غزة…مسيرات العودة وسفن الحرية -عبداللطيف مهنا
لم تنتظر غزة وصول سفن اسطول الحرية المنطلق من اسكندينافيا لفك الحصار عنها. هي إذ عبَّرت عن ترحيبها به، تعلم سلفاً أن قافلته، بعد أن تتجاوز شتى المعيقات التي تعترضها في رحلتها الطويلة، سوف تلاقيها سفن حرب الاحتلال في عرض المتوسّط لتأسرها وتعيد ناشطي سفنها قسراً من حيث أتو… ومع هذا، هي بدورها أطلقت أول سفن حريتها لفك الحصار عنها. أطلقتها وهي تعلم أيضاً أن ميناء اسدود المحتلة سوف يكون مرساها الإجباري ونهاية ابحارها، وأن الجرحى والمرضى والطلبة الذين هم على متنها وبحَّارتها مصيرهم الاعتقال والإعادة. لكنها قررت فك الحصار المضروب على ضمير العالم، الذي يتفرج عليها وهي تواجه حصاراً إجرامياً فظيع التوحُّش طوال الأحد عشر عاماً الماضية ولا تزال، ويكاد يسهم جميعه بشكل أو بآخر وبمشاركة من الأشقاء في استدامته…قبل انطلاق سفينة الحرية، والذي هو لا يعدو قارب صيد، من ميناء صيَّاديها البسيط، دمَّر المحتلون سفينتين من مثله كانتا تتجهزان للانطلاق، فانطلقت ثالثة متحدية وانتهت رحلتها كما هو المتوقَّع مأسورة ومجرورةً إلى اسدود.
أكثر من أعطى الحدث الغزي الاهتمام الذي يرتقي لمستوى إدراك خطورة ما تعنيه رمزيَّته هو الاحتلال. لم يفصله بحال عن التجليات النضالية الإبداعية التي رافقت مسيرات العودة الكبرى، بل عطفه على تداعياتها. نظر لسفنها البسيطة بذات النظرة للطائرات الورقية، هذه المجتازة للأسلاك الشائكة، والأسوار الإلكترونية، وحشوده العسكرية، وتحلِّق متحديةً قبته الحديدية لتحط بنيرانها في مزروعات مستعمراته…الطائرات الورقية البسيطة اجتازت كافة دفاعات آلته الحربية المهولة، وسفن الحرية كشفت لمن يريد أن يكتشف، أو بالأحرى، فضحت من لا يريد أن يكتشف، مدى همجيته وعدوانيته. والإثنتان، الطائرات الورقية، وسفن الحرية، اعلنتا لكل من يهمه الأمر: غزة لم تعد تحتمل. وأما وقد خذلتها إنسانية العالم ونخوة الأشقاء، فقد قررت غزة أن تفك حصارها.
هذه الخلاصة هي السر الكامن خلف التصعيد العدواني الأخير ضد غزة. المحتلون استغلوا الظروف المافوق قدرة احتمال البشر في القطاع المحاصر، بمعنى الضاغطة على المقاومة لصالح عدم التصعيد من جانبها، أو هذا ما توقَّعوه، فصعَّدوا من عدوانية تواتر تصاعدها من جانبهم في الأسابيع الأخيرة، وصولا لذروتها باستهداف مواقع المقاومة واستشهاد أربعة مناضلين، وهدفهم كان واضحاً وجلياً، إنه تغيير قواعد الاشتباك السائدة بعد حربهم العدوانية الأخيرة على غزة العام 2014، أي “هدوء مقابل هدوء”، إلى جانب الضغط عبر الوساطات الشقيقة لفرض هدنة طويلة، والهدفان يوظِّفوهما في الخلاص من مسيرات العودة التي تؤرِّقهم وتطرح وجودهم الاستعماري بحد ذاته قيد البحث، حيث تعيد هذه المسيرات القضية دفعة واحدة لأبجدياتها التي يحاولون هم والعالم والتسوويّون الفلسطينيون والعرب تجاهلها.
كعادتها، أو كما كانت تفاجئهم دائماً، فاجأتهم غزةً في هذه المرة. نقلت لهم عبر أكثر من مئة قذيفة صاروخية تساقطت على مستعمراتهم، لم تنجح قبتهم الحديدية في اعتراض ما هو أكثر من 17 منها، الرسالة التالية: من الآن فصاعداً إن “القصف بالقصف، والدم بالدم، وسنتمسَّك بهذه المعادلة مهما كلَّف ذلك من ثمن”…منعت غزة تغيير المعادلة، وفوَّتت على عدوها تحقيق اهداف عدوانه عليها، فهرع المتوسٍّطون الجاهزون عند الطلب لطلب يد التهدئة!
يمتلك الاحتلال كل ما امتلكه الغرب الاستعماري من قدرات الفتك الأكثر تطوراً وفتكاً، ولديه من أدوات القتل والدمار كل مستجداته منها، لكنه، ونظراً لإدراكه قبل سواه وأكثر من غيره لنقطة ضعفه القاتلة، وهي كونه الغازي والغريب الطارئ، أو الكيان الهش المفتعل، فهو يظل المفتقر لأبسط مظاهر الإحساس بالأمان والمنعدم الثقة في استمرارية وجوده، بالمقابل يريعه ويقض مضجعه ويسعِّر من فوبياه مشاهدة غزة العزلاء، التي بدمها المسفوح وكفها المدمي وصدرها العاري تناطح وظهرها إلى الحائط قوته الغاشمة، تمتلك كل هذه الأسطورية الفريدة صموداً وعناداً وإصراراً على مقاومةً باتت تعني لها الحياة، وتصرُّ على أن تمارسهما كحق لها وإن تواطأ لمنعها القريب والبعيد..
في رصدهم لهذه الروح النضالية العربية الفلسطينية في غزة، واعترافهم بإعجازيتها والاندهاش منها، لا نعدم الكثير مما يعكسه اعلامهم، ومنه، تقول عميرة هاس في صحيفة “هآرتس”: “جنودنا الشجعان يطلقون النار أيضاً على الطواقم الطبية والذين يقتربون من الجدار لإخلاء الجرحى. الأوامر هي الأوامر، إطلاق النار حتى على الممرضين، لذلك فإن الممرضين ينتظمون في مجموعات مكوَّنة من ستة اشخاص، إذا جرح أحدهم يقوم اثنان بحمله للعلاج والثلاثة الآخرون يواصلون المهمة”.
… أية بطولة وأية تضحية هذه التي يشهد بها عدو، وبالمقابل أي عدو هذا الذي يقول واحد من أهله هو يحيعام فايتس، وأيضاً في “هآرتس” : “المجتمع الإسرائيلي يسير مغمض العيون خلف زعيم (يقصد نتنياهو) يثق بنفسه ومتبجِّح، يقودنا إلى حافة الهاوية. يمكننا أن نتذكَّر ما قاله النبي دانييل “اللهم قصِّر حياة نظام بابل”!
…غزة عبر مسيرات عودتها وسفن حريتها، ومفاجآت إرادتها النضالية، وإعجازية صمودها البطولي، واستشهادية مقاومتها الباسلة، قررت: الحصار لن يستمر، و”صفقة القرن” لن تمر..