فدائية الشعب الفلسطيني …ومسؤولية دمه المنتفض – عبد اللطيف مهنا
هي مرحلة من الخطورة بحيث لا يكفي قولنا فيها أنها تطرح تساؤلاتها حول وجود وهوية ومستقبل أجيال أمة بكاملها. أمة عريقة التاريخ منداحة، الجغرافيا، متفرّدة الخصوصية، حضارةً، وثقافةً، كالأمة العربية…مرحلة اختلط فيها حابل المفاهيم بنابل المواقف، وغامت فيها الرؤى، حتى جاز الظن بانعدام القدرة لدى نخبها، ولا نقول عامتها التي قد تحصّنها فطرتها، على التمييز بين معسكري الأعداء والأصدقاء، ومن ثم الاصطفاف السليم في الموقع الصحيح. أي أنها مرحلة ساءت فيها أحوال الأمة، بحيث حق لنا الاستبشار بمجرَّد رفض قمة دول الجامعة العربية، ومن بعد قمة منظّمة الدول الإسلامية، الصريح لإعلان رئيس الولايات المتحدة القدس عاصمةً لحلفائه المحتلين، وإشهار بطلان وساطته المنحازة، والدعوة لاستبدالها بآلية دولية.
قبل القمتين، وإثر خطوة ترامب مباشرةً، كانت كافة دول العالم تقريباً، بما فيهن الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وغير الدائمات، وحتى المتصهينات المنحازات الداعمات تاريخياً للمحتلين منهن، وكذا الحليفات للولايات المتحدة الأميركية، اللواتي انقسمن ما بين مُدينة وشاجبة، أو رافضة ومعارضة، أو معلنة أنها لا تتفق معه، وقلة القلة التزمت النأي بالنفس. وكان شبه اجماع دولي على كونها خروجاً على القوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، أو الأسس التي يستند إليها النظام الدولي، والتي تعتبر “القدس الشرقية” أرض فلسطينية محتلة…لم يك مع ترامب غير نتنياهو.
لاشك أن اغلب هذه الدول قد اتخذت مواقفها بناءً على حساباتها الصرفة، وتحسباً لارتدادات وتداعيات خطورة هذه الخطوة العدوانية على الأمن العالمي وعلى مصالحها، وليس لسواد عيوننا وعدالة قضيتنا، وشاهدنا هنا الدول الأوروبية مثلاً، وهناك دول لخشيتها من تكرار السابقة الأميركية وسحبها على قضايا وأمكنة أخرى، ومنها مسايرةً لشارعها ومحاولةً لامتصاص غضبته، وقد لانعدم من اتخذت موقفها انسجاماً مع مبادئها.
بعد القمتين، لا ادري إن كان هناك من يجادل في كون القمتين العربية والإسلامية لم تتجاوزا سقف ردود الأفعال الدولية التي مررنا عليهاً، اللهم إلا ما اشرنا إليه من تغليظ لعبارات الشجب والإدانة، والجزم بعدم أهلية وسيط عرف بانحيازه الدائم للمحتلين ولم يعرف يوماً بالنزاهة، والدعوة لاستبداله ب”آلية دولية، بمعنى استمرار ذات المسيرة التي أوصلتنا للحالة التي استوجبت انعقاد القمتين، مع تغيير للمايسترو لفقدانه الأهلية لربع قرن خلى واستمرار المعزوفة…أما الاعتراف اسلامياً ب”القدس الشرقية” عاصمة محتلة لدولة فلسطين، فهو كان من المستوجب أن يكون من تحصيل الحاصل، والذي جاء متأخراً ومنقوصاً، لأن القدس شرقها وغربها هي، وكما هو المفترض أن تكون في نظر المسلمين والمسيحيين على السواء، عاصمة فلسطين المحتلة.
مثلاً، وكما كان يأمل الشارعين العربي والإسلامي، لم تُجمّد مختلف اشكال العلاقات مع المحتلين، أو تسحب الاعترافات بكيانهم، أو تلغى المعاهدات معهم، أو تُغلق سفاراتهم، أو يستدعى السفراء لديهم، وحتى لم يتوقَّف التنسيق الأمني معهم…هذا ليس بالمستغرب ونحن إزاء قمتي دول وليس شعوب، وفي مرحلة ليست في حاجة لتوصيف، لكنما مع استدراك: لقد القى ترامب حجراُ ثقيلاً في بركتين راكدتين، وارتدادات فعلته هذه لا زالت في طور البدايات، كما، وانصافاً، لابد من القول بأنه يحسب للقمة الإسلامية بالذات أنها اعاقت، ولو إلى حين، “حل نتنياهو الإقليمي” متواتر التسريبات، وأنها قد احرجت، ولو مرحلياً، حالة التهالك التطبيعي التي كانت تجري أمامنا مظاهر تسويقه.
هناك محذور لا يلتفت إليه كما يجب ونحن في لجة الحدث وحومة صخب ردود الأفعال عليه، وهو أن القضية ليست محصورة بالقدس، على قداستها، ورمزيتها، وكونها المختصرة لفلسطين، وعاصمتها، بل هي القدس واكنافها، والأهم منه أن القضية ليست قضية فلسطين فحسب، بل كل ما تعنيه هذه الأمة العربية بأسرها، وجوداً، وهويةً، وحضارة وثقافةً ومستقبلاً. وفي معترك اختلاط حابل المرحلة بنابلها، واستفحال حوَل الرؤية السائد فيها، ودواهي انعدام التفريق بين العدو من الصديق، والمراهنة الواهمة على احتمالات تغيير ممكن في العدائية الاستعمارية التقليدية لأمتنا وقضاياها، وإغفال لكون العلاقة بين هذا الغرب واسرائيلة كانت وتظل عضوية وتخادمية، فليس من سبيل ولا من خيار للخروج من درك هذه المرحلة وشراكها، إلا بالعودة بالصراع إلى مربعه الأول، وإعادة الاعتبار له بإعادته إلى ابجدياته ومسلماته، وأولاها أنه صراع عربي صهيوني وليس “نزاعاً فلسطينياً إسرائيلياً”، وصراع وجود لا حدود…إعادة الاعتبار للقضية المركزية للأمة وإعادتها كأولوية لديها، وفرضها كذلك على أصحاب القرار فيها…وكيف؟
هنا بالضبط، ورغم هول التضحيات وباهظيتها، مسؤولية الدم الفلسطيني الفدائي المنتفض، الذي يسيل الآن في أزقة القدس وعلى بوَّابات اسوارها، ويتعداها ليشمل سائر المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بلا استثناء، وفي كامل الوطن قبل النكبتين وبعدهما، منافحاً بعناد اسطوري عن كل هاته القيم التي مرَّ ذكرها…المطلوب انتفاضة شعبية تبز سابقاتها انتفاضاً واتساعاً وشمولاً، ومن شأنها أن تصعّد المواجهة نحو حالة العصيان المدني الشامل الكفيل بكنس الاحتلال، وهذا إن كان فوحده الكفيل بإيقاظ أمة وتحرير إرادتها المغيّبة…للدم الفدائي المنتفض وحده الآن الكلمة الفصل، وبقولها حتام سيدفع الأمة بدورها لأن تقول كلمتها…