضرةِ النّصّ النّسرينيِّ أمامَ شاعرةٍ، تسعَى إلى تشكيلِ حواريّاتها، كي تصوغَ في مشروعِها الشّعريِّ تفسيرًا كيفيًّا للعالمِ، من خلالِ نافذةِ الحبِّ ومفاتيحِهِ. أبارِكُكِ نسرينُ، وانتظرُ منْ غيثِكِ المزيدَ الغَدِقَ..
مداخلة الناقد د.محمد خليل المكتوبة، التي لم يتسنَّ له أن يُدلي بها، لاضطراره المفاجئ بالمغادرة جاء:
بداية، نحيي الشاعرة الواعدة نسرين لمناسبة إصدارها الأول الموسوم بـ “على شرفة الذكرى”، فكل مجهود إبداعي محمود المقاصد، مرحب به، لا بل مطلوب لما فيه من رفد للنتاج الأدبي المحلي، وإضافة لرصيدها من نتاجها الخاص. طبعًا مع تمنياتنا لها بالمزيد من العطاء الإبداعي مستقبلاً، حتى تستطيع أن تتبوأ مكانتها اللائقة بجدارة، في مشهد حركتنا الأدبية المحلية، فقدمًا إلى الأمام دائمًا، ومن نجاح إلى نجاح، ومن إبداع إلى إبداع.
ما يلحظه القارئ على الإصدار الجديد، أن الغالبية العظمى مما تضمنه من خواطر شعرية، جاءت تكرر نفسها، إن من حيث الأفكار والموضوعات والدلالات، وإن من حيث المفردات والألفاظ. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن تلك الأفكار والموضوعات، مثال ذلك: (الحب، الغزل، اللقاء، الفراق، الرجل والمرأة، العادات والأعراف الشرقية، لاسيما فيما يخص النظرة إلى المرأة ومعاملتها، التي تعيدنا إلى واقع عهد قد مضى وانقضى من زمن الآباء والأجداد وما إلى ذلك) قد تكررت كثيرًا لدى الشعراء المحليين وغير المحليين، حتى استنفذ الكلام فيها تقريبًا، وأصبحت موضوعات نمطية في قوالب جاهزة.
وهنا يحضرنا مطلع معلقة عنترة الذي يقول: هل غادَرَ الشُّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمٍ/ أمْ هل عرفتَ الدّارَ بعدَ توَهُّمِ؟ ومن قائل يقول: لقد سئمنا وشبعنا حتى التخمة، من تلك الموضوعات والأفكار التي تتكرر باستمرار!
ما يجعلنا نعلن: ألا نغادرها؟! ألا يوجد موضوعات أخرى تشغلنا، حتى تصبح تلك شغلنا الشاغل؟!
ثم هل نحصر إبداعنا في تلك الموضوعات ونتوقف عندها ولا نتجاوزها إلى سواها؟
فما كان أحوجنا إلى الابتكار والإبداع والتجديد! فالشعر ليس قوالب جاهزة من الأفكار والموضوعات والمفردات وحتى الدلالات، إنما رؤيا وكشف وتصوير وخيال خصب، وتجاوز للحاضر إلى المستقبل، تجاوز للواقع إلى عالم افتراضي متخيَّل، خارج المفاهيم النمطية السائدة، ما يمكن أن يثير ويؤثر في الوجدان والعواطف والعقل.
وقد رأى بعضهم وشدد وأكد، على أن عنصر الخيال، في أي مجال، أفضل وأهم من المعرفة!
لكن الذي يحدث في واقع الحال، كما يبدو، أنه لا بد للشاعر كل شاعر، لاسيما وهو في بداية تدرجه، أن يؤم تلك العتبات حتى يتعمد بها، ويتزود منها بتلك الموضوعات التي باتت معروفة وجاهزة.
بالنسبة للغة التي تم توظيفها في الإصدار الجديد، وهو ما يستوجب التنويه والإشارة، لأن اللغة، بمنظور ما، هي العنصر الأهم أو المادة الأساسية والأولى التي ينسج بها ومنها الأديب إبداعه، وكذا الشاعر منها يبني أبياته، فإنه من الواضح أن اللغة جاءت متناسقة ومنسجمة إلى حد كبير مع لغة الناس، مع ما هو متعارف عليه، أي أنها قريبة جدًا إلى أفهامهم، بمعنى أنها لغة سلسة وسهلة وقريبة، من دون تصعيب أو تعقيد، وهذا يسجل لصالحها حقًا، فالمفردات سهلة والألفاظ بسيطة. وبما أن الألفاظ تعد أوعية للمعاني، والعلاقة بينهما علاقة تبادلية وتكاملية، فقد جاءت الألفاظ سهلة وبسيطة بما يتلاءم مع الأفكار والمعاني، أي متلائمة ومتناسقة بعضها مع بعض.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، وهو أمر معروف، أن لغة الشعر، كما يفترض أو يجب، لغة إشارة لا لغة عبارة، بمعنى أنها يجب أن تميل أكثر إلى التلميح لا إلى التصريح. ولا بأس من الغموض ولا نقول الإبهام أو التعقيد، حتى تشد القارئ وتستثيره إلى محاورتها، على أن لا تستجيب له من اللقاء الأول، وهو ما افتقده القارئ.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا، إلى أن اللغة الموظفة جاءت تقريبًا خلوًا من لغة الابتكار والكشف والرؤيا، وهي أقرب ما أقرب ما تكون إلى اللغة المتداولة كما قدمنا.
وكتبت الروائية فاطمة ذياب:
(على شرفة الذكرى) وقفت الحروف ليلة أمس، كي تبحر في سراديب الما وراء، وكلٌّ يحاول الغوص بعُدته وعتاده إلى عمق الأعماق، فقالوا وصالوا وجالوا، والسؤال كما التفاحة شهيًّا، يتسربل بنكهة ذات مذاق يشابه مذاق العسل المر!؟ ما وراء والما وراء يخص الشاعرة كما يخص الروح والجسد.
بعيدًا في ركن قصيّ، كنت أجلس مغمضة العينين، بصمت أسجّل كلّ همسة، وأرقب هذا الإبحار، وتبارى الجمع في الغوص والتحليل واكتشاف بُعد الأبعاد، ونسرين تبلع ريقها تلهث وراء النقاط!
من منهم استطاع ولولوج بحرها الصاخب؟ من تعمق في بُعد الأبعاد؟ تدرّج النقاش ليصل إلى الشبقية ومراودة الذات للذات، حتى خرج النقاش عن طوره، وكاد البحر الصاخب يفور ولا يهدأ؟
ونظلّ نتابع نسرين وانفعالها وهدأتها ما بين الحروف والكلمات، فهل كانت نسرين ذاتها التي (ذرفت روحها ولم تذرف قلمها)؟ وسيان عندها من قرأ ومن لم يقرأ، فالأهم لديها تفجر الوجع الخاص والعام، ففي فورة الروح والجسد، تعربد الأنثى داخلها في رحلة البحث عن الذات، ونحن من (عبق الروح) نشتم التفاصيل والجزيئات، (نحالف الزمن) كي نرسم للقدر خارطة أخرى، حول خاصرة الأيام، وننسج الحب قصيدة في كتاب، ونواصل ونتواصل (تحت وهج الشمس)، ننسج بصمت (شرفة للذكرى)، ونحن كما نحن، نخوض في الممنوع، ويستوطننا الحلم فنسكبه بصمت القصيدة، ونعزف سمفونية الوجد على حافة هاوية، وبرغم كل شيء نظل وتظل الأنثى في أعماقنا، ترنو لميلاد تحت الشمس، تحيكه ثوبا من خيوط أنوثتها، كي تعانق نور الحقيقة، وعلى هامش الذكرى تظل لنا مليون حكاية، ومليون قصة تحمل بصماتنا، وألوان مساحيقنا، وروائح عذرية، أحلامنا الصغيرة والكبيرة، في محاولة جريئة تخترق كل الغيبيات والمسلمات، كي تراقص الزمن على إيقاع الحب، والحب لديك يختلف بمذاق آخر، ينسج حكاياته من ورق الشجر، عشقا هائما تائها غارقا بالتفاصيل والجزيئات، يبحث ما بين أناك وأناه، ويبحر في حضرة الغياب والعتاب، في رحلة بحث ياسميني القسمات، وما وراء قسمات أخرى من هواجس سرمدية؟
أيتها الأنثى، هي الأنثى شعر على الكتفين وعسل عينين ومحراب ثغر، ترسمينها بين الخيوط المتناثرة بنبرة احتجاج، لكل أبجدية الحروف المشتهاة، وتعلنين ثورتك على كل الأقدار.
عزيزتي نسرين، ما بين شفتي حروفك سافرت الليلة بكبرياء، أفتش عنك فيك، في أرض أوسع من الحلم، وفي سجلات التاريخ ما بين المكان والزمان، وما بين الجسد والروح، وجدتك شاعرة تلملم الوجع، وتنثره فوق أديم الصفحات، لتكون هي الأنثى بكل اللغات، تعايشين الخاص والعام معايشة وجدانية، ما بين أرض وسماء، ولا تملين البحث عن عذرية الروح، وتصرخين: انا يا هذا أريدك أن تحبني (انثى بملامح حورية)، وأظل بين النقاط أبحث عنك بدوري، وأجدني بين سطورك والنقاط.
لقد أجدتِ الإبحار الرقيق، وأكاد أجزم انه ليس الإبحار الأول، هكذا تنطق التعابير واللغة السهلة المتمنعة، فأنت والرقة توأمان. لك مباركتي ويقيني، أنك تمتلكين الناصية والأدوات في مشوارك الأدبي، بلغة مشوقة ترسم الأعماق، وتلونها بزرقة صافية رقراقة.
وفي مداخلة بروفيسور رياض إغبارية: بعصور النهضة للأدب العربي عرف الأديب بذلك المُلمّ بعدة مواضيع، مثل الشعر والفلسفة والرياضيات والفلك والكيمياء وغيرها، ولم يقتصر كما هو اليوم على كتابة الشعر والنص الأدبي، فابن خلدون والبيروني وابن سينا وابن رشد وأبو علاء المعري وغيرهم، كتبوا الشعر والعلوم والفلسفة. ومن قرأ باكورة حوارات وأشعار الأديبة نسرين حسين فراج بعنوان “على شرفة الذكرى”، يشعر بتناغم الكلمات والأحاسيس والمشاعر والخيال والذّكريات، لترى بين السطور ووراء الكلمات جميع العلوم قد استخلصت، لتجعلها أديبة بكل ما يعني هذا اللقب، لما تثيره نصوصها بدماغ الإنسان وجسمه من تفاعلات، تخضع لقوانين الفيزياء والجاذبية بين الأحبّاء، كما تلونها بأجمل الألوان وانعكاساتها، بلوحة لم ترسم من قبل لمشاهد وحوارات، فترى أطياف الألوان وأمواج الرّوح القصيرة منها والطويلة، وذبذبات القلب عندما تلتقي العيون، أو عندما يكون الصمت سيد المشهد، ليفيض بالدماغ هورمون السعادة ليغمر شواطئه، ليتدفق بكل زاوية من خباياه. وتبيّن الأبحاث الحديثة لعلوم الدماغ بأن قمة المتعة، حين يفرز هورمون السّعادة بعد عصر غددها بالدماغ بجميع المناطق وبكلا الجهتين للدماغ. فإنّ انسياب الكلمات التي تحمل بين طياتها مشاعر هياجة، وأحاسيس لاهفة للقاء، أو فراق بصعود أو بهبوط بالماضي أو المستقبل تحت ضوء القمر أو عبق الجوري، وكلها تصب بعيون عسلية لترسي هناك، فالزمن والضوء والفلك والبحر وضفاف النهر وخفقات القلب وجمال العيون، لهو نسيج من الشعر والأحاسيس وعلوم الأحياء، والفيسيولوجيا التي تثير الدماغ ليفرز هورمون السعادة، ليفجر بركانًا من النّشوة الرّوحانية، ليعود القارئ مرة تلو الأخرى، ليقرأ ويقرأ من هذا المنتوج الأدبي الراقي والرائع. وبالنّهاية أتمنى المزيد من العطاء والتّألق لشاعرة الحيدر”..
وفي الكلمة الأخيرة لنسرين حسين فراج جاء: مساؤكم محبّة وكلماتٌ ليست عابرة في أرواحٍ وقلوبٍ احتضنتني اليومَ، واحتضنت حروفي وهواجسي وكياني. اسمحوا لي أولاً أن أتقدّم بوافر شكري وتقديري للّجنة التّحضيريّة التي بادرت لولادة هذه الأمسيّة وإشراقتها:
أشكر: الأستاذ الشّاعر رشدي الماضي، والشّاعر الدكتور فهد أبو خضرة، والأستاذ أمين القاسم، والشّاعرة المتميّزة والصّديقة العزيزة الأخت آمال عواد رضوان، والدكتور ووالدي الأدبيّ الأستاذ النّاقد بطرس دلّة، والزّميل سابقًا والاخ العزيز الدكتور صالح عبّود، وعائلتي المصغّرة والدَيَّ العزيزين، وزوجي الحبيب وابنتي وابني الغاليين، وإخوتي وأخواتي نبضُ حياتي.
وأخيرًا وليس آخرًا أنتم “عائلتي الثّانية”، لكم منّي باقات ياسمين لحضورِكم ومداخلاتِكُم ونورِكم الذي أضاء عتمة المساء، فالنّور الدّاخليّ النّابع من القلوبِ الصّافية والعقولِ الرّاقيّة ،لا يعترفُ بعتمةِ الوقت ويتخطّى حدودَ الزّمن. وتحضُرُني الآن مقولةُ الغائبِ الحاضرِ فينا محمود درويش: “سأصير يومًا ما أريد”! مقولةٌ تدفعُنا دومًا نحو خطًى ثابتةٍ راسخة للارتقاءِ في معرج تحقيق ذات.
فكانت “الأنثى المؤرّقة” والمجتمع بكلّ تعرجاته والبالي من موروثِهِ، والقيودُ الصّماء والمسلّماتُ جميعُها معًا ما نفضَ قلمي فأسالَ حبري، لأكتبَ لكلّ امرأة نزفت روحها ولم ينزف قلمُها، لأقولَ نحن لسنا ناقصاتٍ بل فكرًا يعتلي جسدًا يحملُ قلمًا حرًّا!
فنحن حينَ نكتب نصير فكرة تسكبُ الرّوحَ نصًّا يبعث صوتَ قلوبِنا وعقولِنا بعيدًا، ليعودَ إلينا الصّدى يحمل فكرةً أخرى، من رحم هواجسنا وإيماننا بذاتنا وبغيرنا وتوقنا للحريّة للارتقاء للمساواة وذبول سياسة التّمييز خصوصًا بين الذّكر والانثى. لذلكَ أكتب، لذلك أقول: تحالف وإياها على الزّمن، ولا تتحالف والزّمنَ عليها، عانق وردَها لا تترك يدَها لينسجَ الحبُّ رحلتكما، قصيدةً في كتاب، تصير هيَ أنتَ، وتصيرُ أنتَ هيَ، وتصيرُ الفصول جميعُها، ربيعًا ينثرنا فُلاًّ وريحان.