عيون حمراء كالجمر – رشاد أبوشاور
مراسل خفيف دم تساءل أيكون هذا اليوم هو عيد للبكاء وجد في زمن بعيد، والشعب يستعيده، ولا علم للدولة به هي وأجهزتها الأمنيّة؟
فانتازيا مُحتملة الحدوث.
**
كأنما اتفقوا على هذا الأمر. استيقظوا من نومهم القلق، وفتحوا نوافذ بيوتهم وتأملوا السماء الرصاصيّة الخفيفة العتمة، وتنهدوا بأصوات مرتفعة نافثين غضباً ترسخ في الصدور منذ ردح من الزمن، فتلاقت تنهداتهم الآسفة المحتجة.
تأملوا أجساد أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم، وقلّبوا أيديهم بعجز، ثم غادروا بيتوهم من دون أن يلتفتوا خلفهم، وفي الشوارع علت الجلبة مع الخيوط الأولى للفجر.
لم يكن زحفهم الصامت يفصح عن شىء بالكلام، بل بالهمهمة المبهمة والدموع، والمزيد من الدموع، واختلاجات الأجساد، وارتجاف الأيدي، واحمرار العيون من سهر وغّل ونكد وقهر.
مشوا من دون اتفاق، وداروا في الشوارع بلا هدف محدد، وعندما تنبهت شرطة المرور التي تسيقظ مبكراً لمطاردة السائقين، كما اعتادت، لمعاقبتهم بمخلفات تتراكم مالاً في خزينة الدولة، بهت رجالها، واحتاروا في ما يرون، فهذه الحشود الهائمة تبكي من دون أن تقول شيئاً، وهي لا تكف عن البكاء.
أتكون جنازة كبيرة لفقيد شديد الأهميّة؟ لكن الإذاعة لا تبث آيات من القرآن الكريم! فما الأمر إذاً؟
مروا عبر الجموع شاقين طريقاً لسياراتهم ذات الأبواق التي تشبه صوت الأبقار، فتيقنوا أن الشوارع تغص بالرجال، وأن النساء بدأن أيضاً يتدفقن، ولكنهن لا يندبن، بل يحملن أطفالاً وطفلات على أكتافهن، أو على صدورهن، ورغم أنهم، وأنهن صغار ويبكون فإنهن لا يرضعنهم، ويجرجرن أطفالاً قادرين على المشي، وهم أيضاً يبكون ويرفعون رؤوسهم إلى وجوه أمهات لا يتسجبن لنظراتهم المتوسلة.
ذهل أفراد الشرطة وأوقفوا سياراتهم وكفوا عن إطلاق أبواقها، وانهمكوا في الاتصال بمرؤوسيهم بأصوات مرتجفة، فالمدينة تخرج من البيوت، والناس يبكون ويبكون ويبكون، ويزحفون في الشوارع ويلتفون بها من دون وجهات محددة، والمدهش أنهم لا يهتفون مطالبين بشيء، فهم فقط يبكون، بدرجات أصوات مختلفة علواً وانخفاضاً، ولا يتوقفون لالتقاط أنفاسهم.
الوزراء استيقظوا من نومهم مفزوعين، ورئيس الوزراء توجه إلى الرئاسة، وكبار رجال الأمن اندفعوا في أرتال سياراتهم السوداء إلى مكاتبهم ودوائرهم وحصونهم. أهي مؤامرة؟
لا يمكن إصدار بيان يتهم جهات أجنبية بأنها تقف وراء بكاء شعب بأكمله، في قلب عاصمته الحبيبة، ثم من الجهة التي تستبكي هذا الشعب؟
مدير عام التلفزيون أرسل سيارات النقل الخارجي التي دارت كاميراتها مع حركة الحشود المتحركة بتثاقل وتلاصق وببكاء لا يتوقف.
لكن المعلقين عجزوا عن قول كلمة، وبقيت ميكروفاناتهم معلقة في أيديهم يحركونها بعصبية وقلق من دون أن ترتفع أصواتهم عبرها ناقلة الحدث الغريب الفريد العجيب.
“ماذا نقول؟” تساءل كل واحد وهو ينظر في وجه زميله.
“لنصوّر ونحتفظ بالصور في الأرشيف”
اقترب واحد منهم وسأل مواطناً باكياً: “أيها المواطن العزيز، يا أخي، لماذا تبكون؟ لماذا تبكي أنت بالتحديد؟”
أشاح المواطن عنه وارتفع صوت بكائه أعلى مع هزات رأسه، فانصرف المراسل إلى غيره، فلم يلق جواباً أو تفاعلاً مع أسئلته.
تدفق مراسلو وكالات الأنباء، والصحف الأجنبية على الشوارع، وبدأوا بالتعليقات على المشهد الذي لا سابقة له في العالم: شعب بأكمله يبكي، ويدور في الشوارع، ولا يقول كلمة، ولا يفصح عن مطالب..يا للعجب!
رجال بملابس مدنية اندفعوا وأخذوا ينتزعون كاميرات المراسلين الأجانب، وميكروفونات، ويكزون على أسنانهم وهم يخاطبونهم آمرينهم بالانسحاب فوراً..وإلاّ!
انسحب المراسلون على مضض، ولكنهم تدبروا أمورهم في التصوير من الطوابق العليا حيث مكاتبهم، وهكذا خرجت الصور والأخبار التي يمكن تلخيصها بخبر واحد بكلمات قليلة: الشعب كله، في العاصمة..كله يبكي، ويدور في الشوارع والأزقة، والدولة لا تقدم تفسيراً، بل تبدو وكأنها بوغتت، وأُخذت على غفلة، وتقف عاجزة عن فعل شيء، فليس من حقها منع الشعب من البكاء.
مراسل خفيف دم تساءل أيكون هذا اليوم هو عيد للبكاء وجد في زمن بعيد، والشعب يستعيده، ولا علم للدولة به هي وأجهزتها الأمنيّة؟
الدولة قبل أيام قليلة كانت تحتفل بعيد ميلاد ال(…) بأغانٍ في الإذاعة والتلفزيون، ومانشيتات الصحف، والحلوى توزع في الشوارع، والاحتفال وصف بأنه أعظم عيد فرح في تاريخ البلاد.
كيف حدث هذا البكاء إذاً؟
لم يمت رئيس الوزراء غير المحبوب، والرجل الكبير بخير، وبصحة جيدة..وفي البلاد لم يقع زلزال، ولا انتشر وباء “كورونا”.
لا مبرر للبكاء.
**
لقاء مدير المخابرات مع وزير الأوقاف:
– أين شيوخ المساجد الذين ندفع لهم، ونغض النظر عن سرقاتهم للزكاة؟ ماذا يفعلون؟ لماذا اختفوا؟
– أرسلنا لهم يا سيدي، وعممنا في الإذاعة…
– ماذا فعلوا؟
– وقفوا عاجزين، فالمساجد بلا مؤمنين يرتادونها للصلاة. حتى أن المشايخ راحوا إلى الجموع وناشدوها التوجه للمساجد، فالبكاء حرام..فردوا عليهم بالمزيد من البكاء..وبعض المشايخ انضموا للبكائين، بل وانهمكوا في اللطم والبكاء وكأنهم شيعة في عاشوراء.
يأخذ في ترديد العبارة: وكأنهم شيعة..وكأنهم شيعة.
فيتلقفها وزير الأوقاف:
– لتعلن الدولة ياسيدي أن التشيع اخترق البلاد وانتشر.
يبرم وجهه مشمئزاً:
– نحن بلد كله سنة مع شوية مسيحيين..فكيف نتهم شعبنا بالتشيع؟
– لتبرير ما يحدث سيدي..
يحرك عمامته على رأسه:
– لماذا لا نتهم الشيوعيين بهذا الذي يحدث؟
– يا زلمة أنا أعرف أنك جاهل ولكنك غبي فوق ذلك. الشيوعيون حزب مرخّص وصحيفته مرمية على الأرصفة عند باعة الصحف والمجلات وعليها المنجل والشاكوش ولا أحد يتصفحها..والشيوعيون انقرضوا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
**
الرجل الكبير:
– أُريد أن أعرف ما سبب ما يحدث، ولماذا؟ تقول لي يا مدير أمني بأنكم عاجزون عن معرفة سر ما يحدث؟
يضرب يده على الطاولة:
– ما يحدث فضيحة..فضيحة بجلاجل. السفير الأميركي اتصل بي مستفسراً، ولم أجد ما أرد به عليه، فماذا أقول له وهو يستشيط غضباً، وأحياناً يفرط من الضحك صائحاً: هذه أغرب ثورة في التاريخ، أغرب حتى من “الربيع العربي”: ثورة البكاء والمشي في الشوارع..ثورة صامتة، بدون هتافات، ولا خطابات، ولا مطالب!..معقول ثورة غزيرة الدموع و..بلا مطالب؟
**
– كيف توقفت السيارات وحركة السير؟ (من تعليقات بعض الجهات الرسميّة)
السائقون الملاعين تضامنوا مع الشعب..فهم رغم نفور الناس منهم ينتمون لهذا الشعب، و… هناك مؤامرة! لا شك..ولكن من يقف خلفها، وكيف تم اقناع الناس بالبكاء وبحرقة؟
الناس لا يمثلون، إنهم مندمجون في المناحة الجماعية، وهم يتشبثون بالبكاء وكأنه سلاحهم الأخير في..في الماذا؟ ..وكأنه سلاحهم الأخير! لكن هذا لا يطمئن، فهم لن يستمروا في البكاء والدوران في الشوارع، فعيونهم تحمّر حتى تكاد تنفجر من الاحتقان الدموي.
بماذا تنبئ العيون المحمرّة المحتقنة؟
إنهم يبدون منهكين
إنهم جوعى ولكنهم لايكفون عن الزحوف في الشوارع تمهيداً لما..لما..ماذا؟
**
صوت هدير البحر. الناس يتجهون إليه ويخلعون ملابسهم ويلقون بأنفسهم في أمواجه.
يرتفع صوت: إنهم يهاجرووووون..
صوت: ونحن من سنحكم؟ وممن سنأخذ الضرائب؟
صوت: ما هذا الشعب؟ يُطعم نفسه للسمك ويخسّر فينا دفع الضرائب مع أننا من لحمه ودمه!!
صوت مدو: إنهم يعودون بعيون شديدة الإحمرار، وهم يندفعون بضراوة فلنهرب..فلنهرب..سيأكلوننا…
يسمع هدير طائرات تبتعد وبكاء يتصاعد: سرقوا كلّ شيء..ويهربوووون!
صوت هدير البحر وهدير الناس الذي يشبه الزئير.