عن خطبة عباس في إسطنبول- معين الطاهر
على غير المعتاد، ارتفع صوت الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في مؤتمر القمة الإسلامية في إسطنبول، واختلفت نبرته السياسية. بدت الخطبة وكأنّها خطبة وداع مرحلة بدأت تغيب، وماضٍ أتعب الرجل وأتعبنا معه، حُرفت خلاله بوصلة المشروع الوطني الفلسطيني عن أهدافها ومراميها، قبل أن ينتبه، في خطبته الأخيرة، إليها، ويستدرك مخاطر هذا الانحراف، ويحاول بخجل أن يستعيد البوصلة، فيما يشبه تلك الجلسات التنظيمية القديمة لحركة فتح، أيام كان يمارس فيها النقد الذاتي، فيقف ليستذكر أخطاء المرحلة التي هو ضالع في رسم سياساتها، ويكشف بعض المستور فيها.
هاجم الرئيس محمود عباس، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشدة، على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة الكيان الصهيوني، وشبّهه بتصريح بلفور، بوصفه تصرّف من لا يملك بما لا يملك. وأعلن أنّ الولايات المتحدة بذلك تفقد أهليتها وسيطا في عملية السلام، ولن يقبل بأن يكون لها دور في العملية السياسية لأنّها منحازة لإسرائيل. وصرّح أنّه يعتزم تقديم شكوى أمام مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة بسبب اعترافها بالقدس، وفق الفصل السادس البند الثالث والمادة 27، وهو إجراءٌ محمودٌ، وتتوفر له عوامل النجاح، ويساهم في عزلة إسرائيل والولايات المتحدة ذاتها.
كشف الرئيس، في خطبته، عن سبب إحجام منظمة التحرير عن الانضمام إلى المنظمات الدولية الرئيسة، وهو ما كان يُحيّر الجمهورين، الفلسطيني والعربي، وتبيّن أنّ هناك تعهدًا من المنظمة بعدم الإقدام على ذلك، وعدم ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة أمام المحاكم الدولية، لكنّ الحديث كان دومًا عن الماضي. لم يقل لنا ولم نسمع منه عن نية المنظمة أو السلطة الوطنية الفلسطينية التقدّم بشكوى لملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام محكمة الجنايات، بعد توقيع الأخير، الأسبوع الماضي، على قرار بناء سبعة آلاف وحدة
استيطانية في القدس، والطريق إلى محكمة الجنايات باتت معبدة، بعد أن أقرّ المدعي العام، في تقريره، المؤرخ بالرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، بأنّ الاستيطان جريمة حرب. ولا يمكن تبرير تأخر منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين في تقديم المسؤولين الإسرائيليين إلى المحاكمة بعد الآن، ولا السكوت عنه، وهو خطوة مهمة على طريق مواجهة الاستيطان وإنهاء الاحتلال.
وكما أنّ الموقف من الولايات المتحدة مرتبط باستمرار اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، أي أنّه موقف ما زال خاضعًا للمساومة على هذه الجزئية على أهميتها، مع أنّ تراجعها، بفرض حصوله، لن ينفي استمرار انحيازها للكيان الصهيوني، وهو أمر معلومٌ لم نكن بحاجة إلى هذا الدليل الجديد لتأكيده. كذلك هو الموقف من الاحتلال ومن اتفاق أوسلو. فثمّة إقرارٌ واضح في جمل متفرقة في الخطبة بإخفاق اتفاق أوسلو، وبأنّ السلطة بلا سلطة، وأنّ على الاحتلال أن يتحمل مسؤولياته باعتباره جيشا محتلا، في تهديد واضح بحل السلطة، إلّا أنّ ذلك كله يقع في إطار الجمل الشرطية، مثل إذا استمروا غير ملتزمين فنحن غير ملتزمين! أو وقت اللزوم أو عندما يلزم.
لكنّ الرئيس محمود عباس يتجنب تمامًا تحديد متى يلزم ذلك، وهل سيتخذ قرارًا بشأن اتفاق أوسلو وتحميل الاحتلال مسؤولياته أم لا.
جميل أن يتساءل الرئيس محمود عباس “كيف يمكن لدول العالم أن تستمر في الاعتراف بإسرائيل؟”، ويطالبها بسحب اعترافها، لأنّ إسرائيل لا حدود لها، وأن يشير إلى أنّها تجاوزت قرار التقسيم، واحتلت أرضًا إضافية. لكن هل تشمل هذه المطالبة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، والتي اعترفت بإسرائيل في اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ) في مقابل اعتراف إسرائيل بصفتها التمثيلية؟ أليس من الأوْلى أن يبادر هو، وفورًا، بسحب اعترافه بإسرائيل وإلغاء الاتفاق؟.
وحسنٌ أيضًا أن يطالب بأن تشكّل الأمم المتحدة آلية جديدة، بدلًا من مرجعية الولايات المتحدة في عملية السلام. ولكن هل لنا أن نتّعظ من الماضي، ومن شروط الرباعية والمبعوث الأميركي، وأن نقول إنّ هذه الآلية المفترضة ليست جديدة للمفاوضات تحت سقف الأمم المتحدة، وإنّما هي آلية تضعها المنظمات الدولية لتطبيق قراراتها المتعدّدة بقوة المجتمع الدولي؟ هي آلية لا تحتاج إلى تفاوض، ولا تلزمنا بتنازل واعتراف، ولا تضع حلولًا لقضايا وحدود ومسائل متنازع عليها، وهي آلية يمكن تطبيقها ضمن مدى أقصر من الذي استغرقته المفاوضات العبثية والاتفاقات المهينة، إذا تضافرت مع زخم النضال الفلسطيني، وعزلة إسرائيل التي تمثّل النموذج الأخير في العالم للاحتلال العسكري والتمييز العنصري.
من حق الجمهور، الفلسطيني والعربي، أن يفرح بخطبة محمود عباس، ولكن من حقه أيضًا أن يتساءل عمّا بعدها، وعن حقيقة القرارات التي يعتزم الرئيس اتخاذها والسير بها. يأمل الجمهور أن تكون إعلانًا عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، لكنّ الخطبة الممتلئة بالتأجيل والتسويف والانتظار تجعله يخاف ويتذكّر خطبة الرئيس في اجتياح غزة عام 2014 حين هُلّل لاستخدامه الآية الكريمة التي تقول “أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير”. يومها قرّر الجمهور أنّ عباس على وشك اتخاذ قرار مهم، وإسدال الستار على مرحلة انتهت، لكنّه لم يفعل.
لم يعقد الرئيس محمود عباس اجتماعًا واحدًا لأي من الأطر القيادية في حركة فتح أو السلطة أو منظمة التحرير، لا قبل قمة إسطنبول ولا بعدها، حتى تاريخ كتابة هذه المقالة. ولعلّ هذا يدل على أنّ القرارات التي يعتزم اتخاذها غير واضحة لديه، على الأقل في تفصيلاتها. ولا يريد أن يُلزم نفسه بقراراتٍ قد تأتي نتيجة اقتراح من هنا أو هناك خلال هذه الاجتماعات. بالنسبة له، حقق هدفًا كان يعتقد قبل مبادرة ترامب أنّه يستحيل عليه مواجهته، وهو رفض المشروع الأميركي للتسوية، والذي تبنّته دول عربية من دون استشارته.
لم يكن الرئيس عباس، على الرغم من انخراطه الكامل في مشروع التسوية، قادرًا على قبول هذا المشروع، فهو أدنى بكثير ممّا يستطيع تحمّله وقبوله، لذلك لم يكن واردًا أن يوقّع عليه. ولم يكن قادرًا على مواجهته، أو راغبًا في ذلك، أو عازمًا عليه. كان يسعى إلى كسب الوقت، وتجميد الأمور حيث هي، إلى أن جاء اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، فوجدها فرصته المواتية للتخلص نهائيًا من هذا المشروع. اتخذ هذا القرار، لكنّه ما زال مترددًا فيما بعده.
يدرك الرئيس محمود عباس أنّ ثمّة مرحلة انتهت أو تكاد، وقد بنى كل آماله ومشروعه السياسي عليها، هو ما زال متعلقًا بها، ويأمل أن يُعاد إحياؤها من جديد بوسائل وأدوات، وربما مرجعيات جديدة، تكفل له المراوحة في المكان ذاته. هو لن يستطيع أن يتعايش أو يقود مرحلة جديدة، لا تتضمن اتفاقا مثل أوسلو وحل الدولتين، مهما صغرت دولته يومًا بعد يوم. لن يستطيع الانتقال إلى مشروع آخر، يختلف جذريًا عن مشروعه للسلام. لذا سيسعى من جديد إلى تجميد الأمور عند حدود مقبولة للأطراف كلها.
لن يوقّع على حل نهائي مع الصهاينة والأميركان، ولن يكون هذا الحل متاحًا بعد قرارات ترامب، مهما حظي بتطبيع وموافقة عربية رسمية. كل ما سيسعى إليه تجنب قرارات ومواجهات كبرى، وكسب للوقت، ومراوحة في المكان، أمّا التغيير الحقيقي فلن يكون إلّا عبر انتفاضة كبرى، وملاحقة شاملة لإسرائيل في المحافل الدولية، وهذا ما سيُحدّد ملامح المرحلة المقبلة ونخبها وقادتها.