عن الصين ..والكورونا..وبؤس حال( العرب) رشاد أبوشاور
عام 1971 زرت الصين.
في شهر أيّار، وكانت المناسبة احتفالية تضامنية كبرى مع الشعب الفلسطيني ودعمه في كفاحه لتحرير وطنه ونيل حقوقه وتقريره لمصيره.
اتصل بي صديقي حنا مقبل- رحمه الله- وسألني: أتحب أن تسافر إلى الصين؟
يا إلهي : أهذا سؤال يا أبا ثائر..طبعا أحب.
وبسرعة أخبرني:
جهز جواز سفرك للسفر غدا…
كنت في دمشق..وفي اليوم التالي كنا في الطائرة المتجهة للقاهرة، ومن هناك إلى هونغ كونغ..وفي اليوم التالي بالقطار إلى أول مدينة صينية – كان العلم البريطاني ما زال يرفرف في سماء هونغ كونغ- كانتون..ثم إلى بيكين ( بيجين).
نزلت مع آخرين في فندق يطل على ساحة الاحتفالات الكبرى( الساحة السماوية)..وفي صدر الساحة قصر الشعب حيث تقام الاحتفالات في المناسبات الكبرى..والتي أقيم فيها احتفال مذهل انحيازا لفلسطين وشعبها وثورتها.
صحفيون عرب دعوا للحضور بالمناسبة: من لبنان، المغرب، تونس، سورية، الكويت..وطبعا فلسطين.
أذكر أننا كنا ستة عشر صحفيا عربيا.
من النافذة المطلة رأيت الناس يتدفقون في الساحة، ويندفعون على سيل من الدراجات، وكلهم يرتدون ملابس سفاري رمادية، فلا تميز أحدا عن أحد، فكلهم سواسية..وكلهم على دراجات يتوجهون إلى أعمالهم بصمت وهدوء..وكأنهم نهر بشري دفّاق.
أول انطباع تكوّن لدي: التواضع، الهدوء، المساواة…
لا أريد أن أكتب عن تلك الرحلة التي بقيت علامة في ذاكرتي، ومعرفتي، وفهمي المبكّر لما تعد به الصين، ولما تسعى إليه بطموح ..وصلت به إلى ما وصلت إليه.
عندما استقبلنا رئيس الوزراء الصيني العظيم شو إن لاي..كان ينتظر في مدخل مكتبه. صافحنا جميعا بحرارة، ثم أمسك بيدي، واتجه إلى كرسيه وأجلسني بجواره تماما – وهذا تكريما لفلسطين – وبدأ كلامه وهو يجيل نظره في وجوهنا، ويرفع يديه عاليا، ويرسم بإصبعي يديه اليسرى واليمنى..الإبهام والشاهد نصفي دائرة..ويقرب النصفين من بعضهما بحيث تلتقيان، ويخاطبنا: أنتم العرب اتحدوا..نحن الصين..وأنتم..إذا ما اتحدتم سنمسك العالم هكذا..هكذا…
كانت الصين تبني نهضتها وتأخذ موقعها بين الأمم..وقد بلغت ما بلغته للأسباب التالية:
أولاً: الصين حررتها قيادة عظيمة تقود حزبا عظيما، أبدعت في كل مراحل مسيرتها العظيمة، وتخطت كل العوائق، وهزمت كل أعدائها، ولم تساوم على تحرر الصين، ووحدتها، ونهوضها..وأخذ مكانها اللائق في العالم..قيادة عرفت وانتمت لعراقة أمتها.
ثانيا: القيادة الصينية العظيمة، والحزب الشيوعي الصيني العظيم، لم يتعاليا على الشعب الصيني، ونشرا روح المساواة، وعملا على نشر ثقافة الانتماء والمساواة والعمل..وتجاوز الأخطاء في التطبيق، والتغلّب على العقبات المستوطنة والمعيقة لنهوض الأمة الصينية وتطورها…
ثالثا: القيادة الصينية..وقائدها ماو..أنجزوا اشتراكية تتناسب مع واقع الصين، وثقافتها، وحضارتها، فنهضة الأمة الصينية تتحقق بوحدتها في بلد واحد ودولة واحدة – والصين ما زالت تعمل على استعادة فرموزا..الصين الوطنية التي انفصل بها تشان كاي تشك – إلى الأمة..إلى الصين الواحدة.
رابعاً: سعت الصين بقيادة حزبها الشيوعي الصيني، بقيادة ماو لامتلاك السلاح النووي ..الذي رفض الاتحاد السوفييتي تزويدها بأسراره..وانظروا أين وصلت الصين سلاحا، وعلما، وتكنولوجيا!.
خامساً: الصين التي فرض الاستعمار البريطاني المجرم والحقير أن تبيح دخول الأفيون..وبالقوة، بالمدافع..ووصل الأمر أن الصينيين كانوا يموتون في الشوارع..ويحملون جيفا لترمى جثثهم في الزبالة وتحرق!
الصين هذه هي التي تملأ العالم بصناعاتها: ملابس، وأدوات يحتاجها الناس في بيوتهم، وكمبيوترات، وهواتف، وتلفزيونات..وفناجين وصحون ودشاديش..ومنشطات لحكام( العرب)!
منذ لقائنا برئيس وزراء الصين العظيم – يوصف بالأسطوري- وحتى يومنا هذا..وهو أحد أيام جائحة الكورونا..أنظروا أين وصلت الصين، واسألوا أنفسكم أيها العرب سؤالاً واحدا: كيف حققت الصين كل هذا..وإلى أين تمضي، وماذا ستحقق؟!
الصين ترسل المساعدات الطبية، وخبراء علاج الكورونا..إلى إيطاليا الأوربية المتحضرة العريقة!، وهي تفعل هذا في حين تخلت أوروبا عن إيطاليا..وتخلت عنها أمريكا ترامب!
الصين بهذا توجه رسالة إلى كل أمم وشعوب العالم: نحن أصدقاء وشركاء على هذه الأرض..وهذا هو الفرق بين الصين ..والإمبراطورية الأمريكية وتوابعها!
هل تابعتم ما أنجزته الصين في مكافحتها للكورونا؟!
مستشفى هائل يبنى في عشرة أيّام بكل تجهيزاته، وأطقم طبيّة تعمل ليل نهار للعناية بصحة أمتها، وحملة تنظيم دقيقة للمجتمع الصيني..يستجيب لها ويتفاعل معها بكل انضباط..وقيادة تدير ( الحرب) على الكورونا وتحقق نجاحات تبهر العالم ..بينما أوروبا والإمبراطورية ترتجفان أمام الكورونا!!
قرأت كتابا قبل سنوات يطرح سؤالاً شديد الأهمية: لماذا تخلفت الصين..والعرب، في حين أن هاتين الأمتين كانتا متقدمتين حضاريا، عندما كان الغرب يغرق في الظلام والتخلّف والجهل؟!
الصين تجاوزت تخلفها ونهضت، وها هي تبهر العالم..وتتقدم، وتأخذ موقعها اللائق بها، ليس ادعاءً، ولكن بقوة اقتصادية وسياسية وعلمية..لأمة باتت قوية حيوية، واستعادت حضورها العريق المهيب اللائق بها…
كلمة السر في كل هذا: وحدة الأمة الصينية..بقيادة عظيمة مخلصة تنتمي حقا لأمتها ووطنها..قيادة لا تضع الملايين والمليارات في حساباتها في بنوك أمريكا..والغرب…
هذا ليس حديث الذكريات، ولكنني أكتب معجبا بالصين، وقياداتها المتتالية، ونهجها، ووفائها لتاريخها وعراقتها وحاضر أجيالها..ومستقبلهم.
وعندي حسرة على تبديد حكام التبعية لكل عوامل قوة ونهوض أمتنا بوحدتها وثرواتها وفي مقدمتها الإنسان العربي…
وللحديث بقية.
*نشرت المؤتمر الصحفي مع رئيس الوزراء شو أن لاي في مجلة ( إلى الأمام) بعد عودتي من الصين..ونشرت عدّة مقالات عن مشاهداتي في مجلة ( صوت فلسطين) التي كن يصدرها جيش التحرير الفلسطيني…
ذات يوم حضر ( الرفيق) إبراهيم..الملحق الصحفي الصيني..إلى مجلة ( فتح) الأسبوعية..واندفع إلي معانقا بحرارة..ثم باح بسر هذا العناق الحار: لقد نشروا مقالتك عن زيارتك في صحيفة ( جيمنجباو..صوت الشعب) على الصفحة الأولى…
عن الصين ..والكورونا..وبؤس حال( العرب) رشاد أبوشاور