غزو أوكرانيا واحتلال فلسطين ونفاق المنافقين – نضال حمد
أتابع ما يجري من نقاش وردود أفعال حول الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب الدائرة هناك. لا أخفي سعادتي برؤية التضامن الهائل مع الشعب الأوكراني من قبل الشعوب الأوروبية وبالذات الشعب البولندي. فالبولنديون والأوكران جيران منذ الأزل وتجمعهم أمور كثيرة، الجذور واللغة والعادات والتقاليد والثقافة السلافية وتداخل الأراضي والحدود والشعب المختلط في عدد من مناطق كلا البلدين، وعشرات السنين ضمن النفوذ الروسي والسوفيتي، كذلك تجمعهم مدينة “لفيف” المعروفة باللغة البولندية ب “لفوف” وهي بالأصل مدينة بولندية لازال فيها سكاناً من أصول بولندية. ولكي لا ننسى فإن الروس أيضاً من السلافيين ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم شبيه الى حد كبير بثقافة وعادات ولغة الاوكرانيين وبشكل أقل بالبولنديين.
في بولندا هناك أعداد هائلة من الأوكرانيين الذين يعملون في جميع القطاعات، تعويضاً للبولنديين الذي بدورهم غادروا البلد ويعملون في دول الاتحاد الاوروبي في جميع القطاعات. رسمياً يتحدثون عن واحد مليون أوكراني في بولندا فيما بشكل غير رسمي هناك حديث عن 4 مليون. أما الآن بعد الغزو الروسي واندلاع الحرب فقد يتضاعف الرقمان. خاصة أن الحكومة البولندية فتحت أبواب وحدود البلاد بوجه اللاجئين والفارين الأوكران من الحرب. لغاية صباح هذا اليوم السبت المافق 26-02-2022 دخل بولندا أكثر من 120 ألف لاجئ أوكراني. وقد استعدت بولندا بشكل جيد لاستقبالهم ومساعدتهم فهناك ترحيب شعبي وحكومي وبرلماني وحزبي باللاجئين الأوكرانيين عكس ما حصل مع اللاجئين الآخرين.
نفس هذه الحكومة البولندية اليمينية المعادية للأجانب وللاجئين من دول العالم الثالث ترحب بشدة بملايين اللاجئين من أوكرانيا فيما ترفض استقبال اللاجئين من دول العالم الثالث. يعني هناك تمييز وتفرقة بين لاجئ ولاجئ وفار من حرب هنا وآخر فار من حرب هناك. أو هناك استغلال للتراجيديا الأوكرانية لأن المتهم والمعتدي فيها هو روسيا أي عدو بولندا اللدود. فلا يجوز أن تستقبل لاجئ وترفض لاجئ آخر لأنه من قارة أخرى أو بلد آخر أو لأن ثقافته تحتلف عن ثقافتك وديانته تختلف عن ديانتك.
قبل أيام قليلة تحدث رئيس الوزراء البولندي إلى برلمان بلاده قائلاً: إن بلاده مستعدة لاستقبال وقبول ملايين اللاجئين الأوكرانيين الذين قد يضطرون للفرار من الحرب في أوكرانيا. هو نفسه وحكومته وبلاده رفضوا قبول واستقبال مئات اللاجئين من دول العالم الثالث الذين فروا من الحروب في بلادهم. رفضوا ولازالوا بالرغم من احتجاج قطاعات واسعة من البولنديين ومن مؤسسات المجتمع المدني البولندية، التي تناصر اللاجئين وترحب بهم.
هذه الحكومة نفسها بلا رحمة لأنها تركت اللاجئين عالقين في الغابات بين الحدود البولندية والروسية البيضاوية في فصل الشتاء وموسم البرد الشديد. فالآن يعيش اللاجئون حرباً جديدةً مستعرةً مباشرةً أمامهم وهم معزولين في الغابات بين بولندا وبيلاروسيا. لا أعرف ماذا سيكون مصيرهم في حال تطور النزاع وشمل روسيا البيضاء وبولندا. ببساطة الحكومة البولندية اليمينية المتطرفة لها حساباتها السياسية المرتكزة على العداء التاريخي للروس والخوف منهم. بينما الشعب يتعاطف مع جيرانه لأنه يخشى من نفس المصير ويخاف من تدحرج كرة الثلج وتوسع دائرة الحرب لتشملهم أيضاً. ولديهم أسبابهم التاريخية للخوف والخشية من روسيا وألمانيا الدولتين العظمتين.
بالرغم من تقلب علاقات الحكومة البولندية مع الحكومات الصهيونية “الاسرائيلية”، ويمكن وصفها بعلاقات غير مستقرة فيما يخص الشأن البولندي واليهودي البولندي وقضية معسكرات النازيين في بولندا، حيث كان النازيون المحتلون يعتقلون ويقتلون الأوروبيين ومنهم يهود أوروبا بشكل خاص. لكنها فيما يخص الأمور الأخرى ممتازة حتى انني في بعض الأحيان أشعر أن في بولندا هناك مناطق يمكن تسميتها “اسرائيل الصغرى” أما وسائل الاعلام البولندية فغالبيتها الساحقة متصهينة ومناصرة للاحتلال “الاسرائيلي” وإرهابه. كما يمكن القول أن كل دول أوروبا الشرقية وحلف وارسو سابقاً وحتى روسيا لكن بشكل أقل تقع ضمن النفوذ الصهيوني. يوجد بينهم تعاون وثيق ومتين على كل الصعد، كذلك تعاون في المحافل العالمية، حيث انها تقف الى جانب الصهاينة وضد الفلسطينيين في المؤسسات والمنظمات الدولية وتصوت لصالح “اسرائيل” وضد الفلسطينيين. كما يكذب قادتها وسياسيوها حين يتحدثون عن الصراع في الشرق الأوسط ويتبنون الموقف الصهيوني… هؤلاء لم يدنوا أي جريمة أو مجزرة ارتكبها الصهاينة في غزة خلال العشرين سنة الأخيرة. بل برروا “لاسرائيل” جرائمها. هذا جزء بسيط مما يدور ودار في أوروبا الشرقية منذ انهيار وسقوط حلف وارسو وتبدل الحكومات والأنظمة والسياسات والتحالفات.
أليس غريباً أن نفس هؤلاء الحكام يتباكون على الشعب الأوكراني ويظهرون تضامناً فريداً من نوعه معهم؟ ألا يرى هؤلاء في الشعب الفلسطيني شعباً مظلوماً وتحت الاحتلال ويتعرض للارهاب منذ نحو 80 عاماً، وبأنهم جزئياً مسؤولون عن مأساته، فاليهود الصهاينة الذين احتلوا فلسطين جاءوا اليها بدعم أوروبي وأمريكي وغربي وبريطاني وروسي وأوكراني وسوفيتي وفرنسي وحتى ألماني. فيما حكومة بولندا في ذلك الوقت سهلت رحيلهم وهجرتهم وتدريبهم وتسليحهم وتمويلهم كي يتخلصوا منهم وقد كتبت عن هذا وسائل اعلام بولندية وتبناه الكاتب حين كتب منتشياً بأن يهود بولندا أسسوا “اسرائيل”… الصهاينة جاءوا من هذه الدول، وهم مواطنون أو مجموعة مستعمرين ومجرمين من تلك الدول، احتلوا بلدنا فلسطين وقتلوا وشردوا أهلنا وشعبنا الفلسطيني ولازالوا يواصلون ارهابهم في فلسطين المحتلة. إنهم لا يختلفون عن النازيين وربما أن أفكارهم الصهيونية أسوأ حتى من الفكرة النازية. هذه حقائق يرفض العقل الأوروبي بشكل عام والغربي خاصة تقبلها واستيعابها وفهمها. فقد تمت تربية الأوروبيين والغربين على أن اليهود ضحايا وعلى أن من حقهم تأسيس دولة في فلسطين. ودعموهم واحتلوا بلدنا وأقاموا “اسرائيل”… وهنا كفروا وارتكبوا جريمة جديدة، لكن هذه المرة بحق الفلسطينيين. من الصعب فعلاً إقناعهم بحقنا وقضيتنا لأنهم يجهلون تاريخنا والقصة الحقيقية لقيام الحركة الصهيونية الاستعمارية الفاشية العنصرية. كما لدينا مواطنون عرب وفلسطينيين يجهلون تعقيدات العلاقة بين بولندا ودول حلف وارسو وروسيا. ويجهلون أن هناك مجازر ارتكبت في بولندا وغيرها. وأن هناك ممارسات لا انسانية تمت ممارستها هناك. وأن تلك الشعوب اعتبرت دائما وتعتبر الروس والسوفييت محتلين كانوا يحتلون بلادهم، ويعيشون برعب من قوة ونفوذ روسيا، لذا رهنوا أنفسهم للأمريكان والناتو.
أيها الحكام وأيها المحكومين في أوروبا!
كيف ترفضون الغزو والاحتلال الروسي لأوكرانيا وتؤيدون الاحتلال الصهيوني في فلسطين؟
كيف ترفضون إدانة الارهاب “الاسرائيلي” في غزة وكل فلسطين واحتلال الصهاينة لفلسطين وأجزاء من لبنان وسوريا. فيما تتحدثون عن أوكرانيا ليلا ونهارا وتغمضون أعينكم عن مأساة الفلسطينيين؟… وإذا تحدثتم عنها تكذبون وتزورون وتنافقون، أبشراً أنتم؟ ألكم قلوباً وأطفالاً وعائلات؟
الشعب الأوكراني شعب مسالم لكن حكومته فضلت الانجرار وراء التبعية لحلف الناتو والأمريكان كما قبلت لعب دور رأس الحربة ضد الروس، عبر التوجه نحو جلب حلف الناتو وبالذات الأمريكان الى أوكرانيا. مع العلم أن الناتو يعرف خير المعرفة بأن روسيا لا تسمح باللعب في موضوع هام جداً مثل هذا يخص أمنها الاستراتيجي. برأيي لقد استعجل الأمريكان والغربيون استفزاز روسيا لتشريع العقوبات الاقتصادية عليها وحصارها. لأن الأمريكان بالذات يريدون حصار روسيا وخنقها ويردون ايضا تركيعها اقتصاديا، فهم غير مستعدين لارسال جنودهم الى آتون الحرب حتى لو طالت تلك الحرب دولاً من حلف الناتو في شرق أوروبا.
الأمريكان وقفوا منذ البداية ضد خط أنابيب الغاز الروسي نورد ستريم 2 بالشراكة مع ألمانيا. فالأمريكان يريدون توقيع سريع للعقوبات على الروس سواء بالحرب أو بدونها في أوكرانيا أو في غيرها. أما الروس الذين اتخذوا القرار فعلاً بغزو أوكرانيا وتغيير نظام الحكم فيها أو احتلالها، فبعد عدة محاولات مع الأمريكان والناتو لتحقيق مطالبهم فهموا الرسالة الأمريكية فطبقوا قرارهم بغزو أوكرانيا، بغيىة حسم الأمر بالقوة بعدما رفض الناتو والامركيان حل الخلافات بالمفاوضات وحت فكرة مناقشة الأمر مع الروس. القرار الروسي قد يكلف روسيا غالياً لكنهم يبدو تجهزوا لهذا الأمر وأخذوه بالحسبان.
طبعاً الشعب الأوكراني هو أكثر من سيدفع الثمن في هذه الحرب. والأنكى أن لا أحد من الذين حرضوا الأوطران وكبروا برأسهم في مواجهة الدب الروسي، حتى يفكر بمجرد تقديم مساعدة لأوكرانيا. أقصد الإدارة الأمريكية والناتو أي من الدول التي كانت ولازالت تحرضهم على مواجهة الروس وشهر العداء لهم. هؤلاء يكتفون بالتغطية الاعلامية واستقبال نساء وأطفال أوكرانيا اللاجئين الفارين من جحيم الحرب أو بارسال بعض المساعدات اللوجستية.
بعض دول حلف وارسو سابقاً ونتيجة العلاقات التاريخية السيئة والصعبة والمعقدة مع الروس تتمنى أن تصحى صباح الغد وتجد البحر وقد ابتلع روسيا، وهذه أمنية شبيهة بأماني قادة “اسرائيل” الصهاينة أن يصحوا غداً ويجدوا البحر وقد ابتلع غزة والشعب الفلسطيني كله أينما كان. وأنا بدوري أتمنى أن أنام وأصحى صباحاً فلا أجد “اسرائيل” في بلدي المحتل فلسطين. لكن الأعمال ليست بالتمنيات بل بالعمل والجهد والتضحيات.
في الختام… أعجبني الموقف الشجاع للنائبة البريطانية عن حزب العمال، جولي إليوت، التي قالت: “إن ما يحدث في أوكرانيا من غزو روسي هو مثل ما يحدث في الأراضي المحتلة بفلسطين”. يا سيدة إليوت كلامك جميل وواقعي لكن “اسرائيل” تحتل منذ سنة 1948 كل أرض فلسطين وليس فقط أراضي فلسطينية.
بالنسبة لمعلقين عرب وفلسطينيين على شبكات التواصل الاجتماعي كانوا علقوا بشكل سخيف وأحيانا سيء وحقير على ما يجري في أوكرانيا، بالإضافة لجهلهم التام بطبيعة وتاريخ وحاضر هذه البلاد. أقول لهؤلاء الانسان الذي يقبع تحت الاحتلال والظلم والارهاب لا يمكنه أن يسخر من مأساة شعب آخر ولا أن يؤيد احتلال أوطان الآخرين، حتى لو كام حكامها مثل رئيس أوكرانيا الصهيوني، وحتى لو أنهم أيدوا احتلال بلادنا في فلسطين أو ساهموا ويساهمون في العدوان على سوريا وقبل ذلك في احتلال العراق وتدمير ليبيا وصمتهم على الابادة في اليمن بحق شعب عريق يدافع عن نفسه وبلده وعزته والخ… الحرب قذرة والاحتلال سيء سواء كان هنا أو هناك. لقد رأينا تجارب الاحتلال في فلسطين والعراق ولبنان وفيتنام والجزائر وكوريا وكمبوديا واليمن وليبيا وسوريا وافغانستان وغرينادا وجنوب افريقيا وانغولا وموزمبيق وجرز فوكلاند وأماكن أخرى كثيرة في العالم. ويعرف سكان اوروبا الاحتلال النازي ويتذكرونه منذ الحرب العالمية الثانية وهو كابوس يتمنون أن لا يتكرر أبداً.
عندما نقارن بين القضيتين الاوكرانية والفلسطينية فنحن نسلط الضوء على النفاق الأوروبي والغربي والعالمي فيما يخصهما، فهنا مع أوكرانيا وهناك ضد فلسطين. وهنا ضد الغزو والاحتلال الروسيين وهناك مع الارهاب والاحتلال الصهيونيين.
يا للعجب!
ما هذا النفاق أيها الناس؟
ففلسطين مثل أوكرانيا بحاجة للسلام والحرية والتضامن العالمي وبحاجة لكلمة حق بوجه الارهاب الصهيوني الأطلسي.
نضال حمد
26-02-2022