“فتح”… تبديل القاطرة أم تغيير السّكة؟- معين الطاهر
ثمّة اعتقاد خاطئ يسود أوساط العاملين في الحركات السياسية أنّ المؤتمرات التنظيمية تأتي لتقرّر سياساتٍ، وتخطط برامج، وترسم استراتيجيات عمل المرحلة المقبلة، وتنتخب قادةً جدداً وتعزل آخرين. وذلك على اعتبار أنّ هذه المؤتمرات تُشكّل، في حال انعقادها، أعلى سلطةٍ تنظيمية وسياسية في هذه الحركات، وهي سيدة نفسها، ولها أن تقرّر ما تشاء، بأغلبية أعضائها. إلّا أنّ الواقع يخالف هذه النظرية تمامًا، فالمؤتمرات تأتي لتعكس موازين قوى قائمة ومسيطرة في هذه الحركات، وتشرّع برامج سبقت ممارستها، وتفرض قراراتٍ وقيادةً يسهل التنبؤ بها في أغلب الأحيان. وهو واقعٌ مُعاش بصورةٍ واضحةٍ في الثورة الفلسطينية المعاصرة، كما هو في مجمل الحركات السياسية. وحسبنا أن نذكر أنّ مؤتمرات حركة فتح السابقة، واجتماعات المجالس الوطنية أقرّت برامج سياسية بعد ممارستها بأعوام، ولم تنتظر القيادة الفلسطينية عقد أي مؤتمرٍ للتخطيط لها، أو للبدء في تطبيقها. وحسبنا في ذلك برنامج النقاط العشر الذي جعل الثورة الفلسطينية تتجه باتجاه إقامة سلطة وطنية، وتسعى إلى الانخراط في عملية السلام، بعد حرب تشرين 1973، قبل عقد أي مؤتمر يُشرّع مثل هذه التحوّلات بأعوام.
في ظل تلك التغييرات، يسابق الرئيس محمود عباس الريح، وبدعم من اللجنة المركزية لحركة فتح، في محاولته تعزيز سلطته، وتجديد شرعيته، والتحرّر من العبء الزائد في حمولته، والمتمثّل بالحرس القديم من قدامى المناضلين، وكذلك التحرّر من ضغط الشتات، والتخلّص من خصومه، ومقاومة الضغط المتزايد الذي يتعرّض له من الرباعية العربية، وخصوصاً مصر والإمارات، اللتين تسعيان إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، بما فيها ترتيبات انتقال السلطة بعد انتهاء عهد الرئيس عباس (أو خلاله)، بما يضمن عودة القيادي المفصول، محمد دحلان، إلى ساحة المنافسة على قيادة السلطة الفلسطينية وحركة فتح في مرحلتها الجديدة.
ولعلّ أولى الملاحظات، هنا، أنّ الرئيس محمود عباس ولجنته المركزية يساهمان في وضع الحَبّ في طاحونة دحلان، عبر إجراءاتٍ تستفز قطاعات أوسع بكثير من هذه المجموعة، بحيث يتخيّل المراقب أنّ كل من هو مختلفٌ مع الرئيس، أو معارضٌ لإجراءاته التنظيمية، أو رؤيته السياسية، يقف بالضرورة في الصف الدحلاني، وهو أمر منافٍ للحقيقة والوقائع، إذ أنّ المؤتمر المقبل لحركة فتح، والمُقرّر عقده في 29 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، يستهدف تحضير الحركة لمرحلة جديدة، تستدعي ربما أكثر من تغيير القاطرة، واستبدال ركابها، على اختلافهم وتنوعهم، وصولاً إلى استبدال مسار سكّتها، ومحطتها النهائية أيضًا.
ثمّة مؤشرات عديدة بهذا الاتجاه، توضح أنّ “فتح” بعد المؤتمر ستختلف جذريًا عن “فتح” الحركة المناضلة التي انطلقت عام 1965، بل وتختلف أيضًا عن “فتح” ما بعد إعادة إنتاج “أوسلو” في عهد الرئيس محمود عباس، ذلك أنّها تتجه، بخطى حثيثة، لتكون حزبًا فلسطينيًا يسعى، بشكل رئيس، إلى أن يكون حزبًا للسلطة في الضفة والقطاع، وفي ظروف الانقسام ربما للضفة الغربية وحدها. وهو حزبٌ متحرّرٌ من أعباء الشتات، ومن قدامى المناضلين، ومن تاريخ مجيد ممتد.
توضح نظرة سريعة على قوائم أعضاء المؤتمر السابع لنا مدى قتامة الصورة المستقبلية، إذ يبلغ الأعضاء الممثّلون للشتات الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم، بما فيها المنطقة العربية، 128 عضوًا من أصل 1350 عضوًا في المؤتمر، أي بنسبة 9% فقط، والأدهى أنّ عدد ممثّلي ساحات رئيسة، تضم تجمعاتٍ فلسطينية كبرى، أدّت دورًا كبيرًا في احتضان الثورة الفلسطينية، مثل الأردن وسورية ولبنان، لا يزيد عن عدد ممثّلي منطقة سلفيت أو وسط الخليل، ذلك أنّه جرى تقسيم الضفة الغربية إلى ما سُمي 14 إقليمًا، فمحافظة الخليل مثلًا أضحت أربعة أقاليم، وهكذا. ويماثل كل إقليم منها، في عدد أعضائه، ساحة مثل الأردن أو لبنان أو سورية (بمعدل 13-15 عضوًا)، بحيث أصبحت نسبة تمثيل هذه الساحات لا تزيد عن 1% من أعضاء المؤتمر الإجمالي. ولهذا دلالة سياسية لا تخفى على أحد، من حيث محاولة تحويل حركة فتح من حركة التحرّر الوطني للشعب الفلسطيني، في مختلف أماكن وجوده، إلى حزبٍ، بالكاد يتسع لأهل المناطق المحتلة عام 1967، وهو ما يحرّرها من تحمّل أعباء مهمة، مثل حق العودة ورعاية اللاجئين والمخيمات.
لم يقتصر الأمر على تقليص النطاق الجغرافي لعضوية المؤتمر، ومدلوله السياسي، بل تعدّاه إلى تغيير واضح في نوعية الأعضاء، إذ غلب على تشكيلة المؤتمر ارتباط أغلب أعضائه بوظائف ضمن أجهزة السلطة المدنية والعسكرية، وترافق ذلك مع إقصاءٍ شبه كامل لمئات المناضلين داخل الوطن وخارجه، ومنهم عشرات حضروا ثلاثة مؤتمرات سابقة على الأقل. إذ لم يعد مطلوباً فقط تغيير القاطرة، بل تعدّى ذلك إلى تغيير ركّابها، وقطع المستقبل عن أي تاريخ سابق.
صدر، خلال الشهر الماضي، قراران مهمان للمحكمة العليا في السلطة الفلسطينية، يتعلّق الأول
بحق الرئيس في رفع الحصانة البرلمانية عن أعضاء المجلس التشريعي. وردَّ الثاني استئناف قدّمه أسرى محرّرون، قضى بعضهم ما يزيد عن عشرين عامًا في سجون الاحتلال، ضد وزارة المالية التي قطعت رواتبهم، وهي قضية منظورة في المحاكم منذ سبعة أعوام، وحجة المحكمة العليا أنّ هؤلاء خرجوا على السلطة الشرعية، أي أنّ الراتب، حتى لو كان لأسير أو متقاعد، مرهون استمراره باستمرار ولائه للنخبة الحاكمة، وكذلك الحصانة النيابية، في محاولةٍ سافرة للجم أي صوت معارض.
أمّا الأفق السياسي للمؤتمر، والذي سيحدّد المحطة الجديدة، فهو ساطع سطوع الشمس، من خلال نهج المفاوضات والتنسيق الأمني السائد، وثمّة تنظيرات جديدة تتحدّث عن اللجوء إلى ما تسمى المقاومة الذكية، وهو يُذكّرنا بحديث سابق عن المقاومة العبثية، كما يُذكّرنا بما كان يتردّد، في السبعينيات، عن المقاومة الشريفة، حجة استخدمت مرارًا لضرب المقاومة.
لن يستطيع الرئيس محمود عباس أن يقاوم ضغوط الرباعية بمثل هذا النهج، ولا بمثل هذه الأدوات، وهو، في خطواته تلك، يُقدم على مغامرةٍ خطرةٍ، تمسّ مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، وتحوّل السلطة المقبلة إلى شكلٍ مسخ من أشكال الحكم الذاتي المحدود، في ظل هيمنة كاملة للأجهزة الأمنية.