غزة…مالذي تغيَّر؟! – عبداللطيف مهنا
لم يتغيَّر شىء عن ما كانت عليه الحال في غزة. اسابيع انقضت حتى الآن على اتفاق وقف اطلاق النار، أي توشك مهلة الشهر، الذي من المفترض ان تعقبها العودة لبحث المطلبين المؤجلين، اعادة فتح المطار، وبناء الميناء، من نهايتها. أما ماتفق على المباشرة في تنفيذه فور ايقاف المعركة فلم ينفَّذ منه شيئا حتى الآن. مظاهر الحصار ظلت على ما هى عليه، وسبل اعادة الإعمار المفترضة ظلت المعدومة، وفي ظل كل ما تعرَّضت له غزة من محرقة للبشر والحجر خلال الواحد والخمسين يوماً من آخر طبعة من الحروب العدوانية عليها فالحال الحياتية الراهنة فيها هى الأسواء بما لايقاس بسيء حالها قبل الحرب وربما حتى خلالها. أي أن كل ماتم حتى الأن هو لايعدو ما يتفق عملياً مع ما كان يريده المعتدين وينادون به، أي فرض معادلة “الهدوء مقابل الهدوء”، والتي لهم وحدهم حق خرقها وقتما يشاءون، وحتى هذه الحالة لايبدو أنه سيتمسكون بها طويلاً، ومن مؤشرات ذلك، العودة للتضييق على الصيادين قرب الشاطىء واعتقالهم مع قواربهم، والكلام الذي يرددونه حول ترميم انفاق المقاومة، ومواصلة تصنيع الصواريخ القادرة على ضرب تل ابيب، وعودة نشاطات تهريب السلاح عبر الأنفاق…الخ، أي كل ما من شأنه أن ينم عن تحضير على الطريقة الصهيونية للجولة القادمة من حرب لم ولن تتوقف مادامت غزة ترفع راية المقاومة.
لكي نفهم كل هذا فلا مناص من استحضارنا لهدف صهيوني رئيس، كان سابق للحرب وعلى رأس استهدافاتها، وظل مرفوعاً ابانها، ولم يسحب من التداول بعد أن اضطروا لإيقافها، بل ازداد أهميةً عندهم، وهو الآن بانتظار المفاوضات بالوساطة ليكون اساساً لما سيطرحونه على طاولتها، أو اذا ما قيِّد لها أن تعقد، أو خرج الوسيط المصري عن صمته داعياً طرفيها الى حلبتها، واسفرت فرضاً عن اتفاق لايحقق لهم هذا الهدف أو قدراً منه، فإنه سيظل هدفهم الاستراتيجي الدائم وبرسم شتى محاولات التنفيذ…إنه هدف نزع سلاح المقاومة ، أو ما يعادل موضوعياً محاولة وضع اللمسة الخيرة لتصورهم لانهاء الصراع، أو اتمام مسيرة تصفية القضية الفلسطينية.
بائن المماطلة الصهيونية لابقاء الحال في غزة على ماهى عليه، والتملُّص الواضح من تنفيذ ما اُتفق على المباشرة في تنفيذه قبل انتهاء مهلة العودة المفترضة الى المفاوضات في القاهرة حول المؤجل بحثه الذي بات على وشك الأزوف، والصمت المصري مع استمرار اغلاق معبر رفح، ثم عودة رام الله المتسرِّعة لنبش ارشيف الإنقسام واصرارها على بعث نفيره، الى جانب تبريرات رئيس ما يفترض أنها حكومة “المصالحة” لعدم صرفه لرواتب موظفي غزة بتلقيه تحذيرات “من كل العالم” بمقاطعة حكومته لو قام بصرفها، كلها امور تشى بنذر العودة للمربع الأول، أو لاتعني سوى ما يدفع إلى توقُع اقتراب موعد استئناف الحرب.
ما يرجِّح ما ذهبنا اليه هو أن النوايا الصهيونية المشار اليها بداية، ثم فداحة الواقع الغزِّي الإنساني المثخن، لكن المتمسك بمنجزات صموده وفدائية مواجهته والمعتد بانتصار ارادته، لايحتمل تصورعودته الى مكابدة تجربة الحصار الإبادي الرهيبة التي فرضت عليه لثمان سنين شنت عليه خلالها ثلاث حروب، بمعنى يستحيل عليه قبول ماهو الأقل من تنفيذ كامل متواضع مطالب الحد الأدنى المتوافق عليها فلسطينياً قبيل انعقاد مفاوضات القاهرة وابانها، أو التي من المفترض أنه قد تم انتزاعها عبر الاتفاق على وقف النار الذي تمخَّض عنها.
والواقعان الدولي والعربي، كما لايخفى على احد، هما خير المشجِّع للصهاينة على ماهم بصدده، ويزيد من تحفيز عدوانيتهم راهن هذين الواقعين المهمومين فحسب بكيفية ومدى وشكل الالتحاق بركب اصطفافات ما يدعوه اوباما ب”حروب الضرورة”، أو حربه ارهابه على الإرهاب، التي دشنها لمواجهة داعشية مواريث حروب سلفه بوش “الاستباقية”، أو مواصلة محدث الطبعة الأميركية منها… واقعان منشغلان الآن الى ابعد حد بحسابات الربح والخسارة التي تقتضيها مسارعة التكيف مع نفير حرب عودة الإنتداب إلى المنطقة واعادة رسم حدودها من جديد، ومستحقات ما قد يترتب على وجوب الرقص على ايقاعات طبولها التي ما من يسمع الآن في المنطقة سوى قرعها.
لكنما اخطر ما يتهدد منجزات الدم الفلسطيني في غزة المقاومة هو ما بدا يأتيها من داخل البيت الفلسطيني ذاته، متمثلاً في انتعاش كوامن المساوماتية الأوسلوية المعادية اصلاً لكل ما يمت لثقافة المقاومة بصلة، والتي لاترى في منجزاتها النضالية الأخيرة إلا خطراً على وجودها ومصالحها، وفي احسن الأحوال لاتنظر اليها إلا ما قد تتيحه لها من فرصةً تُقتنص لكي تصرف في بازار محاولاتها للعودة إلى سالف مسارها التفاوضي العبثي، والذي لم يشفها انسداده المزمن وكل ما جره من كوارث على القضية من لوثة حنينها البائس للعودة الى نفقه…كل ما يريده الصهاينة الآن هو فرض الانموذج الأوسلوي الأمني على غزة ونزع سلاح المقاومة. ربما هنا يكمن سر اطناب الداهية بيرز في اتعداد مزايا رئيس السلطة واصفاً إياه ب”الشريك الواضح”، وتشبيه “هاآرتس” لما اسمته “كتائب دايتون” في الضفة ب”الفرقة البريطانية للجنرال كلوب” شرقي الأردن في الخمسينيات، والتنويه بدورها في “منع نشوب انتفاضة فلسطينية ثالثة”…
غزة…مالذي تغيَّر؟! – عبداللطيف مهنا