عمر الشريف والعالميّة: بين الشرق والغرب – أسعد أبو خليل
تمثّلت «العالميّة» به وفيه ومعه. لم نكن نسمع بـ«العالميّة» قبل ظاهرة عمر الشريف: مَن ينجّينا من إبهار العالميّة؟ باتت العالميّة تشكّل عقدة عند الكثير من فناني وشعراء وكتّاب وإعلاميّي وموسيقيّي وحكواتيّة العالم العربي. في لبنان، العقدة باتت مرضاً عضالاً: الكل له صلة بالعالميّة ويبرز (أو تبرز) شهادة من دولة غربيّة لإثبات العالميّة. أليسا زارت «هوليوود» ذات مرّة وحدّثتنا عن العالميّة. وما ان يزور لبناني «ديزني لاند» أو جولة «يونيفرسال ستديو» قرب لوس أنجليس في كاليفورنيا إلا وتكاد العالميّة تخطفه لولا حبّه (أو حبّها) لمسخ الوطن لبنان.
مزيّن شعر في شارع الحمراء كان يعرض شهادة تفوّق وفوز من دولة أوروبيّة لإثبات عالميّته. «ملك البطاطا» وحده بقي محليّاً، إلا إذا كانت مملكته ليست من هذا العالم. «نوبل» باتت في متناول كل من تناول قلماً، وإلياس الرحباني كان في سنوات قبل الحرب يفوز بجوائز شبه سنويّة عن «أفضل أغنية» (ومَن يعدّ هذه المباريات وما هي معاييرها؟). وإعلاميّة تلفزيونيّة تلقّت التهاني بعد ان أعلنت أن «نيويورك تايمز» (ما غيرها) اختارتها كأفضل إعلاميّة في العالم (مع أن الجريدة لم تدخل بعد في مجال مباريات الأفضل والأحسن والأشهى والأطول).
ومن النادر أن يأتي لبناني إلى بلاد الغرب من دون أن يعود ليخبر الأهل والأصحاب عن فوزه بجوائز الأفضل والأجمل. كان العربي يكتفي بالتعبير عن الرغبة في زيارة بلاد الغرب في الماضي، أما اليوم فهو لا يقبل بأقلّ من التكريم بأفضل جائزة مكافأة له عن إنجازاته. حاكم المصرف المركزي اللبناني فاز بجوائز «أفضل حاكم» مرّات عديدة، أكثر من فوز لبنان بجوائز أكبر أطباق المائدة اللبنانيّة.
ولأن العالميّة بدأت مع عمر الشريف، فإن لبنان يصرّ على سرقة عمر الشريف من أهله وبلده في مصر، وينسبه إلى وادي العرايش. لا يزال الإعلام اللبناني يزهو بعمر الشريف على أنه لبناني من زحلة، وكاد ان يشارك في آخر انتخابات نيابيّة لدعم نقولا فتّوش وصحبه في 14 آذار. لكن عمر الشريف لم يكن يوماً ليعبّر عن أي صلة له بلبنان، لكن هناك من يريد أن يجعل منه لبنانيّاً بالقوّة. لكن لما العجب العجاب، ومحطة «إل. بي. سي» كرّمت مرّة في تقاريرها الدوريّة عن عظماء من لبنان المخرج الأميركي (من أصل يوناني)، إيليا كازان، لأنها ظنّت أنه من عائلة قازان البيروتيّة؟ للحق، زها عمر الشريف بهويّته المصريّة ولم يتخلّ عن جواز سفره المصري بالرغم من عروضات أتته لنيل جوازات سفر غربيّة. كان يجدّد جوازه في السفارات المصريّة حول العالم، حتى في سنوات عهد عبد الناصر. والقصّة التي يتداولها أعداء جمال عبد الناصر في لبنان وفي إعلام آل سعود وآل أصحاب المليارات أن عبد الناصر منعه من العودة إلى مصر قصّة كاذبة، وقد نفاها الشريف أكثر من مرّة. لم يُمنع عمر الشريف عن مصر يوماً واحداً. هو قرّر اختياراً أن يترك مصر لأن مسألة الحصول على تأشيرة خروج ضايقته. وقد روى هوفيك حبشيان في جريدة «النهار» أن النظام الناصري أراد تكليفه بعمليّات اغتيال، وهذه أيضاً قصة غير صحيحة، ولا أساس لها. نفهم أن تكون «النهار» عريقة في كراهية عبد الناصر، وفي كراهية كل ما هو تقدّمي في العالم أجمع، لكن الحقائق أشياء عنيدة، كما يُقال: قال الشريف ان المخابرات المصريّة كلّفته فقط بالتعرّف إلى نضال الأشقر في باريس لأنها أرادت معرفة مكان والدها (ولم يُعرف النظام الناصري بالاغتيالات المُتجوّلة مثل الأنظمة البعثيّة). لكن تسديد الحسابات الإيديلوجيّة ليست من شأني. (وكما كتب سمير فريد في «مصري اليوم»، فإن كل «حواديت» عمر الشريف هي بلا دليل، وقد تكون على الأرجح من نسج خياله).
سمعتُ مثل غيري بعالميّة وشهرة عمر الشريف قبل أن أصل إلى أميركا في عام 1983. وهالني عندما شاهدت بعد وصولي مقابلة معه في برنامج منوّعات صباحي (مرف غريفين، والرجل يميني رجعي موّل حملة ألكسندر هيغ الرئاسيّة عام 1988، وكان معروفاً بليكوديّته وعنصريّته ضد العرب والمسلمين). بدأ غريفن بالسخرية من العرب حول أنهم غضبوا من الشريف وقاطعوه فقط لأنه مثّل مع ممثّلة يهوديّة، وشاركه الشريف في السخرية من العرب بطريقة مُقزّزة ولم يحاول تصحيح فرضيّته. لم يكن الغضب من الشريف بسبب ظهوره مع بربارة سترايسند، ولا بسبب لعبه لدور يهودي. كان السبب الحقيقي ان سترايسند هذه من أشدّ داعمي جيش العدوّ (الإسرائيلي)، وهي لم تتوقّف عن دعمه بالمال والخطاب عبر السنوات (وقد حضرتْ حفل تكريم لجيش العدوّ بعد العدوان الأخير على غزة). أي أن الشريف لم يجد غضاضة في الظهور مع ممثّلة كانت تجاهر بتأييدها لجيش العدوّ الذي قتل أبناء شعبه في مصر (حتى لا نتحدّث عن قتل العرب من غير المصريّين). أدركتُ حينها نوع الثمن الذي دفعه الشريف للوصول إلى العالميّة التي لم تطل.
وصل عمر الشريف إلى العالميّة ولعب الحظّ دوره معه، كما كان دائماً يقول: كان في المكان المناسب وفي الزمان المناسب عندما بحث ديفيد لين عن ممثّل عربي يجيد اللغة الإنكليزيّة (وكان عمر الشريف يجيد العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة)، كما كان يجيد تقليد اللكنات. لكن لين اختاره بناء على صورته: شرح لاحقاً ان العينيْن السوداويْن كانتا فارقة سينمائيّاً لعينيْ بيتر اوتول الزرقاويْن. لا شكّ ان الشريف كان ممثّلاً جيّداً لكنه لم يكن بالضرورة أفضل ممثّلي جيله. ليست العالميّة دليلاً على التفوّق، ما كل ما يلمع في الغرب هو ذهب، وهناك ذهب في الشرق لا يدري به أحد. قد لا يصل الممثّل السوري، تَيْم حسن، إلى العالميّة لكن مَن ينكر ان موهبته التمثيليّة لا تقل عن موهبة أنتوني هوبكنز أو إيما تمسن أو بريان كرنستن؟ تَيْم حسن وصل إلى العالميّة من دون ان تطأ قدماه أرض الغرب. عمر الشريف كان يقول إن العالميّة لم تكن بالضرورة لصالحه، وكان يردّد ذلك في سنواته الأخيرة. كان يتساءل لو انه كان سيكون أسعد لو بقي في مصر مع زوجته وعائلته وأصدقائه، خصوصاً أنه عانى من الوحدة والوحشة في سنوات الغربة. لكنه في مقابلاته في الستينيات كان يعترف ان العالميّة كانت هاجسه عندما كان في مصر وكان يسخر من الأفلام العربيّة ويقول إنها فقط لاستدرار دموع النساء.
يحق للرجل الخيارات التي أخذها لكن من حقّنا تقييم أفلامه. إن فيلم «لورنس العرب» كان يتطلّب وجود ممثّل عربي، في دور ثانوي (فنيّاً وسياسيّاً). والفيلم، الذي يعتبره النقّاد في الغرب من أفضل الأفلام لأسباب فنيّة وسينماتوغرافيّة، مهين للتاريخ وللعرب على حدّ سواء. كان على عمر الشريف ان يقوم بدور العربي المقبول، أو العربي التابع لأن القصّة (الخياليّة منذ أن كتبها لورانس ومنذ أن صدّقها العرب) تضع رجلاً أبيض في الطليعة، والعرب – كل العرب – وراءه. إن دور لورانس كان حاشية أو هامشاً في سرديّة التاريخ لا أكثر، لكن كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» كتاب بديع فنيّاً وهو يحتوي على قطع أدبيّة وعلى دليل حرب العصابات في آن. والفيلم جعل قصّة عن العرب تضع العرب في الخلفيّة، وعمر الشريف لعب دور الخلفيّة بمهارة. هذا كان المطلوب منه. هو مثل ذلك العربي الصهيوني الذي يُدعى إلى شاشات التلفزة في الغرب كي يذمّ العرب (وهناك نماذج مختلفة لهذا العربي في معظم العواصم الغربيّة). لورانس العرب كان عن بطولات الغرب لا عن العرب الذين صوّروا على أنهم أغبياء ومغفّلون.
لكن سيرة الشريف السينمائيّة كانت واضحة في مراميها السياسيّة، مِن قِبَل مَن قَبِل بدور محدود وموقّت للشريف. فقد عُرض فيلم «لورانس العرب» عام 1962، وعُرض الفيلم الكبير، «دكتور جيفاغو» عام 1965. هذا الفيلم كان ذروة الدعاية الغربيّة ضد الشيوعيّة وتصوير بطولات مَن يعادي الشيوعيّة (حتى المؤلّف، بوريس باسترناك، تعجّب من سوء استعمال الرواية التي لم يقرأ فيها ما قرأته فيها الحكومة الأميركيّة). قد يظنّ أعداء نظريّة المؤامرة أن اتهام الحكومة الأميركيّة بأنها كانت وراء الترويج لقصّة «دكتور جيفاغو» هو مبالغة من أنصار الشيوعيّة العالميّة آنذاك، لكن وكالة المخابرات الأميركيّة قطعت الشك باليقين في السنة الماضية عندما نشرت نحو 100 وثيقة رفعت عنها السريّة لمرور الوقت، ويظهر فيها بوضوح أن الوكالة رصدت عمليّة خاصّة لتهريب ونشر وترجمة وتوزيع كتاب «دكتور جيفاغو» حول العالم (نُشر الكتاب بالعربيّة في لبنان والعراق في 1959) وأنها كانت وراء التأثير على لجنة «نوبل»، التي منحت الكتاب جائزة الآداب في عام 1958 (يُراجع الكتاب الصادر حديثاً لبيتر فن وبترا كوفي، «قضيّة دكتور جيفاغو: الكرملين والسي. آي. إي والمعركة حول كتاب ممنوع»). لم يكن الفيلم ناجحاً تجاريّاً لكن الهدف كان دعائياً من جملة التحريض التي كانت الحكومة الأميركيّة تديره حول العالم. وعمر الشريف قام بالدور بإتقان ومهارة، وفاز عن جائزة أفضل ممثّل من قبل «غولدن غلوب» (وهي منظمّة تضم المراسلين الأجانب في هوليوود) لكنه لم ينل الـ«أوسكار». اتهم الشريف (في ما بعد – أي بعد مغادرته لأميركا) هوليوود بالانحياز ضدّه بسبب أصله العربي، وكان محقّاً في ظنّه، يكفي ان تشاهد لحظة صعوده إلى المنبر في حفل «غولدن غلوب». كان واضحاً أنه لم يكن محبوباً في مدينة لم تحب العرب والمسلمين يوماً.
لكن دور عمر الشريف استنفد مبكّراً: عُرض فيلم «تشي» عن حياة غيفارا في عام 1969، وكان أفول نجمه قد بدأ. لا شك أن الفيلم وجد موقعاً ثابتاً في كل قوائم الأفلام – تلك التي تحصي أسوأ الأفلام في القرن العشرين ـ هو بحق من أسوأ الأفلام (بصرف النظر عن السياسة)، ولم يكن لعب دور الشريف لدور تشي إلا أقلّ سوءاً للعب الممثّل الأميركي، جاك بالانس لدور كاسترو (لكن فيلم عمر الشريف، «بذر تمر الهند» مع الممثّلة جولي أندروز، هو بحق من أسوأ ما مرّ على الشاشة السينمائيّة). والناقد السينمائي في «نيويورك تايمز»، فنسنت كانبي، لاحظ بحق ان الفيلم مثّل وجهة نظر أعداء تشي غيفارا. والفيلم ينتهي بسماع أصوات معارضي غيفارا. لكن المقطع الذي استحقّ ان يُخلّد في تراث الدعاية الأميركيّة السياسيّة ظهر في لحظة إلقاء القبض على تشي في الأدغال البوليفيّة عندما يقول راوي الفيلم إن الـ«سي. آي. إي» لم تكن مشاركة بتاتاً في عمليّة إلقاء القبض على الثائر التاريخي.
عمر الشريف عاش تناقضات العربي «العالمي» في الغرب. العربي في الغرب أمام خيارات عدّة: 1) الخيار اللبناني (مع أنه هناك عرب غير لبنانيّين ممّن ينتهج هذا الخيار خصوصاً في السنوات الماضية بعد 11 أيلول)، وهو متمثّل في اعتناق الأميركيّة والمزايدة على الأميركيّين في أميركيّتهم: لو علّقوا علماً أميركيّاً واحداً على مدخل منزلهم، يعلّق بعض اللبنانيّين علميْن أو ثلاثة.
2) خيار الصمت والابتعاد عن مشاكل الهويّة والسياسة.
3) خيار التحدّي: هو ان يحافظ العربي على هويّته وعلى مواقفه السياسيّة التي جلبها معه من بلاد العرب، وان لا يدع التخويف السائد يؤثّر في تعبيره عن آرائه. عمر الشريف كان في البداية قريباً من الخيار اللبناني، لكنّه تغيّر في السنوات الأخيرة وأصبح يذمّ أميركا بكلام لا تقع عليه إلا في الخطاب الأصولي. (أما المُخرج، يوسف شاهين، فكان في كل زيارة إلى أميركا يقرّع أميركا والصهيونيّة بجرأة نادرة مقارنة بباقي الزوّار العرب).
هو لعب دور البطولة في فيلم «تشي» لكنّه عاد وذمّ الفيلم في السنوات الأخيرة. قال عنه: (بالعربيّة وليس بالإنكليزيّة، وفي مقابلات عربيّة وليس غربيّة) إنه ندم على الفيلم كثيراً وأنه علم في ما بعد ان الفيلم كان – على حدّ قوله هو – من تمويل «الفاشست الأميركيّين والمخابرات الأميركيّة» – بالحرف، وكان ينأى عن هذه اللغة في ذم أميركا في كل حواراته مع الإعلام الغربي. حسناً، لنفترض ان عمر الشريف لم يكن يعلم عن أمر تمويل الفيلم، لكن ماذا عن الحوار وعن القصّة؟ هل كان جاهلاً بالرسالة الرجعيّة للفيلم؟ حتماً، لا. كان الفيلم واضحاً في رسالته الرجعيّة ولاحظ ذلك بعض النقّاد هنا.
هو سخر في بداياته وذمّ ما قال إنه معاداة العرب لليهود، ولامَهم على «مقاطعته» من دون ان يذكر ان المقاطعة كانت سياسيّة وليست دينيّة: لم تكن مُوجّهة لدين بربارة سترايسند، كما ورد أعلاه، بل إلى صهيونيّتها. لكنّه في أحاديثه باللغة العربيّة كان شديد المعاداة لليهود، ولامهم على محاربتهم له (كما ذكر). كما ان توصيفه لليهود في أميركا كان شبيهاً بالخطاب الكلاسيكي المُعادي لليهود كيهود. كان عمر الشريف يقول في مقابلاته على الشاشات المصريّة إن اليهود «يسيطرون» على السينما وعلى كل شيء أيضاً في أميركا. وهو دعا جهاراً إلى توّحد السنة والشيعة وإلى معاداة اليهود عوضاً عن معاداة بعضهم لبعض. هو قال في مقابلة مع «الشرق الأوسط» في 4 يونيو 2004 إن «كل المسيطرين على السينما ورأس المال في العالم والمنتجين والمخرجين 90% منهم يهود».
في السياسة، كان عمر الشريف يغيّر (على طريقة ياسر عرفات) في خطابه بين لغتيْن: العربيّة والإنكليزيّة. في الإنكليزيّة، كان يقول إن أرييل شارون وياسر عرفات هما سبب الصراع العربي ـ “الإسرائيلي” وأن إبعادهما ضروري من أجل إحلال السلام (كتبت صحفيّة “إسرائيليّة” هذا الأسبوع انها عندما صدفت عمر الشريف في القاهرة في الثمانينيات أصرّ على أن تلتقط صورة له مع “إسرائيليّة”). وكان يحمّل عبد الناصر المسؤوليّة عن حرب 1967 (وكان يسمّيها «حرب الأيّام الستّة») فيما لم ينكر حتى غلاة الصهاينة في الإدارة الأميركيّة عام 1967 ان العدوّ “الإسرائيلي” هو الذي أشعل تلك الحرب. وكان عمر الشريف يروي بتحسّر ان الأميركيّين «إتّريقوا» (سخروا) منه عام 1967 بسبب الهزيمة العربيّة. لكن السؤال: لماذا سمح عمر الشريف للأميركيّين بالسخرية منه؟ تعامل الكثير من العرب هنا مع هزيمة 1967 على أنها مناسبة لشحذ الهمم ولمواجهة الحركة الصهيونيّة. لم يَدُر هذا في خلد عمر الشريف.
والرجل الذي بات يقول في السنوات الأخيرة إنه حورب في أميركا لم يكن يتعاطف مع أيٍّ من الشعوب المقهورة حول العالم. هو وجّه رسالة عن الإخاء بين المسلمين (الصوفيّين، لأن غيرهم ليسوا لائقين) واليهود (في فيلم «السيّد إبراهيم») لكنه لم يتعاطف مع الشعوب المقهورة حول العالم، ولا مع الحركة النسائية. هو صفع مُعجبة مصريّة على وجهها أمام الكاميرا قبل سنوات (من المُستبعد انه كان ستيجرّأ على صفعها لو أنها كانت أوروبيّة أو أميركيّة)، كما أنه أعتدى بالضرب على عامل مكسيكي فقير في بيفرلي هيلز ووصفه بأنه «مكسيكي مُغفّل» (ثم حاول رشوته بخمسين دولاراً بعد ان استدعى الشرطة). لكن هوفيك حبشيان (في المقالة المذكورة أعلاه في «النهار») يُطمئن القارئ ان الشريف بالرغم من اعتداءاته هذه «يحمل قلب طفل». وكلام عمر الشريف عن زميلاته في المرحلة المصريّة من بداياته السينمائيّة كان غير لائق: وصف كل نجمات السينما في مصر بأنهنّ «غير جميلات». حتى هند رستم، قال إنها لم تكن جميلة. لكن له أن يعبّر عن رأيه كما يشاء.
وفي الدين، كان يتقلّب. هو مسلم في مقابلاته بالعربيّة، ومُشكّك وبعيد عن الأديان المنظمّة في حواراته مع الإعلام الغربي. هو فخور بحفيده اليهودي في مقابلات مع الإعلام الغربي، لكنه يصرّ في مقابلاته العربيّة على أن الحفيد هذا هو مسلم. الدين هو شأنه الخاص، طبعاً، لكن عمر الشريف أفرط في محاولاته أن يمالئ الصهاينة في الغرب، واقترب من الاعتراف هذا في مقابلات منشورة له. وكان في المقابلات الغربيّة يلوم الغرب على «فرضه للديمقراطيّة» على العرب لأنهم – برأيه – قبليّون ولا تلائمهم الديمقراطيّة. هذا كان رأي عمر الشريف في شعبه، وهذا يساعد في فهم دور عمر الشريف في هوليوود.
بالرغم من الحماس والمنافسة الشديدة التي تعتمر في نفوس فناني مصر ولبنان حول العالميّة (حدّثني قبل سنوات المُخرج هاني أبو أسعد عن فكرة فيلم يضع فيها العالميّة في سياقها الحقيقي ومآل الخيبة فيها)، فإن تجربة عمر الشريف لم تكن مُشجّعة. هل عمر الشريف هو الذي اختار طوعاً مسار الأفول بسبب ولعه بالقمار وفرّط في موهبته (كما كتب سمير عطالله الذي قارنه بتجربة كرستوفر بلامِر الذي لم يتوقّف عن الإبداع) وابتعد عن الإنتاج الغربي، أم أن إبعاده عن الإنتاج الغربي هو الذي أثّر في مسار حياته (الفنيّة، إذ أن مسار حياته الشخصيّة لا يعنينا في شيء)؟ هو كان يتحدّث عن الغرب بمرارة في سنواته الأخيرة ويصف معظم أفلامه بـ«الزبالة» لأن الحاجة الماديّة (بسبب القمار) كانت تدفعه لقبول أفلام تجاريّة هابطة، وفي أدوار جدّ ثانويّة.
«نيويورك تايمز» في مرثيّتها عنه وصفت نجوميّته بأنها كانت «موجزة»، وفي هذا تحديد دقيق لتجربة ألهبت خيال الكثيرين والكثيرات في العالم العربي، وغذّت خيال معظم الفنّانين والفنّانات. الممثّل السوري، غسّان مسعود، اقترب من العالميّة في دوره في فيلم «مملكة السماء» وتعامل مع دوره ومع التجربة بوقار وحرفيّة واحترام (لنفسه ولجمهوره) لكن التجربة، فنيّاً وسياسيّاً لم تكن مشجّعة. الفيلم أهان حقائق التاريخ وصوّر المرتبة الحضاريّة للصليبيّين على أنها كانت متفوّقة على العرب (يجب الرجوع إلى رواية أسامة من منقذ في «كتاب الاعتبار» وهو يروي ما حدث مع حاكم المُنيطرة الصليبي في مسألة تتعلّق بالفارق بين الطب الأوروبي والعربي آنذاك). كما ان الفيلم تجاوز عن قصد المجازر ضد اليهود التي وقعت على أيدي الصليبيّين عندما اقتحموا القدس. ويقدّر ابن الأثير عدد الذين قُتلوا في المسجد الأقصى بـ70,000 (مرجع تاريخي غربي ذكر عدد 65,000). (يجب العودة إلى كتاب جميس رستن، «محاربون في سبيل الله»، لأنه صحّح المغالطات الغربيّة عن الحروب الصليبيّة).
لا شكّ ان عمر الشريف ترك إرثاً من الأفلام العربيّة والغربيّة، وأن أعماله ستجعله معروفاً لأجيال مقبلة. لكن شهرته في العالم العربي – وهنا المفارقة – كانت بسبب أعماله الغربيّة أكثر من أعماله العربيّة. إن الهوس بالعالميّة (وهي لم تكن هاجسه عندما كان يعمل في مصر، كما أوضح أكثر من مرّة) لا يزيد من قيمة الأعمال الفنيّة أو من الموهبة. على العكس، قد تضرّ وقد يُصاب العالمي بلعنة الثمن الذي يدفعه العربي «المقبول» (المرضي عنه) في الغرب.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@
الاخبار اللبنانية