عقيدة جون ماكين وثورة رونالد ريغان – أسعد أبو خليل
تعولَمَ الإعلام وتعولمَت معه الصهيونيّة. أصبحت متابعة الإعلام الغربي واستبطان مصطلحاته وتعريفاته المزيّفة عن الحياديّة نحو الصراعات سمة من سمات الإعلام العربي. الإعلام الغربي كان يتذرّع بضرورات الحياديّة في طمس العواطف في تغطية جرائم ومجازر العدوّ الإسرائيلي، لكنه ذرفَ من الدموعِ أنهاراً حول قتلى العدوّ الإسرائيلي وعن الحرب السوريّة (ليس حبّاً بالشعب السوري). هذه المعايير انتقلت بدورها إلى العالم العربي وإعلامه، إذ أصبحت تغطية الصراع العربي ــ الإسرائيلي حياديّة (بالمعنى الصهيوني)، وأصبحت تغطية الحروب التي تؤيّدها الولايات المتحدة مُفرطة في العاطفيّة والبكائيّات. وتساهم منظمّات غير الحكومية (NGO) والدكاكين التابعة للأمم المتحدة في تعميم هذه المعايير والمقاييس.
وإذا كان الشيوعيّون يعيَّرون في الماضي على أنهم يحملون المظلّات عندما تمطر في موسكو، فيمكن، من باب أولى، تعيير الليبراليّين ودعاة الاستعمار الغربي في بلادنا أنهم باتوا أوّل مَن ينتحب عندما يموت صهيوني في بلاد الغرب، إذ ملأت مراثي جون ماكين الصحف والشاشات في العالم العربي. وتنافس إعلاميّو النظام السعودي والإعلام القطري في إسباغ آيات المديح والتبريك على جون ماكين. أعلنته واحدة من صحفهم أنه «صديق الشعب السوري». عدد من الصحافيّين العرب نشروا صورهم مع جون ماكين، وحذيفة عبدالله عزّام (ابن مُرشِد ومُوجِّه أسامة بن لادن) نشرَ له مرثيّة عاطفيّة ونوّه فيها إلى أنه «وقف وقفات مشرّفات مع الثورة السوريّة» (عاد حذيفة ومحا تغريدته). حتى الجهاديّون بكوا على ماكين، لكن ماكين يستحق أن يُرثى مِن قبل إرهابيّي الجهاد كما مِن دعاة الاستعمار. وكيف لا يعزّز رثاء الجهاديّين الإرهابيّين في العالم الإسلامي لماكين نظريّة: 1. العلاقة الأميركيّة (الوطيدة في كثير من الأحيان) مع تنظيمات الجهاد الإرهابيّة. 2. التواطؤ بين حركات الجهاد الإرهابيّة وبين الصهاينة (أصبح تحالف تنظيم القاعدة في سوريا مع العدوّ شبه مُعلنٍ من الطرفيْن). هؤلاء هم الجمهور الطبيعي لماكين. وطبعاً، لا يمكن لوليد جنبلاط أن يفوِّت فرصة من دون تطيير برقيّات رثاء حول العالم بمناسبة وفاة صهيوني هنا أو هناك. جنبلاط الذي كان قد نعى بنفسه توم لانتوس، الذي يُمكن أن يُعتبر من أعتى غلاة الصهيونيّة في كونغرس مليء بغلاة الصهيونيّة، نعى ماكين ونشر صوراً له معه للتباهي وقدّم تعازي حارّة لعائلة ماكين (كان يمكن أن يقول على طريقة ترحيبه بساركوزي، عندما ذكّره أن جدته كانت متحالفة مع الاستعمار الفرنسي، أن يقول أن جدّه الأكبر، بشير جنبلاط كان متحالفاً مع آل ماكين).
جون ماكين هو وجهٌ من وجوه الإمبراطويّة الأميركيّة، كما أن أوباما وبوش من وجوهها أيضاً. لهذه الإمبراطوريّة أكثر من وجه. وماكين هو نتاج ثورة رونالد ريغان الذي وصل إلى السلطة عام 1980بعد تضعضع صفوف الحزب الجمهوري إثر فضيحة ووترغيت. لكن ريغان لم ينعش الحزب الجمهوري فقط، ولم يوصله إلى البيت الأبيض في ولايتين متواليتين فقط، بل غيّر من بنية وبرنامج الحزب وجمهوره. ثورة ريغان هي ثورة الرجل الأبيض الذي أراد تحديّاً أكبر للملوّنين والفقراء. ريغان خاض حملة انتخابيّة لتقليص المساعدات الشهريّة للمعوَزين. سخرَ على مدى أشهر من أمّ لا معين لها إلا مساعدات الرعاية الاجتماعيّة. ريغان انتمى إلى عالم هوليوود إذ تسود فكرة أن كلّ مَن يعمل يقتني مسكناً مع حمّام سباحة كبير وحديقة تعجّ بالأزهار النادرة. ونقل ريغان مركز ثقل الحزب من المدن الكبيرة في الشرق الأميركي إلى الوسط والغرب والجنوب. بدأ بحثّ الناخب الأبيض على الانتقال من صفوف الحزب الديموقراطي الذي خذله في رعايته (المتأخرة والمتلكّئة) لحركة الحقوق المدنيّة عبر رؤساء تعاقبوا في البيت الأبيض وخالفوا قيادات وصفوف الحزب نفسه في الجنوب وكانوا عماد حركة العنصريّة السوداء (زعيم الأغلبيّة الديموقراطيّة في مجلس الشيوخ في عهد ريغان، كان السيناتور روبرت برد، الذي بدأ شبابه في «كو كلوكس كلان» (أي حركة العنصريّة البيضاء)).
كان من جيل المحافظين الرجعيّين الذين استولوا على الحزب الجمهوري، وقادوه باتجاه أكثر عنصريّة وأكثر صهيونيّة وأكثر عداء لليسار والشيوعيّة حتى من عتاة اليمين من أمثال ريتشارد نيكسون. لم تكن أجندة هذا الفريق محصورة بالسياسة الخارجيّة إذ اختطّوا للحزب برنامجاً مُعادياً لكل البرامج الاجتماعيّة – الاقتصاديّة (بما فيها تلك الممهورة بتوقيع إدارات جمهوريّة كتلك التي سنّها ريتشارد نيكسون، مثل «وكالة حماية البيئة» وبرامج الرعاية الاجتماعيّة وبرنامج تحديد الأسعار). ولم يكن هناك خفض للضرائب لم يطالبوا بخفضه أكثر. هذا هو الحزب الذي رسم خطوطه العريضة رونالد ريغان في سلسلة من الخطب ألقاها عام 1964. كان الحزب الجمهوري في السياسة الخارجيّة مرتبطاً بشركات النفط والسلاح ومختلفاً عن الحزب الديموقراطي في قلّة حماسه نحو دولة العدوّ الإسرائيلي. كان مألوفاً في خطب قادة الحزب سماع عبارة «سياسة أكثر توازناً» عن السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط في مطالبة لتخفيف حدّة مناصرة الاحتلال الإسرائيلي. حتى ريتشارد نيكسون في الستينات (قبل أن يعلن ترشحه في 1967للرئاسة) طالب بسياسة «أكثر توازناً» لكن عهده لم يختلف عن عهود سابقيه من الديموقراطيّين في مناصرة إسرائيل. وفي حرب 1973، لعب دوراً بالغ الفعاليّة في مدّ إسرائيل بما تحتاج له من سلاح ومعدّات. الثورة الريغانيّة التي نشأ ماكين في كنفها مثّلت رفضاً قاطعاً للنزوع «الانعزالي» و«الانكفائي» (النسبي) في ملامح السياسة الخارجيّة للحزب الجمهوري.
نشأ ماكين في بيئة عسكريّة ودرس في «الأكاديميّة البحريّة» وتميّز بحياته الخاصّة الصاخبة أكثر من مواهبه العسكريّة والأكاديميّة. وعندما انضم إلى سلك الطيران لم يكن سجلّه ناصعاً أبدأً، حسب سيرته شبه الرسميّة التي كتبها روبرت تيمبرغ. شارك ماكين في غارات عديدة على فيتنام، وكانت الرحلة التي أدّت إلى إصابته هي الرقم 23. وكانت الغارة الأخيرة جزءاً من عمليّة «الرعد المتدرّج»، والتي قصفت ما ليس له علاقة بالحرب الدائرة. كانت فكرة «الرعد المتدرّج» الوحشيّة أن قصف أهداف مدنيّة ليس لها علاقة بما يجري في الميدان ستصيب الشعب الفيتنامي بالإحباط. لكن حدث العكس، إذ استحدث الشعب الفيتنامي بمساعدة صينيّة أفضل نظام لمواجهة الطائرات العدوّة، التي كانت تُصاب على علوّ منخفض (في تقنيّة استحدثها مبدعو «الفيتكونغ») وتلاحقه صواريخ «سام» على علوّ مرتفع. أصيب ماكين في طائرته قبل أن يسقط. أصبح بطلاً وطنيّاً هنا. يبالغ الإعلام الأميركي حول ما تعرّض له ماكين، كأن وحشيّة الحرب الأميركيّة يمكن أن تُقارَن بوسائل حرب «الفيتكونغ». يقولون إنهم ضربوه بعد أن انتشلوه من المياه. لكنهم أنقذوا حياته وأسعفوه وبقي حيّاً. نادراً ما تذكر الصحافة الهدف الذي أُرسِل ماكين لضربِه في ذلك اليوم، الذي كان قصف وتدمير محطة توليد كهرباء في منطقة مدنيّة. هذه هي المهمّة التي جعلت منه بطلاً. لم يتعرّض ماكين في الأسر لِما تعرّض له العراقيّون والأفغانيّون على يد الاحتلال الأميركي.
خرج ماكين من الأسر وسارع إلى بناء سيرة ذاتيّة سياسيّة. ورث عن والده منصب موظّف الاتصال بين الكونغرس وبين وزارة الدفاع، ما قرّبه من القادة العسكريين وشركات تصنيع السلاح وأعضاء الكونغرس. رضع الصهيونيّة مبكّراً من عميد اللوبي الصهيوني فيه، الديموقراطي «سكوب» جاكسون. ورافقه الأخير في أوّل رحلة له إلى فلسطين المحتلّة. توالت رحلاته إلى الشرق الأوسط وتميّزت خطبه في مديح دولة الاحتلال بأنها زايدت دائماً على اللوبي الإسرائيلي. لم يكن هناك تطرّف في مناصرة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي إلا واعتنقه ماكين وروّجَ له. أذكره في حقبة الثمانينيات على الشاشة حين تخصّصَ في ذم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من باب أنها ليست إلّا ذراعاً للشيوعيّة، ثم تخصّصَ بعد ذلك في ذمّ الحركة الوطنيّة على أنها ذراع لـ«الإسلام الراديكالي» الذي أراد تدميره. وفي نقاش الكونغرس في عام 1983 (بعد سنة واحدة فقط من انتخابه عضواً في مجلس النوّاب) برز تعطّش ماكين لمزيد من الدماء العربيّة. هو عارض التدخّل العسكري الأميركي في لبنان لكن ــ كعادته في تاريخه الطويل ــ على أساس أن العنف والقوّة المستعملة لا تكفي، وأن المزيد من العنف والمزيد من نشر القوّات ضد لبنان وسوريا هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يرجّح كفّة المصالح الأميركيّة (1). ودون ذلك، دعا إلى الانسحاب من لبنان.
قد لا يعلم القرّاء العرب أن الخلاصة الوحيدة التي خرج بها الأميركيّون (محافظون وليبراليّون ووسط) من حرب فيتنام أن الولايات المتحدة كانت في موقع تفوّق أخلاقي، وأن الخطأ الوحيد كمنَ في أن أميركا فقدت صبرها مبكراً، وأنه كان عليها أن تنتظر تحقيق النصر من خلال المزيد من الحرق والتدمير والقتل. الخلاصة الثانية هي تعيير ذاتي من قبل الذين عارضوا حرب فيتنام. إن إغداق الثناء الفائق من الإعلام الليبرالي الأميركي على جون ماكين (في حياته ومماته) هو تعبير عن تكفير ذنب بالمفهوم الأميركي. لا تزال القوى المحافظة هنا تعيّر (بعض) الليبراليّة على معارضتها (المتأخرة كثيراً) للحرب في فيتنام. ولهذا يُصاب الليبراليّون في الولايات المتحدة بالضعف الشديد أمام شخص مثل ماكين، كونه «خدمَ» – حسب التعبير الأميركي – في فيتنام.
ورث ماكين مقعد السيناتور باري غولدووتر عام 1986 عن ولاية أريزونا. كان نقيض غوولدووتر، وفوزه كان مؤشّراً على تغيّر الحزب الجمهوري. كان غوولدووتر يقول في سنواته الأخيرة إنه لم يعد يتبيّن الحزب الذي عمل فيه عقوداً طويلة، والذي انتخبه مرشحاً رئاسيّاً عام 1964. غوولدووتر كان مستقلاً بالفعل في مواقفه (على عكس الاستقلاليّة الزائفة والاستعراضيّة لجون ماكين) وكان من الشجعان في الكونغرس الذين انتقدوا اللوبي الإسرائيلي، وكان موقفه ضد ريتشارد نيكسون من العوامل التي اقنعت نيكسون بالاستقالة بعد فضيحة «ووترغيت». وفي سنواته الأخيرة خالف غوولدووتر عقيدة حزبه عندما ناصر حقوق المثليّين والمثليّات. لم يكن هذا أبداً مسار جون ماكين.
الحرب الباردة لم تكن تكفي جون ماكين. أفنى سنواته في الكونغرس في تسخينها. عارض بشدّة سياسات «الوفاق» التي انتهجها فريق نيكسون – كيسنجر بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة (2). وناصرَ حروب ريغان في أميركا الوسطى باسم الديموقراطيّة (متى كان الاستعمار الغربي يجري من دون ذرائع الحريّة والديموقراطيّة؟). وطبعاً، كان من مؤيّدي الإنفاق العسكري الهائل في عهد ريغان. لكن تجربته في مجلس الشيوخ أدخلته في فضيحة عندما كان من فريق «كيتنغ الخمسة»، أي الخمسة الأعضاء في مجلس الشيوخ الذين تدخّلوا عام 1987 لإنقاذ المصرفي الثري، تشارلز كيتنغ، من تحقيق فدرالي في فساده (الذي ثبتَ في ما بعد. حتى «القدّيسة» الأم تريزا تدخّلت لمصلحة هذا الفاسد، لكنها كانت ضعيفة تجاه أصحاب الثروات، حتى لو كانوا على نسق كيتنغ أو طاغية هيتي، باب دوك دوفالييه) (3). جرى تحقيق عبر لجنة الأخلاقيّات في الكونغرس لكن الزملاء في هذا المجلس قلّما يدينون زميلاً لهم لعلمهم أن الفساد يطالهم كلّهم. وما فعله ماكين لاحقاً من مشاريع قوانين سطحيّة (أثبتت عقمها) لإصلاح التمويل الانتخابي لم تكن إلا محاولة لطمس ذكرى فضيحة «كيتنغ الخمسة».
ونمت طموحات جون ماكين الرئاسيّة بسرعة شديدة إذ إنه ألقى خطبة حماسية سوقيّة في مؤتمر الحزب الجمهوري عام 1988 وذلك كي ينال ثقة المرشح آنذاك، جورج بوش (الأب) ليضعه على القائمة في موقع نائب الرئيس. لكن بوش لم يختره، ولعلّ ذلك يعود إلى عدم رجاحته وثورات غضبه الشهيرة في الكونغرس وخارجه. ترأسَ ماكين لجنة «الخدمات المسلّحة» في مجلس الشيوخ ومن موقعه هذا (بالإضافة إلى عضويّته في «لجنة العلاقات الخارجيّة») أشرفَ على الكثير من النقاشات حول ميزانيّة الدفاع والسياسات الخارجيّة. وكان يبرز بين أقرانه على أنه أخبرهم في هذا الشأن، وذلك بسبب الجهل العميق لزملائه. لكنّ ماكين عرف أن اللوبي الإسرائيلي ضروري في الصعود نحو القمّة (في السياسة الأميركيّة) فحرص ليس على الموافقة على كل مشاريع قرارات وقوانين «إيباك» بل زايدَ عليها، كما أسلف. وعندما فاوضت الحكومة الإسرائيليّة ياسر عرفات، كان هو مُشكِّكاً. وكانت زياراته إلى الاحتلال موسميّة مثله مثل كل الطامحين بمنصب الرئاسة. وقد حرص ماكين منذ 1991 على بناء علاقات وثيقة مع دول الخليج خصوصاً بعدما زالت الخلافات (بالكامل) بين سفارات دول الخليج في واشنطن وبين اللوبي الإسرائيلي. على العكس، أصبحت مسايرة أنظمة الخليج من سياسات اللوبي نفسه.
والرجل الذي عُرف بـ«شجاعته واستقلاليّته» السياسيّة أثبت مدى التزامه الصارم ببرنامج اليمين الرجعي في حملتيه الانتخابيّة الرئاسيّة. عام 2000 خاض انتخابات حامية ضد جورج دبيلو بوش وتنافسا في الفوز في ولاية كارولينا الجنوبيّة، وفي نيل تأييد العنصريّين البيض. وقد عارض ماكين نزع علم الكونفدراليّة العنصريّة والذي بات يشكّل استفزازاً كبيراً للسود. لكن عنصريّته زادت في الحملة الرئاسيّة لعام 2008 ضد باراك أوباما، عندما سخر من اسمه في دعوة صريحة منه لجمهوره للهتاف باسم «حسين» للتدليل (العنصري) على دينه (لا يزال الكثير في صف اليمين يصرّ أن أوباما مسلم، كما أن الإعلام السعودي لا يزال يصرّ على أن أوباما شيعي متحالف مع «الإخوان المسلمون»). وكان يستهلّ خطبه بجملة شهيرة: «من هو هذا الباراك أوباما»؟ وكان يعني بهذا التساؤل طرح أسئلة حول أصل ومكان مولد أوباما. وحملة ماكين الانتخابيّة في تلك السنة لم تكن إلا تمهيداً لحملة ترامب من حيث تعبئة العنصريّين الغاضبين. لقد حضّر ماكين الجمهور العنصري الرجعي لرجل مثل ترامب تماماً. والحزب الديموقراطي اليوم يحتفي بماكين ويتذكّر أنه نفى ذات مرّة في 2008 أن يكون أوباما عربيّاً، كأن في النفي موقف أخلاقي (جاء نفي ماكين في معرض قوله إن أوباما هو رجل حسن، أي أن العربي لا يمكن أن يكون رجلاً حسناً).
لعب ماكين دوراً مؤثّراً في السياسة الخارجيّة حتى في موقع المعارضة. كان صوته مسموعاً أكثر من غيره لأنه – خلافاً للأكثريّة – أتى من خلفيّة عسكريّة وتخصّص في الكونغرس في شؤون الأمن القومي. وكان على صلة وثيقة جداً بمراكز الأبحاث ووسائل الإعلام التي أحبّته لأنه كان يردّ على الاتصالات الهاتفيّة ولا يرفض إجراء مقابلة. وكانت إجاباته تبدو أنها عفويّة فيما هي محضّرة مسبقاً. ولم يكن يُعقد مؤتمر خليجي أو أوروبي أو أميركي حول شؤون الأمن القومي أو الدفاع من دون دعوة ماكين الذي بنى علاقات وطيدة مع رؤساء الدول حول العالم ومع الطغاة في منطقتنا. لكن ماكين لعب دوراً مؤثّراً في موضوع لم يُعرَف عنه من قبل (وهو على الأرجح لعبه بإيعاز من اللوبي الإسرائيلي)، إذ بنى علاقات مع جماعات الإسلام السياسي (من الإخوان وغيرهم، وهذا ليس جديداً على من سنَّ أظافره في دعم الجهاد الإسلامي في أفغانستان ضد الشيوعيّة). وقد فاوض ماكين جماعات «الإخوان» و«النهضة» في تونس ومصر وليبيا وسوريا وحصل منهم على تطمينات حول نياتهم الحسنة إزاء الاحتلال الإسرائيلي. وعندها فقط، تنطّحَ ماكين لتطمين من احتاج إلى تطمين حول إمكانيّة تعايش الإمبراطوريّة الأميركيّة ودولة الاحتلال الإسرائيلي مع حكم «الإخوان». ولم يخذل «الإخوان» في مصر وتونس ماكين، فقد حكموا كما حكم الطغاة من قبلهم في البلدين، بالكثير من حسن النيّة والودّ والتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال. وبلغ من حماسة ماكين لحكم «الإخوان» أنه عارض انقلاب عبد الفتاح السيسي خلافاً للطاقم السياسي الحاكم في العاصمة. أما في «الثورة السوريّة»، فأصبح هو عرّابها ليس فقط بحكم قربه من الحركات الإسلاميّة المُطمئِنة لإسرائيل، بل بحكم إيمانه العريق بضرورة الاقتصاص من النظام السوري والإيراني. وقد أفردت «نيويورك تايمز» مقالة عن ماكين في صيف 2008 عندما خاض ترشيح حزبه للرئاسة وفي المقالة تصريح عن أن الحرب الانتقاميّة يجب أن تشمل إيران وسوريا والعراق (4). أي إن الحرب في سوريا توافقت مع ما أسمته «نيويورك تايمز» بـ«عقيدة ماكين». لم يكن ماكين صانعاً لـ«الربيع العربي» لكنه اجتهد في رسم طريقة التعاطي معه لجرّه نحو التقارب مع مصالح الولايات المتحدة ودولة العدوّ. وحماسته المنقطعة النظير في دعم «الثورة السوريّة» كانت في سياق مواقفه التي تتطابق مع مواقع اللوبي الإسرائيلي.
تلقّى ماكين مراثي كثيرة في العالم العربي، كان أكثرها هزلاً مرثية وليد جنبلاط كعادته، التي وضع بعدها صورة لجمال عبد الناصر في اليوم التالي. هذا هو جنبلاط. يوم لعبد الناصر وأيّام لماكين. يوم لفلسطين، وأيّام لساركوزي وجيفري فيلتمان. والصحف السعوديّة تنافست في مديح ماكين. رئيسة تحرير «ذا ناشيونال» (المتحدثة باسم العائلة الحاكمة في أبو ظبي)، مينا العريبي، رثته بحرارة ونوّهت بـ«خفة دمه». أصبحت الصهيونيّة ظريفة. أما عن صهيونيّته فهي قالت إنه قبل بـ«حل الدولتين». لكن بنيامين نتنياهو قبل بـ«حل الدولتين». هل هذا يكفّر عن جرائمه؟ وهل الوحشيّة الصهيونيّة تناقضت مع «حلّ الدولتين» في السنوات الماضية؟ عادل جبير أسماه «بطلاً» واعتزّ بصداقته. هؤلاء يرثون آرثر بلفور. هم يستحقّون أن يرثوا بلفور لأنه صاحب المشروع الذي يرعاهم اليوم.
المراجع
1. راجع كتاب روبرت تمبرغ، «جون ماكين: أوذيسة أميركيّة»، ص 152.
2. جون ماكين وجون سولتر، «تستحق القتال من أجلها: مذكّرات»، ص 19-21.
3. راجع كتاب كريستوفر هتشنز، «الوضع التبشيري».
4. راجع المقالة عن «عقيدة ماكين» في «نيويورك تايمز»، 16 آب، 2008.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com
الاخبار