عن أي فلسطين نتحدث وعن أي قضية – شحادة موسى
تجسَّد العمل الرسمي بالانخراط في الحرب دفاعًا عن فلسطين، وفي مقاطعة “إسرائيل”. وتجلَّى الالتزام بهذا المبدأ بعد هزيمة 1967وذلك في مؤتمر القمة العربي في الخرطوم ( أيلول/ سبتمبر 1967) الذي عُرف بقمة اللاءات الثلاثة: لا سلام، ولا اعتراف، ولا مفاوضات مع “إسرائيل”.
وعلى المستوى الشعبي تشهد أدبيات الأحزاب والمنظمات بما يؤكد هذا الالتزام الذي كان من علاماته وضع كلمة “إسرائيل” بين مزدوجين في كتابات الكتاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب.
وردًا على اتفاقية كامب ديفيد ظهر في مصر “توافق شعبي” مضاد للاتفاقية تحت شعار مقاطعة التطبيع، وقررت النقابات والاتحادات المهنية اتخاذ إجراءات عقابية بحق أي هيئة أو فرد يقيم علاقات مع كيانات “إسرائيلية”. يُذكر على سبيل المثال أنَّ اتحاد الكتاب المصريين قرر في سنة 2011 فصل الكاتب علي سالم من عضوية الاتحاد لأنه زار “إسرائيل “. ومن أحدث الإجراءات في هذا المجال قرار الاتحاد العام للنقابات الفنية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020بوقف الممثل محمد رمضان عن العمل لأنه ظهر في صورة مع “إسرائيليين” في دبي.
وامتدت مقاومة التطبيع ومقاطعة المطبِّعين الى خارج مصر وأصبح لها تأثير ردعي واضح. ويجدر التنويه هنا بجريدة القبس الكويتية التي نشرت في 15/1/2021 اعتذارًا لقرائها عن خطأ غير مقصود في عدد اليوم السابق وردت فيه كلمة “إسرائيل” بدلًا من “الكيان الصهيوني” التي تحرص الجريدة على استخدامه.
وقد أصابت الجريدة في تسمية الكيان؛ فهو كيان أوجدته الحركة الصهيونية التي هي حركة يهودية أوروبية، وأتباعها غرباء عن فلسطين.
ولكن مع التراجع الرسمي العربي والتهافت على الاعتراف “بإسرائيل” ارتفعت نبرة الداعين الى تطبيع العلاقات معها. وجرت محاولات لكسر مقاومة التطبيع بذرائع مختلفة، وحجج وطنية، أو بتجزئة المقاطعة واستثناء مجالات بعينها وخصوصًا المجال الأدبي والثقافي، أو بفذلكات لغوية.
وفي هذا المجال هناك ما يدعو الى التوقُّف عند ما ابتدعه إلياس خوري الروائي اللبناني، وذلك بالنظر الى المكانة الأدبية التي يحظى بها، والموقع الذي يشغله في رئاسة تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية.
فهو يقول إنَّ مصطلح التطبيع لا يعبِّر عن الهدف الوطني الذي يظنُّه أصحابه، وإن المصطلح ترجمة خاطئة للكلمة الإنجليزية (normalization). ولذلك،هو يدعو الى استخدام مصطلح بديل هو “التتبيع”،وأبرزه على غلاف المجلة (العدد 126)، وتوسَّع في شرحه في العدد نفسه ونسب”التتبيع” الى التبعية، وربطه سياسيًا بأنظمة الاستبداد العربية.
ومن غير الدخول في مناقشة لغوية غير مجدية نقول إن مصطلح “تتبيع” غير ملائم. فالتبعية بمعنى الخضوع والخدمة والسير وراء الآخر مشتقة من الفعل تبِعَ/ تابِع (بدون شدَّة)، وليس من الفعل “تبَّع” أو أتْبَع (= ألحق، ضمَّ). أمَّا كلمة طبَّع وتطبيع فهي صحيحة، ومن معانيها تطبيع العلاقات مع العدو. وقد ترجم حسن الكرمي، الاختصاصي اللغوي المعروف، الكلمة الإنجليزية المذكورة آنفًا الى: جعل الشيء مطابقًا لسويَّة معينة أو لحالة طبيعية أو معهودة.
ثمَّ إن التبعية السياسية لا تنعقد باتفاقيات سلام أو إقامة علاقات،وإنما باتفاقيات وإجراءات مختلفة؛ وليست هناك علاقة سببية بين التبعية والاستبداد،والدول التابعة لأميركا مثلًا في أكثريتها دول ديمقراطية. والدول العربية التابعة لأميركا معروفة وكذلك المتواطئة مع الكيان الصهيوني. وهناك مداخل لتوضيح هذه العلاقات أكثر واقعية من ربطها بالاستبداد، مثل:ضعف الانتماء القومي،والعمالة، والمصالح الشخصية، والتفاهة، وغيرها.
وفوق ذلك، فإن مصطلح “التطبيع” قد انصرف منذ البداية الى التطبيع الشعبي، أفرادًا وهيئات، وخصوصًا التطبيع الثقافي والإعلامي،وأصبح تعبيرًا شائعًا ومفهومًا على هذا النحو لدى الجميع.ولذافإن مصطلح “التتبيع” إن لم يكن ابتداعًا للالتفاف على مناهضة التطبيع، فهو في غير محله.
وكان من نتائج اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” دخول الساحة الفلسطينية في متاهة أو فوضى المصطلحات. لقد كان الاتفاق في الحقيقة اعترافًا من المنظمة بالهزيمة أمام المشروع الصهيوني، وتسليمًا بحق اليهود و”إسرائيل” بفلسطين. وأصبح لجماعة أوسلو مفاهيم ومصطلحات تتمشى مع الحالة الجديدة وتشمل فلسطين الوطن والشعب والقضية، ويُلخِّصها ما أسموه المشروع الوطني للضفة الغربية وغزة؛ وهو في حقيقته غير وطني، فلا وطنية لمشروع لا يكون مضادًا للمشروع الصهيوني ونقيضًا له.
في المقابل كان هناك رفض شعبي لأوسلو، وإدانة للذين اعترفوا “بإسرائيل” وفرَّطوا بالحقوق الوطنية. وتجسد هذا الرفض في تيَّار عريض ضمَّ فصائل مقاومة، ومنظمات سياسية ونقابية، وأصحاب نشاط سياسي وثقافي. ومن المفترض أن يكون لهذا التيَّار مصطلحات وطنية متميِّزة عن مصطلحات أوسلو. فالمصطلح ليس من المفاهيم أو الأفكار العامة، وإنما كلمة لها دلالة معينة متفق عليها (مصطلح عليها) بين المعنيين بها. غير أنَّ المنضوين تحت لواء هذا التيار يستخدمون مصطلحات بصيغ عامة لا تميزهم عن جماعة أوسلو الذين يستخدمون المصطلحات نفسها إنما في إطار أوسلو و”المشروع الوطني”. وقد أحدث ذلك حالة من الالتباس لدى تيار الرفض نفسه، ولدى جماهير شعبنا؛ لأن من هذه المصطلحات ما يوحي بالاعتراف الضمني “بإسرائيل”، وهو أمر خطير، والدافع الى كتابة هذه المقالة. فالاعتراف الضمني يمكن أن يكون مقدمة للاعتراف العلني “بإسرائيل” دولة قائمة ودائمة.
وتجنبًا للغرق في ملابسات هذه المصطلحات ومقاصد مستخدميها،من الضروري اللجوء الى معيار وطني يفصل بين القبول بوجود “إسرائيل” والرفض القطعي لوجودها؛ ويميِّز بين ما هو خاص بأوسلو وما يعبِّر فعلًا عن فلسطين والقضية الفلسطينية؛ويلتزم بالتعريف الذي وضعه الشعب الفلسطيني ممثَّلًا بالمؤتمر العربي الفلسطيني الأول (القدس، 1964)، والميثاق الذي اعتمده ونصَّ على أنّ فلسطين وطن عربي، ووحدة إقليمية لا تتجزأ، وقيام “إسرائيل” باطل من أساسه، والهدف الوطني استرداد الوطن بكامله.
تندرج المصطلحات الملتبسة في فئتين أو مجموعتين: تتعلق الأولى بالكيان الصهيوني (إسرائيل) وطبيعته وسياساته؛ وتتعلق الثانية بالفلسطينيين وما يتعرضون له من اعتداءات واضطهاد من الكيان، وبنضالهم من أجل التحرر والخلاص منه.
إنَّ مصطلح “الدولة الاستعمارية” هو الأبرز في وصف الكيان. ويُضاف اليه عادة صفة استيطاني وتشبيهه باستعمار فرنسا للجزائر، واستعمار بريطانيا لجنوب أفريقيا. وهناك من يضيف توضيحًا بالقول إنَّ الشعب الفلسطيني هو الوحيد الذي لا يزال يخضع للاستعمار.
في هذا التوصيف خطأ تاريخي ومنهجي. فالدول الاستعمارية معروفة وكذلك الحِقبة الاستعمارية (امتدت حِقبة الاستعمار الحديث من القرن الخامس عشر الى أواسط القرن العشرين). أمَّا دول الاستعمار، وهذا ما يهمنا، فكانت دولًا كاملة الأوصاف، أي تمتلك الأرض، والشعب، والسيادة. وهذا لا ينطبق على ما حصل في فلسطين. فالكيان أُنشئ مع نهاية حقبة الاستعمار، والذي استولى على فلسطين لم يكن دولة وإنما جماعات جاءت غازية من أماكن شتَّى، وبهدف طرد أهل البلاد وليس استعمارهم. وقد نجحت هذه الجماعات في مسعاها وأقامت “الكيان الصهيوني” للغزاة.
ويتفرع عن مصطلح الدولة الاستعمارية مصطلحات ذات صلة، مثل الاحتلال، والاستقلال. مرة أخرى، الاحتلال الصهيوني كان احتلالاً/غزوًا استئصاليًا وليس استعماريًا. ولذا فإلباس الكيان هذه المُسمَّيات خطأٌ منهجي ومفهوم أوسلوي ينبغي لتيَّار الرفض الابتعاد عنه.وبغير ذلك تختلط الأمور على الجمهور ولا يَتيقَّن من المعنى المقصود. ونجد مثالاً نموذجيًا لهذه الحالة في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي تُعدُّ الأشدُّ رفضًا لأوسلو من بين فصائل منظمة التحرير. من المعروف عن الجبهة وعن الحركة الأمّ، حركة القوميين العرب، رفضها القاطع للاعتراف “بإسرائيل”، وإيمانها المطلق بإزالة هذا الكيان من الوجود. ومع ذلك نسمع على سبيل المثال، ليلى خالد القيادية المعروفة في الجبهة، عندما تتحدث عن العمليات الفدائية في الضفة الغربية، تردد قاعدة ثورية صحيحة تاريخيًا وإنسانيًا وهي: “أينما يوجد احتلال توجد مقاومة”. وفي السياق نفسه يُلاحظ أنَّ الجبهة تُعلن عن إحياء ذكرى الاستقلال في التاريخ الذي أُعلن فيه في الجزائر سنة 1988. فهل ينطبق هذا الكلام على اي مكان غير الضفة الغربية؟ وهل له من معنى غير أنَّ هناك دولة احتلال (اسرائيل)، وأرض محتلة (الضفة الغربية)، وشعبها (فلسطيني) يطالب بالاستقلال؟ هذا هو منطق أوسلو، والاعتراف الضمني ب”إسرائيل”.
ويظهر من متابعة الحوارات والكتابات أنَّ مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، هو الأكثر تركيزًا على مصطلح العنصرية والتمييز العنصري، وتشبيه ممارسات “الاحتلال الإسرائيلي” بنظام الفصل العنصري (أبرتايدapartheid(الذي ساد في جنوب أفريقيا في القرن الماضي.
أمَّا مصطلح أو صفة الفاشية فالأكثر تركيزًا على استخدامها هو إلياس خوري. وهو يربط بين الفاشية في “إسرائيل” والفاشية والاستبداد في الدول العربية، وذكر في أحد حواراته أنه يعجب كيف أنَّ حزب الله الذي يقاوم الفاشية “الإسرائيلية” يذهب ليقاتل الى جانب نظام فاشي في سورية، فالفاشية واحدة.
المشكلة في هذه المقاربات أنها تُغفل أنَّ الحركة الوطنية الفلسطينية لا تقاتل من أجل تنقية الكيان الصهيوني من شوائب العنصرية والفاشية، وإنما من أجل القضاء على الكيان نفسه بصفته الأساسية كيانًا غير شرعي. وهذا لا يُغفل أن العنصرية والفاشية من العناصر الأساسية التكوينية في الصهيونية؛ إنمَّا يربط الاستخدام الملائم للمصطلح بالأصل.
وليس المقصود هنا حملات الانتقاد والإدانة لممارسات سلطات الكيان وجنوده بحق الفلسطينيين ومنها: هدم البيوت، والاستيلاء على الأراضي، والاعتقال، والقتل، والاعتداء والإهانة خصوصًا على الأطفال والنساء والمسنين، وغيرها مما يكشف مدى الحقد والكراهية التي يحملها هؤلاء تجاه الفلسطينيين. وإنما المقصود المصطلحات التي يستخدمها فلسطينيون وغيرهم من المناصرين والمتعاطفين معهم للدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم في “دولة إسرائيل”.
من هذه المصطلحات: العدالة للفلسطينيين؛ مناهضة التمييز والظلم “الإسرائيلي”؛ النضال من أجل الحصول على الحقوق السياسية والمدنية والانسانية، وغيرها ممَّا يمكن إدراجه تحت شعار “الدولة الواحدة”. وهذا الشعار موضع سجال في الساحة الفلسطينية منذ سنوات، وهو برأينا شعار افتراضي وليس في وقته.
ولذا فهذه المصطلحات، على مظهرها الوطني ومقصد أصحابها النبيل، تعبير عن مقاربة ترى القضية الفلسطينية قضيةَ حقوق لدى “إسرائيل”، وهنا تكمن الخطورة. فالحركة الوطنية لا تناضل من أجل تحسين ظروف حياتها تحت حكم “إسرائيل” وإنما من أجل القضاء عليها، وهذا هو معنى صراع الوجود.
وعلى أي حال، فقد كان عزمي بشارة الأكثر وضوحًا ودقة في التعبير عن مسألة الحقوق فيما يخص الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وطرح رؤيته في كتاب “العرب في إسرائيل” وتتلخص في: العمل من أجل الاعتراف بالفلسطينيين في “إسرائيل” أقليَّة قومية، والانتقال من المطالبة بإزالة التمييز الى المساواة الكاملة، و”إسرائيل” دولة لكل مواطنيها.
وهكذا؛ فإن الاستخدام العائم وغير المحدَّد للمصطلحات يؤدي الى تشويش وإرباك لدى الجمهور، ويجعلها تلتقي مع مقاصد أهل أوسلو الذين يستخدمون المصطلحات نفسها. هذه المصطلحات كثيرة؛ منها ما يتعلق بفلسطين الوطن والشعب، وبالكيان الصهيوني وطبيعته وممارساته؛ ومنها ما يتعلق بالمقاومة والتأييد للفلسطينيين في نضالهم من أجل حقِّهم وحقوقهم.
وإذا كانت جماعة أوسلو تستخدم هذه المصطلحات بما ينسجم مع اعترافهم الرسمي “بإسرائيل”؛ فإن استخدامها من جانب التيار الرافض لأوسلو ينطوي ، في حالات كثيرة، على الاعتراف الضمني “بإسرائيل” ويُخشى أن يكون مقدمة للاعتراف الرسمي بها دولةً قائمة ودائمة.
لذلك أصبح من الضروري وضع مدوَّنة وطنية للمصطلحات تنسجم مع الثوابت الوطنية ويسترشد بها الرافضون لأوسلو في المبدأ والنهج. فقد كان أوسلو “الشِّق الفلسطيني” المكمِّل للمشروع الصهيوني في الاستيطان والتهويد، وفي المصطلحات والمفاهيم التي عبثت بفلسطين الهوية والتاريخ. وفي غضون ذلك يمكن للمعنيِّين في الحركة الوطنية أن يَتميَّزوا في استخدام المصطلحات استنادًا الى المبادئ المُجسَّدة في الميثاق القومي الذي اعتمده المؤتمر العربي الفلسطيني الأول سنة 1964، ومنها:
- فلسطين وطن عربي، وهي بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ. فلا يُلفظ اسم فلسطين إلَّا بهذا المعنى.
- الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين أقاموا في فلسطين حتى عام 1947 سواءٌ من إُخرج منها أو بقي فيها وكل من وُلد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني؛
- قيام” إسرائيل” باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن؛ والمسمَّى الصحيح لها هو “الكيان الصهيوني في فلسطين”، وهو كيان غير شرعي ولا يجوز تجزئته الى كيان شرعي (في الأراضي المحتلة سنة 1948) واحتلال غير شرعي (في الضفة والقطاع)؛ فكلُّه غير شرعي. ولا يقوم في فلسطين كيان أو وطن غير عربي.
- الهدف الوطني هو استرداد فلسطين بكاملها؛ والمقاومة أينما وقعت هي مقاومة الكيان بهدف القضاء عليه وليس الاستقلال عنه أو التصالح معه. ولا يجوز تجزئة المقاومة الى مقاومات ومطالبات؛ هي عمل نضالي يستهدف الكيان أينما وُجد جنوده ومستوطنوه ولا تتوقف إلَّا بإنجاز الهدف وتحرير فلسطين كاملة.
- وأخيرًا فإن القضية الفلسطينية عادت كما كانت منذ البداية؛ صراع مع الصهيونية والكيان الذي أنشأته في فلسطين باسم “إسرائيل”، ولا تنتهي القضية إلَّا بانتهاء الكيان فهما لا يلتقيان.
عن أي فلسطين نتحدث وعن أي قضية
فوضى المصطلحات وبدعة التتبيع والاعتراف الضمني “بإسرائيل”
شحادة موسى – كاتب فلسطيني
حزيران/ يونيو 2021