فتح والسلطة: عن أي فصلٍ نتحدث؟ – رازي نابلسي
انطلقت المُظاهرة، ظهرًا، من دوّار المنارة باتجاه المُقاطعة عبر شارع الإرسال. وبجانب «فندق الحمرا»، قبل 500 متر من مبنى المُقاطعة، مركز حكم الضفّة الغربيّة حاليًا، بدأت عمليّة القمع؛ غاز مسيل للدموع وقنابل صوت، وهراوات على الرؤوس والأجساد. وفي المساء، كانت مظاهرة أخرى، قُمعت بالأدوات نفسها، مع إضافةٍ مُهمّة جدًا من الطرفين؛ الكر والفَر.
قرّر الشبّان عدم الرجوع للمنازل، وقرّرت أجهزة القمع مُلاحقتهم حتّى منطقة رام الله التحتا، بالغاز المسيل للدموع أساسًا وقنابل الصوت والضرب. هذا كان يوم الخميس، اليوم الذي استيقظت فيه فلسطين على خبر قيام أجهزة الأمن التابعة للسُلطة الفلسطينيّة باغتيال المُعارض لها، الشاب الناشط السياسيّ والاجتماعيّ، نزار بنات. ومن تلك اللحظة سارت الأحداث باتجاه عملية احتلال للشارع في رام الله، وصلت ذروتها يوم الأحد عندما قامت «فتح» و«السُلطة» بإنزال مُظاهرات إلى دوّار المنارة، الميدان الرئيسي في المدينة، تأييدًا للسُلطة ورئيسها محمود عبّاس، ومرّة أخرى، قمعت كُل من تواجد.
في اليوم الثانيّ للقمع، يوم السبت تحديدًا، دخل عامل مُهمّ على أدوات القمع والسيطرة، شبّان بلباس مدنيّ، باشروا بسحب الناس من الشارع والاعتداء عليهم بالحجارة والعصي، قبل أن تصل المظاهرة أصلًا إلى حاجز الأمن الموجود في شارع الإرسال. وفي هذه اللحظة، دبّت فوضى رهيبة في الشارع، أطلق خلالها الأمن ذو الزي الرسمي، قنابل الصوت والغاز المُسيل للدُموع، واعتدى الأمن باللباس المدنيّ بالضرب وبإطلاق قنابل الغاز أيضًا. وفي هذه اللحظة أيضًا، فهم المتظاهرون والمُحتجون على إعدام بنات، أن السُلطة قد فعّلت سلاحًا إضافيًّا دائمًا ما كان بحوزتها: حركة «فتح». وفجر يوم الإثنين، كتبت صحيفة الحياة الجديدة الموالية للسُلطة وفتح في كلمة العدد: «الشارع إلنا».
في هذه اللحظة، لحظة دخول حركة فتح حيّزَ القمع الفعليّ، دخل الفلسطينيّون في نقاش قديم جديد يخرج مع كُل عمليّة قمع من هذا النوع: ما الموقف من الشبّان الذين يقمعوننا؟ ما الموقف من كوادر فتح التي تحتل الشارع بالقوّة لفرض إرادة السلطة؟ الهدف من هذا السؤال هو تحديد شكل التعاطي والخطاب الموجّه لهؤلاء الشبّان في الأجهزة الأمنيّة، بهدف البحث عن نقطة ضوء خلف قنابل الغاز المُسيل للدُموع، البحث عن إنسان يُمكن استقطابه وثنيه عن قمع أبناء شعبه. لكن هذه العلاقة بين فتح والسلطة أكثر تداخلًا وتركيبًا.
«فتح» و«السُلطة»: تانغو البقاء
للسُلطة عمودان أساسيّان تستمد شرعيّة وجودها منهما، وكلاهما وجوديّ بالنسبة إليها؛ الأول هو فتح ومنظّمة التحرير والإرث التاريخيّ للثورة الفلسطينيّة، والثاني هو اتّفاقيّة أوسلو والعلاقة مع الاحتلال والمُجتمع الدولي الغربي. وهذان العمودان يعيشان تناقضًا تاريخيًّا. ومن هُنا، فإن مصدرا شرعيّة السلطة متوتران أصلًا، ويعيشان في حالة تكيّف مُستمرة. ولا يُمكن، باعتقاديّ، فهم مُعادلة وجود السُلطة ومصادر شرعيّتها دون فهم هذه الظروف التكوينيّة للنظام السياسيّ في الضفّة الغربيّة. فالادّعاء بأن السُلطة عبارة عن شركة أمنيّة فقط، تقوم بحماية أمن المستوطنات وتنسّق أمنيًا مع الاستعمار، لوحده، يتفتّت على عتبة سؤال لماذا لم تستطع «إسرائيل» تثبيت روابط القرى بمستوى ثبات السُلطة ذاته؟ هذه ليست المرة الأولى التي يُحاول فيها الاحتلال حكم الضفّة من خلال وكيل له، لكنّه فشل سابقًا عندما سعى لذلك.
أمّا الادّعاء بأن هذه السلطة هي «سلطة فتح» وحدها، فهو أيضًا يتفتّت على عتبة سؤال «ماهيّة فتح». إذ هُناك اليوم أجنحة فتحاويّة أكثر من فصائل منظّمة التحرير، وجميعها تدّعي أنّها فتح الأصليّة، هذا بالإضافة إلى أن فتح تتغيّر وتغيّرت باستمرار، والاسم لا يعني الفكرة بالضرورة، خاصة في الحالة الفلسطينيّة حيث «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» باتت تنسّق أمنيًا اليوم مع دولة احتلال فلسطين.
يتفاعل النظام السياسيّ في الضفّة الغربيّة وفق هذه المُعادلة، وفي هذا التفاعل تتغيّر فتح دائمًا لتلائم ذاتها: تُعزّز المظهر والتاريخ والإرث والقبيلة، وفي الوقت نفسه تتنازل دائمًا عن الجوهر المُقاتل في عمليّة تدريجيّة ومستمرّة. تخرج لتقمع الناس تحت شعار حماية المشروع الوطنيّ، وتُعزّز الترابط ما بين كوادرها تحت شعار الحفاظ على سُلطة فتح، وتُحرّض على المتظاهرين لوأد الفتنة والأجندات الخارجيّة.
من هُنا فإن السُلطة لا تستطيع العيش ولا البقاء دون فتح كغطاء سياسيّ داخليّ، كما لا تستطيع الصهيونيّة البقاء دون الإطار اليهوديّ الذي يمنح الحركة السياسيّة شرعيّتها الداخليّة. أمّا فتح ذاتها، فإنّها في مسيرة التكيّف التي تعيشها، تتغيّر دائمًا باتجاهين: الاتجاه الأول هو تحويل الكادر السياسيّ الثوريّ إلى كادر موظّفين مستفيدين من السُلطة، وبالتاليّ السيطرة عليهم من خلال الراتب بدل القناعة السياسيّة، أي تغيير دوافع البقاء في الحركة وربطها بالسُلطة. أمّا الاتجاه الثانيّ الطبيعيّ فهو الإقصاء المستمر للقيادات ونُخب الحركة، إمّا بسبب صراعات شخصيّة على توزيع الموارد كحالة دحلان مثلًا، وإمّا بسبب صراعات سياسية ترى أن هذا التحوّل في الحركة قد تخطّى حدود الممكن والمقبول، وهو ما حصل مع ناصر القدوة ومروان البرغوثيّ؛ القدوة الذي تُهمّشه الرموز الأخرى في الحركة لكونه يمثّل فتح التي لم تتكيّف كليًا بعد، والبرغوثي الذي يحمل رمزيّة الأسر التي تتناقض مع الدور الجديد الذي تلعبه فتح، أو الدور الذي يُفترض أن تلعبه.
هذا هو المسار الطبيعيّ في مثل هذه المُعادلة، فالتحوّل عن الدور التاريخيّ تدريجيًا لصالح النقيض، الذي اتّخذ وتيرة أسرع وأكثر جذريّة منذ تولّي أبو مازن رئاسة الحركة، وتحديدًا ما بعد الانتفاضة الثانية، يتطلّب أولًا تغييرًا في جوهر الحركة، وفي كوادرها ونُخبها أيضًا. ومع هذا التغيير المُستمر، باتت السُلطة أيضًا مسألة وجوديّة بالنسبة لفتح، فعندما لا تُنظّم ولا تُعبّئ سياسيًا، وعندما لا تُقاوم ولا تتحدّى ولا تُقاتل، تغدو أموال السُلطة ومؤسساتها وفسادها الطريقة الوحيدة للحفاظ على التنظيم ومدّه بالكوادر وضمان عدم حصول تسرّب جماعيّ منه. باختصار، العلاقة بين فتح اليوم والسُلطة باتت وجوديّة لكلا الطرفين.
العلاقة المعقّدة بين فتح والسلطة هي ما يفسّر وجود كوادر فتحاويّة في المُظاهرات التي قمعتها فتح والسُلطة، أسرى مُحرّرون سُجنوا فتحاويين وتحرّروا فتحاويين قُمعوا إلى جانب المُتظاهرين. وهذا ما يُفسّر أيضًا ما حصل على صفحة الأسيرة المُحرّرة عهد التميمي، التي شارك شقيقها بقمع الناس في الشوارع خلال وجود والده ووالدته بين المُتظاهرين. ففي الوقت الذي كتبت فيه عهد أن والدتها طردت شقيقها من المنزل وطالبته بألّا يعود إلّا بعد الاستقالة والاعتذار وإلّا ستتبرّأ منه، هاجمها أبناء الأجهزة الأمنية والسُلطة على صفحتها بالقول: «بعد ما طلعتي من السجن مين عملّك الاستقبال؟ الفواتير بعدها موجودة». ورغم أن عائلتها «فتح» وبلدتها «فتح» تاريخيًا، إلّا أن هذه العائلة تحديدًا، فيها فتح وفتح: «فتح أبو مازن» الحديثة التي تدفع وعندها فواتير وتتطوّر تبعًا للتمويل، وفتح القديمة التي باتت اليوم فُتاتًا موزعًا ما بين مفصول ومُقصى.
بين التاريخيّ والسياسيّ
في فلسطين، لا يوجد لما يُسمّى «استمرار الوضع القائم»، فهُناك مشروع استعماريّ يقوم بتغيير الوضع القائم يوميًا. هذا مشروع استعماريّ لا يُتخَم ولا يشبع ولا يتوقّف عن الابتلاع إلّا عندما لا يستطيع، وهذا ما تقوم به المُقاومة. والوضع القائم في علاقة فتح والسُلطة كما كُل شيء في فلسطين لا يُمكنه أن يستمر للأبد؛ الاحتلال يطلُب المزيد من السلطة التي تمنحه أمنيًا وسياسيًا، وفي الوقت نفسه يقوم يوميًا بإحراج فتح، إمّا على الأرض بالاستيطان في الضفّة والقدس، أو في السياسة.
وللحفاظ على المُعادلة، تقدم قيادة فتح المسيطرة التنازلات في الشق التاريخي والسياسي. فمروان البرغوثيّ الذي تتهمه «إسرائيل» بالمسؤوليّة عن عمليّات فدائية عديدة، وأحد أهم قيادات الانتفاضة الثانية، لم يكن ضد «أوسلو» ولا ضد المفاوضات، حيث كان يؤمن بالشقّين كضرورة. سابقًا كان هُناك مكانٌ لهؤلاء في صفوف قيادات الحركة، إلّا أنّه وعلى عتبة التغيير المُستمر باتت مساحة «الوطنيّة» تقل لصالح «السلطوية» كُل يوم، فتلفُظ الحركة أصحاب نظريّة المُفاوضات والثورة تباعًا وتدريجيًا من اللجنة المركزيّة ودوائر صنع القرار فيها، حتى بات من يحكم فعليًا في الضفّة اليوم هم حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنيّة، أي منسّق العلاقة مع «إسرائيل»، وماجد فرج، رئيس جهاز المُخابرات العامّة.
أمّا الأجنحة الأخرى، فإنّها تسقط تدريجيًا مع تغيير الوضع القائم الذي يقوم به الاستعمار. وهو وضع شبيه بذلك الذي وجدت القوى السياسية في أراضي 48 نفسها فيه، إذ فيما كانت تسعى للحفاظ على معادلة «فلسطين هويّة ثقافيّة» من جهة و«المواطنة الإسرائيليّة كأداة تحصيل حقوق» من جهة أخرى، قامت «إسرائيل» عمليًا بربط الحقوق «المدنيّة» المُشتقة من المواطنة بالتنازل عن «فلسطين كهويّة ثقافيّة»، حتّى وصلنا إلى منصور عبّاس.
لذلك، لا يُمكن برأيي، قراءة عمليّة القمع الأخيرة التي حصلت إثر اغتيال بنات، دون فهم الوضع السياسي الجديد الذي وجدت فتح والسلطة نفسيهما فيه بعد الهبّة الأخيرة في فلسطين ومعركة «سيف القُدس». يدلّ على هذا الوضع الجديد اختفاء السلطة وفتح عن الحيّز العام كليًا، وخاصة يوم الإضراب العام الذي شهدته فلسطين، حيث كانت رام الله خالية من أي مظاهر فتحاويّة أو أمنيّة، واقتصر الحضور الأمني يومها على تأمين محيط المقاطعة من كافة الاتّجاهات، وكأنّها كُتلة مُعادية للتحرّك وخائفة منه بدل أن تقوده.
في الهبّة، أعاد الاحتلال والولايات المتحدة اكتشاف السُلطة من جديد. إذ وبعد فترة طويلة كانت فيها السلطة مُهمّشة من قبل إدارتيْ ترامب ونتنياهو، تبيّن خلال الهبّة أنّها لا تُسيطر على شيء في الشارع؛ لا في القدس ولا أراضي 48 ولا الضفّة الغربيّة، وأن الهبّة بعيدة عن البُنى التقليديّة قيادة وسيطرة، وأن هذه السلطة قد وصلت إلى مرحلة صارت بينها وبين الشارع الفلسطينيّ مساحة تجعل من دورها السياسي غير ممكنٍ أصلًا. وهذا ما تؤكده مصادر إسرائيليّة قالت إن المبعوث الأمريكيّ عندما وصل إلى رام الله اكتشف أنّهم لا يُسيطرون على شيء، وتؤكده مقولة الصحافيّة الإسرائيليّة دانا فايس عندما قالت «يجب علينا تقوية السُلطة، إن بقي ما يُمكن تقويته هُناك أصلًا». هذا في مُقابل تحوّل حماس بعد المعركة إلى التنظيم الأساسيّ المُقاتل في الحالة الفلسطينيّة، خاصة مع ربط القدس بغزّة بدلًا عن رام الله، والهتاف لمحمد الضيف وأبي عبيدة وسط رام الله، مركز حكم السُلطة وفتح، بعد إلغاء الانتخابات بسبب معرفة أبو مازن أنّه لن ينتصر فيها.
هذا كلّه، كان نتيجة غياب فتح تدريجيًا لصالح السُلطة، فالشارع يتقدّم في صراعه مع الاستعمار، في الوقت الذي تراجعت فتح عن الشارع، فباتت تحوّط مركز حكمها أمنيًا خلال ثورة الشارع، في الوقت الذي كانت هذه المقاطعة ذاتها خلال اجتياح رام الله وحصار عرفات عام 2002 المصنع الذي منه يستمد الشارع زخمه.
الدور التاريخيّ لمنظّمة التحرير وحركة فتح انتهى؛ هذه حقيقة. أمّا الدور السياسيّ، فلا يزال ضروريًّا جدًا لبقاء السُلطة، وهو الضبط الداخليّ والتفاوض باسم الشعب الفلسطينيّ. وحتى تلعب السلطة هذا الدور عليها أن تضمن قدرتها على إضفاء الشرعيّة على الاتفاقيّات أو المُفاوضات، وعليها أن تضمن احتكارها للتمثيل الفلسطينيّ، أو في هذه الحالة أن تجدّد احتكارها. باختصار، عليها أن تضمن أنّها لا زالت تُسيطر على فتح وأنها قادرة على استغلالها؛ وعليها أن تضمن في المُقابل سيطرتها على الشارع الفلسطينيّ. هذا يحصل في وقت اطمأنت فيه لحاجة «إسرائيل» وأمريكا لها بعد أن شاهدوا الحياة بدونها.
من هذه الزاوية، يغدو الاغتيال والقمع وشكله منطقيًّا جدًا؛ فالاغتيال حصل في مناطق إتش تو (H2) وهي منطقة تسيطر عليها «إسرائيل». ويبدو أن سماح «إسرائيل» للسلطة بالدخول إليها يأتي في إطار جهود «تقوية السُلطة ودعمها» التي كان ضعفها من أهم استنتاجات الاحتلال في الهبّة الأخيرة. وبعد أن اكتشفت السُلطة مكانتها الحقيقيّة في الهبّة لم يعُد أمامها إلّا القمع أو العودة إلى الثورة، والثانية غير ممكنة كما يبدو في الظرف الموضوعيّ الحاليّ. ولم تكن تستطيع أن تقمع إلّا بغطاء فتح كأداة يمكنها الاستناد إلى إرث شهدائها و«المشروع الوطني» الذي حملته فتح سابقًا كشعار للقمع؛ ولا خوف من المجتمع الدولي بعد الاغتيال والقمع بسبب الاطمئنان إلى حاجته إليها لحماية «إسرائيل».
في النهاية، ما عنوان كلمة العدد في صحيفة الحياة «الشارع إلنا»، بعد أن نزل الأمن بصور أبو مازن، إلّا رسالة لمن سيطر على الشارع في الآونة الأخيرة وأرادت السُلطة استرجاعه منهما؛ الشعب والمُقاومة.
:::::
موقع “الحبر”