عين لفتا: وجيهة يحيي حمودة الدخول في حيز الذاكرة- د.فيحاء عبد الهادي
كل رواية فلسطينية لها نكهتها، وسرّها، وإضاءتها، وكشفها. يروي الفلسطينيون ذكرياتهم، معجونة بالحنين، والألم، والأمل.
الحنين إلى الماضي الجميل، والألم مما حدث، وما يحدث، وما يمكن أن يحدث، والأمل بالعودة.
يبدؤون من الزاوية التي عايشوها، وأثَّرت في مجمل حياتهم. البعض يبدأ من الماضي الجميل، الذي يرغبون في استعادته، والبعض يبدأ من اللحظة الراهنة المؤلمة، والكثير منهم يبدؤون من اللحظة الماضية الأشد إيلاماً، حين اقتلعوا من وطنهم.
تتنوَّع التفاصيل؛ لكن الروايات، جلَّها، تتفق على عناصر تقوم عليها الرواية الفلسطينية الجماعية، عن النكبة، وتكشف زيف الرواية الصهيونية.
*****
تروي “وجيهة حمودة”، عن الماضي الجميل، عن بلدها/لفتا، التي طالما عاش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، باحترام ومحبة؛ فتنقض الرواية الصهيونية ببساطة وتلقائية:
“والله لفتا عروسة، كانت مفتاح؛ لأنه بتروح من باب الواد على يافا وحيفا. لفتا فيها عين، بتظلّها مفتوحة، ما بتنشف لا شتا ولا صيف. كنّا مبسوطين في بلادنا كثير. فِشّ خوف! كلنا ع قلب واحد.
يا باي ما أحلاه أيام زمان! يوم يصير الأفراح، كل الحمايل يبقوا مع بعض، يطبخوا مع بعض، ويسهروا أسبوع كامل، يستنّوا يوم القمر يطلع، ويعملوا لك هالسّحجة! إشي بِجنّن كان.
كان فيه زيتون، وكان فيه اللوزيّات كلها، وبرقوق وفاكهة وخضرة، كل واحد إله حاكورته، وإله شجرة قدّامه. كل بيت فيه كل شي بلزم. صار نهضة كبيرة للتعليم. لفتا كانت تنعدّ أكبر قرية في قضا القدس، ونحنا كنّا منفتحين كثير، كان فيه مدرسة شنلّر للألمان، كانوا يبعثوا الناس أولادهم وهمّه زغار شويّ يتعلّموا فيها، عبين ما يكبروا، والله كانت بلادنا ما فيه مثلها، كنّا في جنّة وطلعنا ع النار!
لفتا مقدّسة إلنا، اليهود بدهم يعملوها سياحية، احتجّوا عليها أهل لفتا، محكمة، كسبوا الدعوى، بس هلّأ هجمة جديدة، بدهم يقيموا البيوت، كلها أثرية، بدهم يعملوها قال: أثرية إسرائيلية!
ما كانش فيه تعصُّب أبداً، كان كل واحد يصلّي ويعرف دينه، بسّ ما كانش الحجاب ولا كان جلباب، التطريز كان وخِرقة، وبعدين فيه عائلات يحطّوا سكارف، والشعر مبيّن، وهاي كان لبسنا.
إحنا الشعب الفلسطيني ما عنده عنصرية ولا تفرقة، عيد الميلاد الكريسماس والإيستر نعيّد معهم! كلنا شعب واحد. اليهود العرب كانوا مناح، ما كانوش يحبّوا الهاغاناه، هاي اللّي أجوا هدول الجداد، بسْ أقلية كانوا، يحكوا عربي ويلبسوا كنابيز، زيّنا زيّهم. كان عنّا مستوصف فتحوه اليهود، كنّا نروح كلنا نتحكّم فيه بشلن، والفقير ما ياخذوش منه. كنّا عايشين ومتأقلمين معهم”.
*****
وتروي عن يوم التهجير، حين كانت شاهدة على مجزرة رهيبة، حدثت أمام قهوة القرية، واستمرَّت داخل البيوت الآمنة؛ راح ضحيتها أكثر من 10 شباب؛ مما جعل الناس تفرّ طلباً للنجاة. وهذا ما ينقض الرواية الصهيونية، التي تزعم أن الاعتداء جاء من العرب على الدولة الصهيونية الوليدة، وأن الناس رحلت طواعية، وأنه لم يكن هناك ضحايا:
“يوم قرّبوا يطلعوا الإنجليز، فتحوا الأسلحة كلهم وأعطوها لليهود، والعرب فِشّ أسلحة فشّ إشي!
يوم من الأيام، الدنيا ربيع، وفيه قهوة “سال عيسى” اسمها، هاي الّلي كانت ع الشارع، ما شافوا إلّا باص راح وقّف وكلهم مسلّحين يهود، نزلوا وصاروا يرشّوا، والناس يا حرام فعفطوا ع الدور، لحقونا، صاروا يرشّوا. عدد الأشخاص الّلي استشهدوا 11 وأكثر، أذكر واحد اسمه الحج “صقر شنّك”، و”عبد” إبنه مات في الطريق. وكنّا سامعين كمان اللي صار في دير ياسين. إحنا ما قبلنا نطلع، ما شفناهم إلاّ صاروا ينسفوا بيوت ع الّلي فيهم، نسفوا بيت “أبو ندى”؛ سحبنا حالنا ومشينا على بيت حنينا، ودشّرنا البيوت مفتّحة! لوصلنا رام الله. رجعنا بعد أسبوعين على لفتا، لقينا جارتنا روسية الأصل: “جيفيت كريمل”، حاطّة إعلان على إنه هدول في تل أبيب، مشان ما يحجزوا العفش، والهاغاناه ما صدّقوها، حطّت إيديها بدهاش اتدخّلهم، ورّتنا إيدها جارحينها، وقعّدوا ناس محلنا”.
*****
ارتبط اسم “وجيهة حمودة” باسم والدها: المحامي “يحيي اسماعيل حمودة”، الرئيس الثاني لمنظمة التحرير الفلسطينية. توطَّدت العلاقة بين الابنة والوالد؛ بسبب الصفات المتميزة التي جمعت بينهما: الشخصية القوية، وصلابة المبدأ، والإرادة الحديدية، وعشق الوطن، والميول اليسارية، والعمل بشكل مستقل عن الأحزاب السياسية.
ومن القدس، إلى رام الله بعد تهجير عام 1948، إلى دمشق؛ تنقل الوالد، والتحقت به الابنة البارة:
“أنا ما كُنتش أعرف الخوف، مرَّة بدّي أروح على أبوي لما طلع على سوريا.
مرّة صارت معي نادرة، صار بين مصر وبين الأردن قطيعة تقريباً، واتّهموا مصر، وكانت السفارة المصرية جنب المستشفى الفرنسي في القدس، كانت عمتي نايمة بالمستشفى، أخلّيهم ليروح الحرس؛ من باب المطبخ، آخذ مناشير من الشيوعية ومن البعثيين، ألفّهم بشقفة قماش أودّيهم لمصر، وآخذ جرايدهم. ما زقطوني. مرّة شافوني وأنا معي الجرايد؛ صاروا وين ما أمشي يلحقوني، اتّهموني إنه أنا في جهات معادية”.
وحين لجأ الوالد إلى سوريا، بعد ملاحقته في الأردن، ووصوله متخفياً؛ بسبب انتمائه للجبهة الوطنية الفلسطينية المقاومة للاستعمار؛ التحقت به الابنة، مع أنها لم تمتلك جواز سفر خاصا بها. استعانت بجواز سفر ابنة عمها، الذي لم يكن يحتوي على صورة. وحين سافر إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم إلى ألمانيا لحضور مؤتمر دولي، وبقي هناك خمس سنوات، بسبب التضييق عليه في سوريا؛ تدبَّرت اللحاق به، من خلال صديق الوالد “عبد الحميد السرّاج”، الذي ساعدها في السفر إلى الكويت عام 1958، كعضوة في وفد، لحضور المؤتمر الرابع للأدباء العرب.
*****
فقيدتنا الغالية، ابنة القدس/عين لفتا،
تمنيتِ العودة بجوارحك، وعملتِ من أجلها،
اطمئني، ما زال أبناؤك وأحفادك يناضلون من أجل العودة، ويعملون للحفاظ على القرية كموروث ثقافي فلسطيني، في مواجهة مخططات التهويد الصهيونية.
سوف نردِّد النشيد الذي طالما أنشدتِ، وسوف تبقى سيرة كفاحك حية، في ذاكرة محبيك وذاكرة فلسطين:
“سأهتف باسمك ما قد حييت تعيش بلادي ويحيا الوطن”.