غزة .. الملحمة الفلسطينية – عادل أبو هاشم
غزة .. الملحمة الفلسطينية – بقلم : عادل أبو هاشم
عند دراسة مراحل تشكيل السياسة المستقبلية لأي دولة ، وتحديد أهدافها الإستراتيجية ، كثيراً ما يبرز رأيان في أوساط صنع القرار لتلك الدولة :
الأول : يتبنى مواقف متصلبة ، ويرى استخدام القوة للوصول إلى الأهداف الإستراتيجية للدولة .
والثاني: يعتمد الطرق الدبلوماسية والمفاوضات للوصول إلى نفس الأهداف .
وعلى مدى أكثر من ستين عاماً ، ساد الكيان الصهيوني الرأي الأول الذي يستخدم الإرهاب والقتل و المذابح الجماعية وسيلة لتحقيق أهدافه .!
لقد كان بن جوريون ” أول رئيس وزراء للعدو الصهيوني ” ، وحتى بنيامين نتنياهو ” رئيس الوزراء الحالي ” لا يحجم عن استخدام المذابح الجماعية للوصول إلى ما يعتبره ” أهداف إسرائيل ” ، بل لقد كان يفتعل ظروفاً تهيئ له استخدام القوة والإرهاب والقتل .
إنه فيلم إسرائيلي طويل … شاهده الفلسطينيون آلاف المرات منذ نشأة الكيان الصهيوني عام 1948م ، وتجسد على الأرض من خلال تدمير أكثر من خمسمائة قرية فلسطينية ، وتهجير أكثر من مليوني فلسطيني عن أرض وطنهم في الشتات والمنافي بعد قتل عشرات الآلاف منهم .!
وشاهدناه مرة أخرى عند احتلال إسرائيل لقطاع غزة عام 1956م ، ومذبحة كفر قاسم ضد الفلسطينيين الذين لم يرحلوا عن ديارهم عام 1956م ، وفي الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية في يونيو ” حزيران ” 1967م ..!
القائمون على تمويل الفيلم متأكدين من نجاح عرضهم ولو أستمر عرضه مائة عام أخرى على هذا الجمهور الساذج ..!
لذا نراهم يمولون بين فترة وأخرى أحد أجزاء هذا الفيلم على غرار أفلام رامبو 3،2،1 ..!
أما المخرجين فقد أجادوا الصنعة لدرجة أن أحدهم فاز بجائزة نوبل مناصفة عن دوره في إخراج الأجزاء التي صدرت أعوام 1948م ” مذبحة دير ياسين ” ، و 1978م ” اجتياح جنوب لبنان ” ، و 1981م ” قصف بيروت ” ، و 1982م ” اجتياح لبنان ” ، وآخران استحقا ثلثي الجائزة عن أدوارهم في هذا الفيلم منذ أكثر من ست و ستين عامـًا .!
حتى مناظر الديكور نفسها ، مع الفارق الزمني في تطورها .!
ولأن الفيلم يدخل في نطاق أفلام العنف فهناك دائماً الضحايا …!
وهم نفس الضحايا في جميع أجزاء الفيلم وإن اختلفت الأسماء ..!
ونفس عصابة القتلة مع اختلاف الأشكال ..!
فالقتلة الإسرائيليون يجدون متعة في قتل الضحايا العرب ، وعبادة في سفك دماء غير اليهود ، ولقد تفننوا في اقتراف جرائم القتل ضد كل من هو عربي .!
في الأيام الأولى لاحتلال قطاع غزة بعد هزيمة 1967م كانت مذبحة مخيم رفح ، حيث قام الجنود الإسرائيليون بإطلاق النار على أكثر من مائة مواطن فلسطيني تم جمعهم أثناء الليل من منازلهم ، وقد تم دفنهم في أحد الآبار، ولم يتم الكشف عن جثثهم إلا بعد أشهر عديدة ، وطوال هذه الأشهر كانت أسرهم تعتقد أنهم أسرى عند قوات الاحتلال الإسرائيلي .
مخرج هذا الفيلم وهذه المذبحة هو موشيه دايان وزير الحرب الإسرائيلي في ذلك الوقت ، والذريعة التي قيلت بعد ارتكاب المذبحة : حتى لا ينسى الفلسطينيون مذابح عام 1956م التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في أثناء احتلالها لقطاع غزة ، وبالتالي الرضوخ للحكم الإسرائيلي ..!
ثم توالت خلال العشرين عاماُ الأولى من عمر الاحتلال عمليات القتل المنظم والمنهجي لأبناء الشعب الفلسطيني بدم بارد في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وأصبح كل قائد إسرائيلي يتفاخر بقتله أكبر عدد من الفلسطينيين دون أن يحاسبه أحد .!
أرييل شارون لم يترك وسيلة إلا وأستخدمها في قتل وتهجير وتشريد الفلسطينيين عندما تولى في أوائل السبعينات قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، وهي تضم شبة جزيرة سيناء وقطاع غزة من هدم المخيمات، وتهجير سكانها إلي الضفة الغربية وسيناء، إلى قتل المدنيين العزل في منازلهم وأمام ذويهم .!
ولم تمر حفلة قتل الفلسطينيين على إسحاق مردخاي وزير الحرب في حكومة نتـنياهو وزعيم حزب الوسط في الانتخابات الإسرائيلية عام 1999م دون أن يشارك فيها ، فقد قام بقتل صبحي شحادة أبو جامع، ومجدي أحمد أبو جامع، بضربهما بكعب مسدسة حتى الموت في عام 1984م أثناء التحقيق معهما .! بعد أسرهما أثناء إشتراكهما في العملية التي أطلق عليها (( الحافلة رقم 300 )) .!
حتى أيهود باراك والذي هلل البعض لانتصاره على نتـنياهو في انتخابات 1999م واعتبروه بطل السلام القادم قام بقتل القادة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في بيروت عام 1973م في فراشهم ووسط عائلاتهم ، وأعترف باراك الذي كان متنكرا بملابس امرأة بأنه أقترب من كمال ناصر (حتى رأى بياض عينيه و أفرغ المسدس في رأسه ) , وقد كان اغتيال القادة الثلاثة من الإنجازات التي تباهى بها في الانتخابات، والتي دغدغ بها مشاعر الإسرائيليين ، وساهم أيضاً في قتل خليل الوزير ” أبو جهاد ” في تونس عام 1988م .
وفي زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1987م ، وبعد الفشل الذريع الذي مني به الجيش الإسرائيلي في وقف إندفاعة الجماهير الفلسطينية الغاضبة ، شكل الجنرال دان شومرن رئيس الأركان الإسرائيلي في ذلك الوقت فرق الموت الإسرائيلية لقتل شبان الانتفاضة على الطريقة الإسرائيلية ، والتي تتلخص في القتل مع سبق الإصرار والترصد وبدم بارد .!
وبعد توقيع اتفاق أوسلو الشهير في سبتمبر 1993م خرج علينا شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي وقتئذ بتصريح أظهر للعالم ما وصل إلية قادة الكيان الإسرائيلي من استهتار بكل الأعراف والمواثيق الدولية ، وما وصلت إليه الطبيعة الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين ، فقد صرح بيريز بأن (( موسم الصيد قد انتهى )) ! وهو يقصد أن قتل الفلسطينيين قد انتهى بعد توقيع اتفاق أوسلو .!
ولم تمضي أيام قليلة على هذا التصريح ، إلا وترتكب مذبحة جديدة في مدينة الخليل ضمن مسلسل الإرهاب المنظم والمستمر في الكيان الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني ، حيث أقدم أحد مستوطني كريات أربع بالدخول إلى ساحة الحرم الإبراهيمي الشريف، وأطلق النار على مرأى من الجنود الإسرائيليين على المصلين ، مما أدى إلى استشهاد 29 فلسطينيـًا وإصابة العشرات بجروح ، وليسقط أيضـًا 40 شهيدًا فلسطينيـًا برصاص المستوطنين و الجيش الإسرائيلي في عمليات قتل بالتقسيط، في أقل من أسبوعين بعد المذبحة في الحرم الإبراهيمي في مدن ومخيمات وقرى الضفة والقطاع !
وبعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 م استمرت إسرائيل في ممارسة أبشع الجرائم في حق الشعب الفلسطيني ذبحاً وتقتيلاً بالرصاص ، بل أن موسم الصيد الذي بشرنا بيريز بانتهائه قد ازداد ازدهارًا ورواجـًا، فمن قتل رجال الشرطة الفلسطينية أثناء نومهم في مهاجعهم ، وقتل العمال العزل عند المعابر ، إلى عمليات قتل كوادر الفصائل الفلسطينية من أمثال هاني عابد ومحمود الخواجا ويحيى عياش ومحي الدين الشريف والأخوين عادل وعماد عوض الله والعشرات غيرهم .!
وفي انتفاضة الأقصى عام 2000 م وجد الفلسطينيون أن ” موسم الصيد ” قد إزداد إزدهارًا ورواجـًا ، وأن الصياد الإسرائيلي مستوطناً كان أم جندياً ، أصبح أكثر ولوغأ في سفك الدم الفلسطيني ، مصدقاً بيريز بأن موسم الصيد قد قارب على الإنتهاء ، فلينتهز هذا الصياد ما تبقى من الوقت لملء جوفه بالدم الفلسطيني .!
وها هي غزة بصمودها الأسطوري أمام المذابح اليومية تكتب صفحات مشرقة للمقاومة و الجهاد بدماء أبنائها ودموع نسائها و حجارة مساجدها وكنائسها و مدارسها و مستشفياتها .!
غزة الملحمة الفلسطينية النادرة في عصر لم يعد يعرف الملاحم ، فلا يوجد شبر من أرض غزة إلا وروي بدماء أهلها ، ولا يوجد إنسان أو شجرة أو حجر فيها إلا وجربت فيه إسرائيل كل ترسانتها العسكرية .!
باستطاعة نتـنياهو و موشيه يعلون و بيني غانتس وكل قادة جيش العدو الإسرائيلي ومستوطنيه أن يمارسوا هوايتهم البغيضة في قتل الفلسطينيين .!
وباستطاعتهم كذلك توسيع السجون وزيادة المعتقلات ، واعتماد كافة ما تسمح به القوانين النازية التي ورثوها من حكومة الانتداب البريطاني ، بالإضافة إلى أساليبهم الجديدة التي ابتكروها في اغتيال الأطفال والنساء والشيوخ ، وقتل الحوامل عند الحواجز ، وفرض الحصار لأشهر متواصلة على الفلسطينيين دون ماء ولا غذاء ولا كهرباء ..!!
باستطاعة العدو الصهيوني أن يفعل هذا كله وما هو أكثر ..!!
غير أن ذلك كله لن يستطيع أن يطفئ شعلة النضال الفلسطيني المستمرة ضياء منذ ما يقارب القرن حتى اليوم .
ولن يستطيع أن يمنع أطفال الحجارة من إلقاء الحجارة الفلسطينية المقدسة ، وتجميع الزجاجات الفارغة وملئها بالكيروسين ، وإلقائها على جنود العدو ومستوطنيه.
ولن يستطيع أن يمنع النساء الفلسطينيات من إطلاق زغاريد الفرح كلما سقط لهن من أبنائهن شهيد .
ولن يستطيع أن يمنع مؤذناً ينادي الله أكبر .. الله أكبر .. حي على الجهاد .
ولن يستطيع هذا العدو أن ينجو من لعنة الدماء التي يسفكها .!
وسيكتشف وهو يولغ في سفك هذه الدماء ، أنه كالقط الأجرب الذي يلحس مبرد الحديد ، وأنه يغرق في دمائه .!