غزة التي تستنهض أُمَّتها – عبداللطيف مهنا
عندما التزمت غزة، ولا زالت، بقرارها السابق على مواجهتها للجولة العدوانية الاحتلالية الأخيرة عليها، المعروف ب”قصف مقابل قصف”، كان هذا لا يعني فحسب، تفويتها على المعتدين استهدافهم الرئيس من شنها، وهو محاولة تغيير قواعد الاشتباك لتخالف هذه المعادلة، وإنما فرضها. فكما هو معروف، غارات الf16 والمُسيَّرات وقذائف المدفعية والدبابات قابلتها المقاومة بزخات الصواريخ المنهالة على مستعمرات المحتلين الواقعة فيما يدعونه “غلاف غزة”. كان هذا، وكما بات معروفاً أيضاً، سبباً كافياً لأن يهب الوسطاء التهدويون، عرباً وأمميين، ميممين شطر غزة المحاصرة طلباً ليد التهدئة.
هذه الوساطات التهدوية، وما تحمله في جعبة ضغوطها من وعود ووعيد، كان لا يخفى أنه لم تك لتبدأ ويتوالى رسلها دونما ضوء أخضر احتلالي، هذا إذا لم نقل إيعازاً، أو طلباً مباشراً من المحتلين، بسبب من أن هؤلاء، وبغض النظر عن جعجعتهم التهديدية التي لم تتوقف حتى اللحظة، لا يريدون في راهنهم ووفق حساباته أن تصل المواجهة مع غزة لحرب خامسة، لا سيما وأنهم يتحسبون من كلفتها وغير الضامنين بأنها لن تكن الفاشلة الإستهدافات كسابقاتها.
في البدء ظن المتوسطون أن مهمتهم سهلة بحكم كارثية ما يكابده الغزيين من معاناة تفوق التخيُّل في ظل حصار همجي مديد فاقت آثاره الإجرامية حدود القدرة البشرية على الاحتمال، الأمر الذي جعل المقاومة بدورها أيضاً لا تريد أن يصل التصعيد في مواجهة هذه الجولة العدوانية حد اندلاع هذه الحرب لما ستضيفه من تفاقم لهذه الكارثية.
لذا، ناور المتوسطون جميعاً رافعين بيارق “تخفيف” الضائقة الإنسانية في القطاع المحاصر، لكنما دونما ينفي أن تحركهم ليس لوجه الإنسانية، ولا لمجرَّد التهدئة، أو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبيل اندلاع الجولة العدوانية ومواجهتها، وإنما لهدف آخر رئيس يضمرونه وهو مقايضة “التخفيف” بمسيرات العودة، وتحديداً إيقاف مبتكراتها النضالية وعلى رأسها الطائرات الورقية والبالونات الحارقة…ويقال في اعلام المحتلين أن غزة قد ضمت لهاتين الوسيلتين الحارقتين نسراً يطير ساحباً ناره المحرقة!
التهدئة أُعلنت ولم تُعلن، وتمت ولم تتم، ولسببين: لأن المقاومة قبلت التهدئة بمعنى عودة الأمور لسابق عهدها قبل جولة المواجهة الأخيرة، مع إصرارها على احتفاظها بمعادلة “قصف مقابل قصف”، أو قواعد الاشتباك التي فرضتها ولن تتخلى عنها، ولم تقبل مقايضة “التخفيف” بإيقاف مسيرة العودة، أو ما قلنا في مقال سابق الرغيف مقابل الطائرة الورقية!
ولذا، اقفلوا منفذ “كرم أبو سالم” التجاري كلياً، باستثناءات هزيلة ومنها الأدوية، لينعدم غاز الطهي وسائر المحروقات والثلاَّجات وقطع وزيوت السيارات وحتى مواد التنظيف ناهيك عن البناء، وعاد المنسّق الخاص للأمم المتحدة البلغاري المتصهين التليد نيكولاي ملادينوف في محاولة لمقايضة غزة على ما رفضته، يردف مساعيه غير الحميدة فرقعة تهديدات، وضجيج حشودات، وتكثيف إيحاءات احتلالية بأن الحرب الخامسة مع غزة قد باتت على حافة الاندلاع…قد يسأل سائل، وإين رام الله مما يجري؟!
تجيب تسريبات الوساطة التصالحية المصرية الجارية، بأنها لا زالت عند “التمكين الكامل”، بمعنى سحب حال الضفة في ظل “التنسيق الأمني” على غزة ومقاومتها، ومن بعده الذهاب لانتخابات رئاسية وتشريعية، ومن ثم ننتقل لحل ازمة غزة ورفع العقوبات عنها!!!
المفارقة أنه بينما رام الله تشترط تمكينها لرفع وبيل عقوباتها عن غزة، ويتنافس معشر الأشقاء المتوسطون بينها وعدوها فيما بينهم، في مضمار الضغوط المغلّفة بالإغراءات “التخفيفية” لمقايضتها الرغيف مقابل العودة، وينشط ملادينوف لجني حصاد اقفال المعابر العدوة والشقيقة ونذر الحرب التدميرية الملوَّح بها، ليبتز المقاومة لانتزاع تسليمها بمطالب عدوها…وتمرير “صفقة القرن”…تطالعنا إحدى صحف الاحتلال، وهي “هآرتس”، بمقال عنوانه التالي: “لنؤدي التحية لغزة”!
كاتب المقال، جدعون ليفي، لا يقل صهينةً عن غيره في كيانه، بيد أنه أكثر عقلانية من ليبرمان، وأحرص منه على صورتها ربطاً بمصيرها، يقول: “لولا غزة لكانت إسرائيل قد محت المسألة الفلسطينية من جدول الأعمال نهائياً وواصلت ضمها وجرائمها وروتينها اليومي”. وإذ يسحب ما قاله على العالم، يضيف: و”لهذا يجب الآن أن نؤدي التحية لغزة، وبالأساس لروح غزة”، حيث أنه “إذا لم تكن الطائرات الورقية، إذا لم تكن الحرائق، إذا لم تكن صواريخ القسَّام فلن يعد هناك فلسطينيون في وعي أحد في إسرائيل”، وإذ يشهد بأن “روح غزة هي الروح التي لم يكسرها أي حصار”، يسارع لملاحظة أنه “لا يوجد خيار أمام غزة”، ويوضّح، “يعني أمامها فقط النضال الذي لا يمكن إلا أن نقدّره”!!!
…تجوع غزة، تصمد، تقاوم، تضحّي، تجود بدمها دفاعاً عن قضية هي العودة، هذه التي لن تكون بغير تحرير كامل الوطن، وإذ تواجه بصدرها العاري بعناد استشهادي آلة الموت الاستعمارية الفاجرة، مستفرداً بها، وظهرها إلى الحائط، بفضل مرحلة يتوسُّط الشقيق فيها بين شقيقه وعدوه، فهي إنما تنوب عن الأمة في الدفاع عن الأمة، تذود عما تبقى من شرفها ومهدور كرامتها…عنادها الذي تنحني له حتى “هآرتس”، يمثل حالةً استنهاضية على أمتها إلا تفوّتها.