غسان كنفاني: كَرَمز افتراضي… وثوريّ – أسعد أبو خليل
هم ظنّوا أنهم لم يتركوا لنا منه (ومن لميس) إلّا أشلاء مبعثرة ومتناثرة في ضاحية من ضواحي بيروت. هم ظنّوا أن غسان فكرة تموت بموت صاحبها، أو أنّ غسان كنفاني —كفكرة— لن يعمّر. لكنه أثبت حضوره بعد موته بقوّة تعادل حضوره الحياتي، أو أكثر بكثير. يعيش غسّان كنفاني بيننا اليوم بحضور قوي: قصصه ورسائله وفنّه وصوره تملأ العالم الافتراضي.
لكن قتل كنفاني كان عنواناً للمخطّط الصهيوني في محاولة القضاء على المبدعين والموهوبين والقديرين في الثورة الفلسطينيّة. يريد العدوّ أن يترك لنا جبريل رجّوب ومحمد دحلان وياسر عبد ربّه ومحمود عبّاس: ليس صدفة أن هؤلاء يتحكمّون اليوم —بالنيابة عن الاحتلال الإسرائيلي— بمصير منظمّة التحرير الفلسطينيّة. لكن ثقة العدوّ بقدرة عنفه وبطشه على تحقيق غاياته لم تثبت جدواها بعد قرن (أقلّ بسنة واحدة) من وعد بلفور. فقدرة الشعب الفلسطيني على اجتراح معجزات ثوريّة ومقاومة وعلى التجدّد أجهضت أكثر من مرّة مؤامرات العدوّ. والعدوّ يقتل شعراء وكتّاباً وصحافيّين وفنّانين وعسكريّين وعلماء وأكاديميّين مستفيداً من تغطية غربيّة مطلقة على جرائمه. لكن قتل غسّان كنفاني رفع من شأن الرجل، بعكس ما أراد العدوّ.
مواقع التواصل الاجتماعي العربيّة تحفل بثقافة مغايرة للثقافة السائدة في إعلام النفط والغاز. ثقافة مواقع التواصل أكثر علمانيّة من الثقافة السائدة، وهي حافلة بالتجديف والتشكيك والرفض والثورة والهزل، وهي أيضاً حافلة بالتسطيح والإباحيّة والتسخيف. هي ليست حرّة تماماً: إذ أنها تحفل أيضاً بوجود قوي لأجهزة المخابرات العربيّة والعالميّة التي ترصد المواقع العربيّة مستفيدة من أجهزة مراقبة غربيّة لمساعدة الطغاة في طغيانهم. هناك صفحات على فايسبوك تحمل عناوين عن العلمانيّة وعن العلم فيما هي تُسرّب أفكار التطبيع وتنشر أقوال مُحقّرة للعرب على ألسنة صهاينة (والأقوال هي غالباً مختلقة —أي أن مختلقيها يتقصّدون إهانة العرب على يد أعدائهم). والحضور المخابراتي الغربي والخليجي لم يعد سرّاً: فقد أوكلت الحكومة الأميركيّة، مثلاً، للحكومة الإماراتيّة أمرَ «محاربة التطرّف الإسلامي» على مواقع التواصل. وهناك مواقع تحمل أسماء تبدو محايدة، فيما هي مُغرضة. لكن من الجوانب المميّزة لصفحات التواصل العربيّة أنها خلقت مشاهيرَ لا ترى أثراً لهم في الإعلام السائد. ناجي العلي و«حنظلة» ظاهرة نافذة، مثلاً، فيما ناجي العلي مجهول ومنسي في الإعلام السائد لأنه لم يرحم أحداً ولأنه هشّم المقدّسات (حتى تلك المرتبطة بمنظمة التحرير في الحقبة العرفاتيّة). وأم كلثوم تبدو حيّة في أذهان وأسماع الجيل العربي الجديد. هناك مطربات ومطربون من جيلها مجهولون من قبل الجيل العربي الجديد، لكن أم كلثوم تبدو عصيّة على النسيان اليوم. وغسان كنفاني واحد من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي العربيّة. حضوره قوي في غيابه، لا بل هو أقوى. لم يعد غسّان كنفاني محصوراً بجمهور الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، بل أصبح رمزاً افتراضيّاً عربيّاً —لكن هنا المشكلة.
هناك فارق كبير بين الرموز الافتراضيّة وبين الرموز الحقيقيّة. لا يصعب تحديد التأثيرات السلبيّة السياسيّة لمواقع التواصل الاجتماعي. من أوّلها هي العولمة، أي أن القضايا —وبالتالي معايير القضايا— تصبح عالميّة ومُعولمة وغير خاضعة لأهواء سكّان الأطراف. يظنّ المشترك والمشتركة أنه يتشارك في الكوكب مع أخوة وأخوات لهم لم يرهم، وأنه يتساوى معهم في الحظوظ والمواقع والتأثير. هذا يفسّر ما تحدّث عنه عامر محسن قبل أيّام: ان هناك في لبنان، مثلاً، من يتحمّس لهيلاري كلينتون أو لمرشّح جمهوري أو ديمقراطي كأنه معني شخصيّاً بالانتخابات الأميركيّة. يشاهد الفرد البرامج التلفزيونيّة نفسها والأفلام نفسها ويقرأ العناوين نفسها. لكن العولمة الافتراضيّة تخفي —أو تحاول أن تخفي— جوراً مستفحلاً على الصعيد العالمي. مسلسل «فرندز» أو «ساينفلد» يخفي الصراعات الطبقيّة والعنصريّة والظلم في المجتمع الاميركي ويُقدِّم صورة خياليّة عن حياة لا عذاب أو سعي أو صعوبات فيها. هذا ما كان رونالد ريغان يقوله: إن ما على الولايات المتحدة أن تفعله لمواجهة الاتحاد السوفياتي تقديم صور عن الحياة الأميركيّة وكيف ان كل أميركي يملك منزلاً مع بركة سباحة. ظنّ ريغان أن حياة جيرانه في حي «بيل اير» («الراقي»، على ما توصف أحياء الأثرياء) هي نموذج لحياة الجميع.
ومن المساوئ الأخرى لـ«النضال السياسي» على فايسبوك انه يوازي في ذهن المشارك بين الفعل الحقيقي والفعل الافتراضي: التوقيع على عريضة ضد الاحتلال الإسرائيلي يصبح بمثابة عمل مقاوم ضد دوريّة لجيش الاحتلال، ومشاركة صورة عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي تصبح أقوى من تظاهرة ضد السفارة الإسرائيليّة في بلد عربي بغية تحطيمها، كما فعل ثوّار مصر. لكن العالم الافتراضي يُفرغ القيم من معانيها أيضاً. ليس النضال نضالاً ولا السياسة سياسة ولا الجمال جمالاً. ما يظهر هو ما يريد المُشارك أن يُظهره، أو ما تريده أجهزة المخابرات أن تشاركه. وهذه ما حلّ بغسّان كنفاني في العالم الافتراضي. وهذا ما حلّ بغيره أيضاً: تشي غيفارا لم يعد إلّا شخصيّة بهيّة الطلعة، والشباب الذين يتداولون صوره وأقواله غالباً لا يعلمون أنه كان شيوعيّاً وان المخابرات الأميركيّة قتلته. كان جبران تويني (نموذج لبناني للرجعيّة واليمينيّة والطائفيّة) يحتفظ في مكتبه بصورة لغيفارا —لكن بعن أن أفرغ الاسم من معناه. هذه ما حلّ بماو تسي تونغ على يد الفنّان الأميركي، أندي وورهول (وهو كان متديّناً مُحافظاً خلافاً للصورة التي تربطه بالهيبيّة في الستينيات): فقدَ ماو رمزيّته الثوريّة وأصبح لوحة عاديّة مثل مغلّف علبة حساء «كامبل» (التي صمّمها وورهل نفسه).
حسنٌ أن غسان كنفاني بات من مشاهير الفايسبوك. لكنه في العالم الافتراضي بعيد عن شخصيّته الحقيقيّة. هو العاشق الولهان، ورسائله لغادة السمّان باتت هي الرائجة. لا عيب في الحب ولا عيب في التعبير عن الحب. على العكس، إن نموذج غسّان كنفاني هو تعريف اليساري كما يجب أن يكون: مُحبّ للمقاومة العسكريّة وللحب والفن والأدب على حدٍّ سواء. إنّ مقولة التناقض بين «حب الحياة» وبين «المقاومة» هي من تصنيع أجهزة الدعاية الإسرائيليّة والأميركيّة بعد عدوان تمّوز لتقويض أسباب المقاومة ولتصويرها على عكس ما هي عليه. إنّ الفصل بين حب الحياة وبين حب المقاومة والثورة هو فصل مصطنع ومناف للمنطق. الذين ينشرون قيم الاحتلال والقمع والطغيان هم الذين لا يحبّون الحياة، لكن باسم حب الحياة. ثم كيف يمكن حبّ الحياة — بمعنى من المعاني – والعدوّ جاثم بجزمته العسكريّة فوق صدور الآمنين والآمنات؟ لكن رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان شكّلت علامة فارقة في حياته: هي عرّفته إلى جيل جديد من العرب، لكنها صوّرته جزئيّاً فقط، وكما أرادت نرجسيّة السمّان أن تصوّره لنا. قرّرت أن تنشر تلك الرسائل (وبناء على معيار انتقائي منها لم تصارحنا به) ومن دون الاستحصال على إذن من الشهيد. هي تقول إنها فقدت كل نسخة من رسائلها إلى غسّان لكن ذلك لا يكفي. ماذا عن مشاعر أرملة غسّان، آني (تقول عنها السمّان «الرائعة آني»، كأن ذلك الوصف المُجامِل كفيل باندمال الجرح التي أمعنت هي في تعميقه)؟ حياة غسّان الخاصّة كانت ملكاً له ولزوجته لكن السمّان كشفتها على العلن على طريقتها وأخفت جانباً حزيناً منها.
لم يكن غسّان كنفاني في علاقة حب مع السمّان. كان في علاقة «حب من طرف واحد» (إذا كان هذا النوع من الحب المستحيل حبّاً) مع السمّان، وكان أصدقاء غسّان يحثّونه باستمرار على التخلّص من جذب الحب المستحيل وعذابه، خصوصاً وأن أصدقاء غسّان الخُلّص كانوا يعلمون بناء على رسائل السمّان إليه (التي لم تنشر منها ولا رسالة) وعلى تعاطيها معه مدى تلاعبها بعواطفه. (كشفت بطاقة بريديّة واحدة ذكرتها السمّان في كتابها عندما أرسلت إلى غسان جملة واحدة فقط من لندن تقول له فيها «شو هالبرد»، فيما كان هو ينتظر على أحرّ من الجمر رسالة مستفيضة منها). تلوّع غسّان في هذه العلاقة، وتلوّعت معه «الرائعة آني» (لكن زواجه شأن خاص بينه وبين زوجته). وبعد استشهاد غسّان، كان زملاؤه في المجلّة ينتقمون لقائدهم عبر السخرية من السمّان (عندما، مثلاً، شكت من الحرب الأهليّة لأنها سبّبت لها الأرق. راجع «الهدف»، ٢٠ كانون الأوّل، ١٩٧٥). لا أستهين بأدب رسائل كنفاني إلى غادة سمّان —وهي جميلة الإنشاء- لكنه لم يكتبها لنا كي نقرأها نحن. وهو حتماً لم يكتبها كي تقرأها «الرائعة آني». لكن مساريْ كنفاني والسمّان افترقا: هو التحق بركب جورج حبش وهي التحقت بركب سليم اللوزي (مع انه احتفظ بحبّه لها ولو مُضمراً). لكن غسان لم يكن فقط العاشق المُثقل بـ«تبعات الهوى»، على قول الأخطل الصغير.
كنفاني كان يمثّل الكثير في حياته (وفي مماته). كان أيضاً للتذكير الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وعضو مكتبها السياسي. وكان أكثر من ذلك: كان بحكم اتصاله بالإعلام الغربي ومتابعته للمنشورات الأدبيّة والسياسيّة مستشاراً وثيقاً لجورج حبش ووديع حدّاد. كان وديع حدّاد يعتمد عليه لترصّد مواقف وردود فعل الحكومات الغربيّة على أعمال المقاومة، فيما كان حبش يعتمد عليه لتلخيص ما يصدر في عالم الكتب والإعلام الغربي (راجع مقابلة أمجد ناصر مع جورج حبش في عدد «الهدف» الخاص عن كنفاني، ١٢ تمّوز، ١٩٨٠). وكان كنفاني صحافيّاً رائداً: بدأ عمله الإعلامي في سن مبكرّة (في السادسة عشرة من عمره) في مجلّة «الرأي» الصادرة في منتصف الخمسينيات عن حركة القوميّين العرب. ثم عمل فيما بعد في مجلّة «الحريّة» الصادرة عن حركة القوميّين العرب منذ أوائل الستينيات. وفي عام ١٩٦٤، تسلّم رئاسة تحرير ملحق «فلسطين» في جريدة «المُحرّر» (التي كان يكتب ويُحرّر فيها). ينسى كثيرون الدور الطليعي الذي لعبته الجريدة المذكورة، وهذا الملحق الخلّاق، في التأثير على الوعي السياسي بين جيل وأكثر من اللبنانيّين واللبنانيّات. إن ملحق «فلسطين» كان النافذة التي أطلّت منها قضيّة فلسطين على الشعب اللبناني (تراجع أعداد جريدة «النهار»، مثلاً، في تلك الحقبة ولا تجد أثراً يُذكر عن فلسطين، فيما كانت تعجّ صفحات الجريدة بأخبار عن «اكتشاف» الفينيقيّين للقارة الأميركيّة). كانت «المحرّر» (حتى تدميرها وإغلاقها من قبل قوّات النظام السوري، وبالرغم من تمويلها اللاحق من قبل النظام العراقي) هي الحقنة المُضادة ضد رجعيّة «النهار» وضد طائفيّتها المقيتة. وكان غسّان يكتب بأسماء مستعارة في «الحوادث» و«الأنوار» و«الصيّاد» (قامت الصحافة اللبنانيّة الوطنيّة وغير الوطنيّة على أكتاف وإسهامات فلسطينيّة، بما فيها مجلّة «الحوادث»).
كن إسهام غسان الحقيقي كان في إصدار أوّل مجلّة ثوريّة من نوعها في العالم العربي، أعني «الهدف» في عام ١٩٦٩، بعد سنتيْن من انطلاق الجبهة الشعبيّة. يذكر كل مَن دار في فلك الجبهة الشعبيّة وانسحر بوهجها وانعقد لسانه امام «حكيمها» ذلك اليوم الذي لمست فيه أصابعه للمرّة الأولى مجلّة «الهدف». المجلّة كانت المُجنّدة الأولى لصفوف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، في لبنان والبلدان العربيّة (حيث كانت ممنوعة لكن مُهرّبة). هي صنيعة غسان كنفاني وصنيعة ذائقته الفنيّة والأدبيّة والسياسيّة. لو تضع الجبهة الشعبيّة على الانترنت النسخ الرقميّة من الأعداد الأولى للمجلّة، لأمكن التعرّف إلى دور آخر مجهول لغسان كنفاني.
كانت المجلّة تنشر بشفافية لا مثيل لها تبرّعات ترد الجبهة بالدولارات والدنانير والقروش حتى من المخيمات الفلسطينيّة. كل الصحافة الثوريّة العربيّة (من عُمان إلى الصحراء الغربيّة) كانت تقليداً لصحافة غسّان كنفاني. عرَف كنفاني الجمهور العربي وللمرة الأولى على الأمميّة في الاهتمام والتغطية والحساسيّة. لو تقارن صحافة الحزب الشيوعي اللبناني بصحافة غسان كنفاني لقلتَ إن الأولى هي صحافة اليمين والثانية هي صحافة يسار ثوري، مقارنةً. صنع كنفاني صحافة يساريّة غير مملّة ومتنوّعة خلافاً لصحافة خالد بكداش وجورج حاوي ونقولا الشاوي و«دار التقدّم». كانت «الهدف» تمثّل ما أراده جورج حبش وكنفاني من الجبهة الشعبيّة في بداياتها: تشكيل خط يساري عالمثالثي جديد ومستقل. لكن هذا الخط لم يعمّر طويلاً إذ سرعان ما بدأت الجبهة تتلقّى المعونات من كوريا الشمالية (وكان لنظام تلك الدولة صفحتان من الدعاية السياسيّة غير المجانيّة — لكن ذلك كان بعد استشهاد غسّان)، ثم بدأت العلاقة مع النظام العراقي (وكان ذلك قبل توثيق العلاقة مع الاتحاد السوفياتي ما حوّل الجبهة الشعبيّة إلى فصيل شيوعي عربي آخر موالٍ للاتحاد السوفياتي). لكن آمال حبش وكنفاني كانت مختلفة في البدايات.
والحديث عن أدب غسان كنفاني بات شائعاً لكنه كان رائداً في ذلك المضمار في نواح متعدّدة. كتبت عنه رضوى عاشور في «الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسّان كنفاني» أنه كان من القلائل الذين طرحوا القضيّة الوطنيّة في بعدها الطبقي: «لم يكتب عن مأساة وطن في المطلق بل عن مأساة الفقراء من أهله» (ص. ٥٦). (وأصابت عاشور في ملاحظتها ان صورة المرأة قليلة في أدب غسّان -وان عزت ذلك مدافعة إلى المعشر الذكوري للرجل). والتحليل الطبقي لازم غسّان في كتابته وفي تأريخه الدقيق للثورة الفلسطينيّة في ١٩٣٦، ففيها يستلهم من نموذج القسّام القومي، ويضيف «وعندما استشهد القسّام لم يمشِ في جنازته إلاّ الفقراء». شكّل الفقراء عامل غسان كنفاني الأدبي.
والكتابة الصحافيّة لغسان كنفاني كانت مميّزة منذ بداياته. عرف مبكّراً كيف يمزج بين الثوريّة والسخرية وبين الكتابة الجاذبة: لم يكتب على طراز معلّقي الصحف آنذاك، ولم يكتب بلغة منبريّة الفتها مطبوعات القوميّة العربيّة في حينه. في آخر مقالة له في «الصيّاد» (كتبها باسم فارس فارس ونُشرت باسم غسّان كنفاني بعد وفاته) قال ساخراً: «يا مساكين يا عرب… لو كان لديكم بدل الفدائيّين الثلاثة، ثلاثة أسراب من قاذفات الـ«بـ٥٢» الاستراتيجيّة، وبدل الرشّاش الخفيف طاقة من النار، تبلغ ألفي طنّ من القنابل في الساعة الواحدة، لصار منطقكم عند «الاكسبرس» و«النيويورك تايمز» وإذاعة لندن وفالديهم منطقاً معقولاً، يمكن الاستماع له».
وفي زمن كان نايف حواتمة «يبشّر» الشعب الفلسطيني بقرب حلول التسوية، أي (لا) حل الدولتيْن (يقول حواتمة في عام ١٩٧٤: «التسوية السياسيّة آتية ويجب ألّا نكون سلبيّين»، «النهار»، العدد السنوي، «الشعب الفلسطيني، ١٩٧٣-٧٤، ص. ٦٥)، كان كنفاني يحذّر باستشراف من مخاطر التسوية (راجع مقالته بعنوان «شبح الدولة الفلسطينيّة» في «الهدف» ٦ آذار ١٩٧١). وفي هذه المقالة التي تنطبق على وضع السلطة الفلسطينيّة المسخ في رام الله يقول كنفاني:«… ولم يكن من المصادف أن تزداد حملة الدولة الفلسطينيّة ضراوة بعد مجزرة أيلول، لأن هذه المجزرة قد هيّأت ظرفاً نفسيّاً سلبيّاً… ويستهدف طرح هذه الفكرة على هذه الصورة الإمعان في عزل المقاومة، وسحب أرضها الشعبيّة من تحتها، فذلك هو الطريق نحو فرض حلول الاستسلام على الشعب الفلسطيني…». ويوضّح الهدف المبكّر من طرح الدولة في غرضيْن لها: «أولاً، سلب ولاء الجماهير للمقاومة كاحتمال للمدى البعيد يمرّ الآن في فترة جزر، مقابل «وعد» على المدى القصير… ثانياً، دفع المقاومة لخوض معركتها الحاسمة الأخيرة في وقت غير مناسب، وذلك دفعاً نحو تصفيتها جسديّاً قبل موعد المعركة الحقيقيّة مع «الحل السلمي» اجمالاً». كأنه هنا كان يحذّر من المخطّط ضد المقاومة الذي اشتعل في لبنان في عام ١٩٧٣ وتجدّد بقوّة في عام ١٩٧٥. ولم تساور كنفاني أوهام حول طبيعة الدولة المنشودة فقال: «إن «فلسطينستان» لا يمكن ان تكون إلا مشروعاً مرتبطاً بمجمل المعركة الراهنة التي تخوضها حركة المقاومة الفلسطينيّة». لو أن أركان سلطة رام الله قرأوا هذا الكلام لكانوا حرمونا من عواطفهم واستذكارهم لغسان كنفاني.
عاش غسان لعقد واحد من الزمن في لبنان (دخله من دون أوراق ثبوتيّة في أوائل الستينيّات من القرن الماضي) لكنه ترك أثراً بالغاً في الحياة السياسيّة والصحافيّة والثوريّة والفنيّة. كان العقد الذي عاشه هو عقد غسّان كنفاني، لكنه لم يشهد كيف قوي تأثيره وانتشر على مدى أجيال بعد اغتياله. واغتياله كان تعبيراً عن تواطؤ السلطة اللبنانيّة، بأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة، مع العدوّ الإسرائيلي. قلّة تذكر أن غسّان تعرّض لاعتداء في صيف ١٩٧٠ من قبل زعران في بيروت: تعرّض للضرب والمهانة قبل ان تتدخّل قوّة من الشرطة، فيما فرّ المعتدون وهم يُطلقون النار في الهواء. جريدة «النهار» نقلت الخبر في حينه، نقلاً عن شكوى غسّان لدائرة الشرطة، وسخرت منه موحية أنه اختلق الخبر من أساسه. التقليل من حجم الأخطار التي لاحقت غسّان كانت جزءاً من المخطّط ضدّه. والدولة اللبنانيّة استعانت بأجهزة مستوردة لمراقبة الطرود البريديّة التي كانت تصل مفخّخة من جهاز «الموساد»، لكن أحداً في الدولة كان متواطئاً مع العدوّ. إن الطرد البريدي الذي انفجر بين يدي بسّام أبو شريف في ذلك العام مرّ قبل تسلّمه على الجهاز الخاص الذي ابتاعته الدولة اللبنانيّة بضغط من قادة المقاومة بعد توالي اغتيال فلسطينيّين على أيدي «الموساد». لقد كان الطرد يحمل ختم الأمان من وزارة البرق والبريد (كما كانت تُسمّى آنذاك). لكن متى كانت الدولة اللبنانيّة وأجهزتها تخضع للحساب والمساءلة خصوصاً فيما يتعلّق بالتعامل والتواطؤ مع العدوّ الإسرائيلي؟
يعيش غسّان كنفاني بيننا، وحضوره يقوى على مواقع التواصل. والعدوّ الذي ظنّ انه تخلّص من فكرة غسان كنفاني وأدبه يعاني من انتشار فكر وثورة غسان كنفاني، فيما يقوى فكر معاداة المقاومة في العالم العربي. لكن قوّة كنفاني تكمن في قدرته على التعريف بالقضيّة الفلسطينيّة لجيل عربي جديد… من قبره.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com) يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@