عليهم .. يا ىشباب حكاية مستمرّة: رشاد أبوشاور
نحن أولاد مخيم الدهيشة نرمي كتبنا داخل الخيام، ونشلف كسر الخبز لنسكت جوعنا ونحن نتقافز بلهفة على اللقاء للعب، و..نطير لنلتقي على الإسفلت، ونتوجه غربا باتجاه كروم بلدة الخضر.على يمين الطريق كروم متداخلة، أشجارها الخضراء تتدلى بين أوراق أغصانها حبات سفرجل خضراء ، وخوخ _ يا الله ما ألذه عندما يستوي- تكتظ أغصان أشجاره بثمار الخوخ الأصفر والأحمر، ورائحته العطريّة تملأ الفم والحنجرة، ولذا بعد أن نسرق حبّات ناضجة ونشرد، نبدأ في الأكل على مهلنا حتى نديم الطعم الحلو مثل العسل. نقول مثل العسل، ونحن لم نذق العسل في حياتنا، لكننا سمعنا أهلنا يحكون عن حلاوة العسل بحنين لأيام زمان قبل أن يُشرّدوا ويعيشوا تحت الخيام. نكهة الخوخ العطرية تملأ أفواهنا وصدورنا، فنأخذ في التنفس بعمق بعد بلع آخر نتفة من لب حبة الخوخ، ونتشمم أنفاسنا في راحات أيدينا، ونحن نطلق أنفاسا مديدة.
قلت للأولاد وهم يتلمظون وعيونهم مركزة على بعض قطوف العنب الناضجة التي تتبدى من بين أوراق الدوالي المبطوحة على أرض الكرم الذي يحرسه الشيخ سالم:
-اسمعوا: نحن لن نقترب من هذا الكرم، ولن نسرق ولا حبة واحدة من عنبه…
توقفوا عن المشي، والتفوا حولي، وهم يسألون:
-ليش؟
– هل ترون الرجل الجالس بين الإسفلت وطرف الكرم، وهو كل الوقت لا يلتفت خلفه، ويجلس حزينا وصافنا؟
قالوا:
-آ..شو يعني؟!
_هذا العم سالم، إبنه استشهد في قريتنا، ذكرين، وهو يحارب اليهود اللي هجموا على قريتنا..ومن يومها وهو حزين، ولا يسمعه أحد يحكي أي شئ سوى: السلام عليكم..وعليكم السلام. وصاحب الكرم شافه وهو يجلس هذه الجلسة فقال له: شو رأيك في موسم العنب تحرس كرمي هذا الذي تجلس على طرفه حتى نهاية الموسم؟ وافق الشيخ سالم، ولم يغيّر جلسته، و..ها هو موسم العنب قد بدأ، ورأيي أن لا نمد أيدينا ونسرق ولو حبة واحدة.
لاحظ الأولاد أنني صرت حزينا جدا. رحت إلى الطرف الجنوبي من الطريق وجلست على حجر وأشرت لهم أن يجلسوا فتحلقوا حولي.
قلت: سأحكي لكم شيئا: كنت أقف في مدخل كرم سيدي مرشد، وهو شقيق سيدي سلمان، وفجأة سمعنا صوت طخ ولكنه منخفض، ورأيت ابن الشيخ سالم يخرج من داخل القرية راكضا وهو يرفع بندقيته بيده ويصيح: عليهم ..عليهم يا شباب، ..وغاب..وبعد وقت..عادوا به محمولا في النقالة، و..تركوه عند مدخل كرم سيدي مرشد، وراحوا ليخبروا والده الشيخ سالم القاعد هناك. أنا كنت ألتف حول الدسكرة التي يحملون فيها الموتى وأتأمل النائم ووجهه ينظر باتجاه السماء..ولم أكن أعرف ماذا حدث، ولا كيف مات..وسمعت كلمة شهيد..ثم عرفت أنه الذي يموت وهو يقاتل حتى يطرد اليهود..وعرفت أكثر عندما صرنا في مخيم الدهيشة، وتحت الخيام، و..من أساتذتنا الذين علمونا معنى كلمة الشهيد.
مشينا صامتين، ورأينا نواطير الكروم يلوحون بالعصي التي يحملونها وهم ينظرون إلينا بغضب نظرات تتوعدنا مع هز العصي، فركضنا بين الصخور وكأننا نلعب، ولا ننوي أن نسرق بعض الفاكهة التي نضجت، ثم اتخذنا من تلك الصخور مقاعد وارتفع صوت حسني، وخيمتهم تتشابك حبالها وأوتادها مع حبال وأوتاد خيمتنا، وهو في الصف الثاني معي، وأنا وإياه صحبة، ونحن من ذكرين:
-لو ما احتلوا اليهود بلادنا كان بنوكل من كرومنا…
رفعنا رؤوسنا وتابعنا رف حمام برّي يتجه صوب سماء قرانا التي احتلها اليهود. قال حسني:
-لو النا أجنحة كان طرنا في السما..ورحنا لكرومنا وأكلنا من ثمارها!
-يا حسني بيطخونا اليهود لما يعرفوا إنو إحنا راجعين لكرومنا لنوكل من خيرها، بعدين إحنا وأهلنا لازم كلنا نرجع لبيوتنا وكرومنا ونعيش فيها، مش نعيش تحت الخيام. انتفض حسني، ووقف على الصخرة وصاح وهو يضم قبضته ويوجهها باتجاه ذكرين:
-عليهم..عليهم يا شباااااااب…
فتقافزنا بين الصخور وفوقها، ونحن نصيح: عليهم..عليهم يا شباااااااب…بدنا نروّح على بلادنا…
تذكير:أمس يوم 16/1/2023 استشهد الفتى عمرو لطفي الخمور ابن ال 14 عاما، بعد إصابته برصاصة في رأسه وهو يتصدّى بالحجارة مع أولاد مخيم الدهيشة لدورية لجيش العدو وهي تحاول أن تقتحم المخيم.
واليوم، 17/1/2023 وأنا أتابع على التلفزيون مشهد تشييع جنازة الشهيد عمرو لمحت بعض وجوه رفاق الطفولة، وقد انحنت ظهورهم ، ولكنهم كانوا يزاحمون الشباب لحمل تابوت الشهيد.
لمحت حسني الذي كبر مثلي، وهو يلوّح بقبضته، وهيّء لي أنه يردد: عليهم يا شبااااااااب.
هزّ حسني قبضته مثل أيّام زمااااااان، وشدّ جذعه أمام الكاميرا التي كانت تنقل مشاهد التشييع، فهّيء لي أنني أخاطبه، وأنه يسمعني، هو في مخيّم الدهيشة ، وأنا في حي طبربور في عمّان: كبرنا،كبرنا يا حسني، وتعبت أجسادنا، ولكننا سنرجع إلى ذكرين وأخواتها..وأولادنا وأحفادنا سيواصلون. لم تضع صيحة إبن الشيخ سالم، الشهيد في الهواء: عليهم..عليهم..عليهم يا شبااااااااااب…