غسان كنفاني: المعلم ما زال شابا – رشاد أبوشاور
إن كان مثلي، تربطه صلة إنسانية وأدبية بغسان كنفاني، فالطلب منه التقيد بكتابة نص في حدود ألفي كلمة، عن غسان الروائي، القاص، المسرحي، الصحفي، الكاتب الساخر، الإعلامي، التشكيلي، المقاوم بكلمة تتدفق ليل نهار باسم فلسطين، ولأجلها، فهذا سيفرض عليه أن يكتب في مساحة ضيقة، وأن يكون قوله مختصرا، وهذا أمر صعب ومحرج، ولذا ألتمس المعذرة من الحضور، ومن قرّاء هذه المداخلة، لأنني لن أفي غسانا ما هو جدير به، وبالتأكيد سأبدو مقصرا تجاه تميّز غسان وغنى عالمه واتساعه.
كتبت عن غسان مرارا، وتحدثت عنه شفويا في لقاءات أدبية، وفي أمسيات أطرفها في مخيم خان الشيح، وتلك الأمسية لا تغيب عن بالي، ولذا أشعر بالرغبة في الإشارة إليها، والتوقف عندها قليلاً.
ذات يوم دعيت إلى مخيم خان الشيح لتقديم أمسية عن كاتبنا الكبير غسان كنفاني، وفي ساحة فسيحة من المخيم، فأصبت بالرهبة، ودهمني إحساس بفشل ما أنا مقدم عليه، إذ كيف سأتعامل مع جمهور سيجلس في ساحة عامة، وهو غير محدد، وأكثره من أهلنا الطيبين البسطاء.
تأملت الحضور، فرأيت شبابا، ورجالاً كبارا، ونساءً يحتضن أطفالهن، فلمعت في ذهني فكرة تجاسرت على طلب تنفيذها: طلبت من القائمين على الأمسية أن يحضروا عازف الأرغول ( أبوحسن)، فاستغربوا، لكنهم أمام إلحاحي انتشروا في المخيم وبحثوا عنه حتى وجدوه وأحضروه،.
عانقته، وأجلسته بجواري، واقترحت عليه ما يلي: يبدأ بسحبة على أرغوله، حتى يسلطن الحضور، ونضبط إيقاع الجمهور، ثم أشرع أنا في الكلام وأسكت بعد وصلة غير طويلة، فيدخل هو بأرغوله، وهكذا…
كانت ليلة لا تنسى، وامتدت السهرة حتى ساعات الفجر الأولى، وحين هممت أنا ومن معي من الأصدقاء بالتحرك عائدين إلى دمشق أصر مضيفونا على أن نتناول طعام الإفطار معا.
لقد قدمت أنا وأبوحسن رحمه الله أمسية أقرب ما تكون للمسرح الشعبي، فانبسطت النساء، وسكت أطفالهن وغفوا في أحضانهن، وبعضهن كن يلقمن أطفالهن أثداءهن كلما همّوا بالبكاء حتى يستمتعن بما يسمعن.
كم سرني هذا، فأنا لم أترفع على أهلي في المخيم، وكأنني مثقف له شروط، فأهم أمنياتي ستبقى دائما الوصول إلى من أكتب لهم، أنا ابن المخيم، والحديث عن غسان ابن الشعب والقضية لا يكون مصطلحات مثقفين ومتثاقفين.
لدي سؤال أرجو تأمله ونحن نحتفي بغسان في الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهاده: هل استشهاد غسان كنفاني هو السبب المباشر لما يتمتع به من حضور فلسطيني، وعربي، وعالمي؟!
سؤالي هذا سببه المباشر مقال كتبه الياس خوري قبل حوالي أربعة عقود، ربما وجد له صدى لدى بعض القراء آنذاك.
كتب الياس خوري مقالة في مجلة ( شؤون فلسطينية) _ إذا لم تخني الذاكرة في العدد 17 – أطنب فيه بالحديث عن قيمة إبداع غسان الروائي والقصصي، ولكنه عاد وكتب عن غسان في نفس المجلة،في العدد ال50 ، أو ال 51 _ واعذروني عن عدم تحديد رقم وتاريخ العدد بالضبط، لأنني تنقلت في عدّة بلدان عربية مشرقا ومغربا، وتخليت عن مكتبتي عدّة مرات اضطرارا _ وسخّر مقاله ذاك لسوق براهين على أن قيمة غسان كنفاني تعود إلى استشهاده المأساوي.
رددت على مقالة الياس في مجلة ( المعرفة) السورية التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية بمقال عنوانه: الياس خوري يرد على الياس خوري، وواضح من العنوان أنني سقت ماكتبه في مقالتيه، وتساءلت في مقالتي: ألا يمكن أن يغير الياس خوري في مقالة ثالثة ما كتبه في مقالته السابقة؟ ( يمكن الوصول إلى عدد مجلة المعرفة بالعودة إلى أرشيفها، في أعداد منتصف السبعينات، ربما في العام 1976).
استشهد غسان كنفاني في الثامن من تموز 1972 بكمية من المتفجرات أودت بحياته ومعه الشابة لميس ابنة أخته، وكانت كمية المتفجرات الهائلة قد أريد بها أن لا يخرج جريحا، بل أن يمزق جسده نهائيا..فانظروا حجم حقد العدو الصهيوني عليه، هو الكاتب الذي قاتلهم بقلمه ورسوماته، بقصصه ورواياته ومقالاته وبحضوره الإعلامي.
غسان أقلق العدو، فهو أثّر في مناضلين أممين، وحضوره الإعلامي وصل بعيدا، ولهذا استهدفه العدو..لقيمته وحضوره وتأثيره، فهو يقدم رواية فلسطينية نقيضة لرواياته المزوّرة المزيفة المضللة.
غسان الذي استشهد قبل أربعة عقود ونصف ما زال من الكتاب الأكثر مبيعا، والأكثر قراءة، ومن أجيال شابة، يجتذبها أدبه، رواياته، وأعماله القصصية، وهذا ليس بتأثير الدعاية والترويج له، فهو لا ماكنة إعلامية تروّج له، ولكن لما تمتاز به أعماله الإبداعية بعمقها وجمالها وقدرتها على التأثير.
غسان كنفاني روائي، فماذا أضاف للرواية العربية؟
أدعوكم لإعادة قراءة روايتيه( رجال في الشمس) و( ما تبقى لكم)، ففيهما إجابة على السؤال.
سبق وكتبت عن ( رجال في الشمس) وتوقفت أمام التقنية التي اجترحها غسان، فهو يمضي بشخوص روايته في زمن آخر، لأنهم يمضون عبر أمكنة، واتجاه نقيض لوجهتهم الطبيعية المفترضة، ولزمنهم الذي يفترض أن يمضوا معه إلى أمكنتهم الطبيعية التي اقتلعوا منها.
الفلسطيني المشرّد، الجائع، المخذول عربيا رسميا في حرب أودت بفلسطين وشعبها إلى نكبة، يفترض أن يكون هاجسه وجهده باتجاه ما ضاع من فلسطين، وأن يكون خياره المقاومة، ورفض الواقع والوقائع، ولكنه انكسر أمام المعاناة فاتجه شرقا.. وأدار ظهره لفلسطين التي يفترض منطقيا وإنسانيا أن تكون خياره الذي لا يتحرر بغير المقاومة.
لا أريد تلخيص ( رجال في الشمس) فهي رواية لا تلخص، وتقرأ دفعة، أو جرعة واحدة، وحجمها الصغير يساعد على هذا، وهي تبدأ من مكان و..تنتهي في مكان صادم: مزبلة مدينة الكويت، بعد عبور الحدود العراقية الكويتية في صهريج يقوده أبوالخيزران الفلسطيني الذي خصي في حرب ال48..أو خصته هزيمة 1948.
المكان غير ثابت، وهذه وحدة في الرواية تمرّد عليها غسان، والزمان لا يمضي إلى الأمام، ولكنه يذهب بشخوص الرواية إلى زمن نقيض، ولأن الزمن لا يمضي القهقرى، فإنه يترك( الهاربين) من واقعهم، الهاربين من المواجهة، ليموتوا خارجه، وأبوالخيزران بعد التخلص من جثثهم على مزيلة مدينة الكويت، يعود ويلتف بسيارته و يخلع عن معصم مروان ساعته، فالموتى لا يحتاجون لمعرفة الوقت_ الزمن..وكل هرب من المواجه هو موت خارج الزمن.
رواية مكثفة، مركزة، مشحونة، مأساوية، والعجب العجاب أن أبا الخيزران( قائد) الرحلة المخصي.. يبقى حيا، وهو يحملهم مسؤولية موتهم المأساوي، ويبرئ ذمته بالسؤال: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!
ذات يوم في بيروت، وكنت رئيس تحرير جريدة ( القاعدة) كتبت في صفحتها الرابعة مقالا بعنوان: احذروا عودة أبي الخيزران…
لقد رأيت أننا أدخلنا في جوف الخزان من جديد، وأنه يُسار بنا في اتجاه معاكس للوجهة الطبيعية المرتجاة، وأننا نؤخذ خارج زمن الفعل..وأن أبا الخيزران قد عاد، ولم يمت بعد، وما زال يقود..وأنه خصي الرؤية، والإرادة، والوعي، وأنه ليس مجرّد فرد واحد.
في فيلم المخدوعون يردد أبوالخيزران : ثقوا بي، فأنا القائد.
لقد تنبه المخرج الصديق المرحوم توفيق صالح إلى ما يمثله أبوالخيزران، وأراد أن يحذّر من خطورة دوره القيادي…
ربما يسألنا غسان اليوم ككتاب، كمثقفين، كمقاومين، كفلسطينيين: لماذا دخلتم في الصهريج، وكأنني لم أحذركم، وأفتح عيونكم على ما ينتظركم من خلال تسليط الضوء على ما جرى لمن سبقوكم؟!
ولعله يشير إلينا نحن الكتب والمثقفين سائلاً: أنتم: ماذا فعلتم لتجنيب شعبنا هذا المصير الذي وصل إليه؟!
إنني أرى أن نكبة الفلسطينيين تتكرر لأن آباء الخيزرانات ما زالوا يقودون الصهريج ، ويأخذون شعبنا الفلسطيني في طريق يؤدي إلى المزبلة، وإلى موت خارج الزمن، وانتبهوا: ابوالخيزران ليس مجرّد فرد واحد.
هذه الرواية ستبقى دائما تقرع السؤال فوق رؤوسنا: لماذا دخلتم في الخزان، ولماذا راح بكم ابوالخيزران إلى وجهة ليست وجهتكم، ولماذا فقدتم الوعي بالزمان والمكان، ولماذا تركتموه يقودكم؟!
وانتبهوا: مع كل هذه الأسئلة: لن نشمت بالضحايا فهم أخوتنا، ولهم علينا حق التعلم من مأساتهم.
هل أواصل الكلام عن هذه الرواية الصغيرة الحجم _ الجوهرة_ للبرهنة على إنها لم تضف موضوعا نادرا للرواية العربية حسب، بل أضافت تقنية جديدة، فيها من السينما، والمسرح، والفهم للزمن، وهي لا تترك للقارئ أي مجال للوقوف على الحياد، وهنا تبدو على قرابة من مسرح بريخت التعليمي التغييري.
غسان كنفاني روائي مجدد، مثقف، مطلع على حداثة الرواية العالمية، وهو كما نعرف جميعا كان يقرأ الإنقليزية جيدا، وقد قرأ فولكنر، وهمنغوي، ومن همنغوي أخذ البساطة مع العمق، ومن فولكنر استفاد من التقنية التداعي، سيما في روايته الشهيرة ( الصخب والعنف)، ولكنه استفاد ولم يستنسخ، وهنا الفرق بين المبدع والمقلد.
انظروا لفهمه للزمن في روايته ( ما تبقى لكم). يرمي حامد بالساعة بعيدا، وهو يتواجه مع العسكري الصهيوني التائه في الصحراء بين غزة والضفة الفلسطينية، وتبدأ الساعة في النبض، وزمنها هنا محايد، فهو ليس لمصلحة حامد ولا لمصلحة الصهيوني التائه – انتبهوا لهذه الصفة_ إلاّ إذا..
في رواية الصخب والعنف يهدي الأب ابنه ساعة، ويقول له: يا بني لقد أهديتك هذه الساعة لا لتعرف الوقت، ولكن لتنساه بين وقت وآخر، أمّا غسان فيريدنا أن لا ننسى الزمن، بل أن نعمل لتحقيق انتصارنا عبره بالفعل والمواجه، ففي هذه الصحراء: إما أن ننتصر على الصهيوني التائه..أو ينتصر علينا..والزمن سيعمل لصالحنا إن نحن اشتبكنا مع عدونا المدجج بالسلاح، والغريب عن المكان، واستأصلناه من فوق أرضنا.
الزمن لا يعمل لمصلحتنا لأننا أصحاب حق حسب، فالحق لا يضيع إذا كان وراءه مطالب، والمطالب لا يستجدي، ولكنه ينتزع حقه بقوة ذراعه، وهنا سيكون الزمن معه.
في أعماله الروائية المكتملة، وغير المكتملة، لجأ غسان إلى إبداع تقنية فنية مختلفة، وهذا نجده في ( برقوق نيسان)، وفي ( العاشق) ، وفي( الأعمى والطرش)، كما في ( رجال في الشمس) و( ما تبقى لكم) و( أم سعد) و( عائد إلى حيفا).
سبب تعدد التقنيات، يعود إلى غنى عالمه، واختلاف التجارب التي يكتب عنها، فأم سعد الشخصية الشعبية، غبنة المخيم، ليست حامدا ما تبقى لكم…
دائما، في كل أعماله الروائية والقصصية الكاملة، وغير المكتملة، كان هاجسه تقديم أعمال فنية راقية ، تحمل فلسطين فنيا، ولا تتكئ عليها.
هذا الكاتب والإنسان الكبير عاش عمرا قصيرا، فجّرت شبابه عبوة كافية لنسف جبل، وهذا برهان على خطورته على العدو، وحقد العدو عليه، وقلقه من بقائه حيا.
قيمة غسان سبقت استشهاده، وما زالت تكبر بعد رحيله، بإبداعه، وباستشهاده الذي أكسب حياته الجدارة التي تستحقها، فالموت الذي هدف به العدو أن ينهي به حياته، ويغيبه تماما، جدد حضوره، لأنه لم يتمكن من القضاء على إبداعه المتعدد والغني، ولا على دور المثقف الثوري القدوة.
تساءلت دائما، وتجدد تساؤلي وأن أعود لقراءة رواياته المكتملة، وما لم يكتمل منها: لماذا عمل غسان في ثلاث روايات دفعة واحدة، ولم يكملها، وكيف كان يعمل في ثلاث روايات في نفس الوقت، وهي: الأعمى والأطرش، والعاشق، وبرقوق نيسان؟
أكان يشعر أنه في سباق مع الموت، كونه كان مريضا بالسكري، أو يشعر بالتهديد لحياته من العدو الصهيوني، وبأن حياته التي تكتنفها المخاطر المحدقة به ستكون قصيرة، وأنه يريد لهذه الحياة أن تكون غنية ومثمرة وباقية مع شعبه، وذات مكانة في الحركة الأدبية العربية، مع الكبار..وهو ما تحقق له بجدارة.
ذات يوم زرته أنا والشاعر العراقي مؤيد الرواية، وكنا ننتمي إلى فصيل فلسطيني – الجبهة الشعبية القيادة العامة- ، وكنا ذهبنا إليه في الهدف، في حي المزرعة، قبالة مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف التنسيق بين الجبهة الشعبية والقيادة العامة إعلاميا.
ضحك وهو يستقبلنا، واقترح أن نترك التنسيق للسياسيين، وأنه يريد أن يقرأ لنا عملا روائيا جديدا يشتغل عليه، ليسمع رأينا فيه.
اخرج دفترا طويلاً مقوّى الغلاف، وبدأ يقرأ، حتى أكمل..وسألنا : ما رأيكما؟
لم يكن العمل مكتملاً، لكنه كان باهرا، جديدا بتقنيته، وهذا كان رأينا أنا ومؤيد.. كان ذلك النص هو ( برقوق نيسان).
كانت حبكة الرواية بوليسية إلى حد ما، مشوقة، ومثيرة، وتحيل على هوامش يوضحها بالشرح في الجزء السفلي من الصفحات.
التواضع من صفات غسان، ولا يمكن لمثقف وكاتب أصيل كبير مثله إلاّ أن يكون متواضعا، ومنصفا لكل ما يراه جديرا بالتقدير.
مرة أخبرته أنني درست في معهد فلسطين( الإليانس) في حي الأمين، وشاهدت لوحات صغيرة له معلقة على جدران غرف المدرسة، فانتبه مبتسما، وسألني:
-
هل علمتك هناك؟
ضحكت وأجبته:
-
في تلك المدرسة ..لا.
فازدادت ابتسامته، لأنه عرف أين تعلمت منه.
كان قد انتقل إلى الكويت، وترك مدرسة معهد فلسطين، قبل سنة من التحاقي بها.
غسان المتواضع أنصف كتابا كثيرين، وأسهم في إشهارهم، وهذا يبرهن على غنى نفسه، وأريحيته، ونبله، على عكس كثير من المشاهير الذين لا يهمهم أحد، سوى أنفسهم.
انظروا إلى نصوصه في كتاب ( فارس فارس)، والذي اتسمت مقالاته بالسخرية، وخفة الدم، والطرافة.
لقد أنصف كتابا عربا، ونبه لأهمية نصوصهم، ومنهم: غائب طعمة فرمان، وتوقف أمام روايته (خمسة أصوات)، ومحمد خضير صاحب قصة( الأرجوحة) التي نُشرت في مجلة ( الآداب) ، وإسماعيل فهد إسماعيل صاحب رواية ( كانت السماء زرقاء ).
غسان لا يستعلي ويترفع عن قول كلمة منصفة بنتاج روائي، أو قاص، أو شاعر، أو فنان تشكيلي، فتأملوا..وتعلموا.
إذا كان غسان قد ترك أعمالاً روائية غير مكتملة، فقد ترك منجزا قصصيا مكنملاً، يضعه في مصاف كبار كتاب القصة القصيرة العرب، وثمة قصص قصيرة كثيرة له لا يمكن أن تنسى، وتبقى محفورة في الذاكرة، كقصة الصقر على سبيل المثال..وغيرها الكثير.
غسان رائد دراسة الأدب الصهيوني، فهو عرّفنا بالدور الذي قام به هذا الأدب، وجوهره الإيديولوجي العنصري، ووظيفته الدعائية، وعمله على غسيل العقول، وتزوير الحقيقة في الصراع على أرض فلسطين، وتصهين كتاب غير يهود وظفوا كتاباتهم صهيونيا، وبزوا الكتاب الصهاينة في انحيازهم أحيانا.
غسان عرّف بشعراء وكتاب فلسطين المحتلة عام 48، الذين كانوا مجهولين، وكسر بذلك عزلتهم، ومنح نصوصهم حضورا فلسطينيا وعربيا.
خاض غسان معارك فكرية، قدمته مفكرا ومثقفا كبيرا، واجه التزوير مبكرا، وفضح الأدعياء الذين غرسوا بذور الانحراف مبكرا…
عودوا إلى معاركه الفكرية، ومنازلاته الفكرية، وستكتشفون أن ما طرح من أفكار ما زال صحيحا، وضروريا، فهو كان روائيا ثاقب الرؤية…
أترك للمسرحيين أن يكتبوا عن مسرحه، ويقدموه على الخشبة، ولنقاد الفن التشكيلي أن يدرسوا ما ترك من لوحات وخطوط، والتي جعلت من اسم فلسطين لوحة لا تنسى، وستبقى تضيء وتجتذب النظر…
عندما وقف غسان مؤبنا الكاتبة الكبيرة سميرة عزام، اختتم كلمته بالكلمتين التاليتين: كانت معلمتي…
لا يرضى غسان كنفاني أن نمتدحه بالقول أنه لا قبله ولا بعده، فهو لم يسع لإغلاق الطريق، ولكنه فتح طريقا واسعا أمام كتاب فلسطين، الروائيين والقصاصين…
غسان كنفاني: منذ الثامن من تموز 1972 وحتى يومنا هذا، أي بعد خمسة وأربعين عاما وهو شاب في السادسة والثلاثين، ولكن المتغيّر أنه يكبر قيمة وحضورا ثقافيا، ويتجذر حضوره، ليس فلسطينيا، بل عربيا، وأحسب انه حاضر عالميا أيضا، رغم كل ما لحق بالكفاح الفلسطيني، وما لحق بالقضية الفلسطينية من خسارات راهنة.
غسان رعا مواهب كبيرة، ملأت وطننا العربي حضورا بفنها، في مقدمتها: الفنان الشهيد الكبير ناجي العلي..وهنا أسأل: هل حضور ناجي يعود لكونه شهيدا؟!
غسان ما زال شابا، وإبداعه ما زال شابا يانعا متجددا، وسيبقى غسان ما بقي شعب فلسطين، وما بقيت رواية عربية، وقصّة قصيرة عربية.
غسان ينتصر باستمرار بإبداعه على القاتل الصهيوني، الذي سيبقى تائها في الصحراء حتى هزيمته الحتمية… وتكلل مقاومة عرب فلسطين، وكل المقاومين العرب رافعي راية فلسطين بالانتصار التاريخي المؤزّر…