فرنسا – بين الإنتفاضة العَفْوية ومناورات الحكومة – الطاهر المعز
انطلق احتجاج “السترات الصفراء” يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، وجَمَعَ حوالي 300 ألف شخص في جميع أرجاء البلاد، فيما استمرت احتجاجات متفرقة خلال الأسبوع، وترمز “السترة الصفراء” إلى رداء خفيف أصفر فوسفوري مُضِيء، يلبسه السائق عندما تتعطل سيارته في الطريق، لكي يراه السائقون الآخرون من بعيد، ويساعدوه أو يتجنّبون دَهْسَهُ، وتواصلت الإحتجاجات إلى حد كتابة هذه السّطور (يوم 03/12/2018)، ويحتج المتظاهرون على زيادة الرّسوم (ضرائب غير مباشرة) على سعر المحروقات، إذ ارتفع سعر الديزل، وهو الوقود الأكثر استخداما في السيارات الفرنسية، بنسبة 23% سنة 2017، وارتفع بأكثر من 15% سنة 2018، ومن المتوقع أن يرتفع السعر بنسبة 14% في بداية سنة 2019، في إطار سياسة عامة بدأت منذ حوالي عقدين، بزيادة الضرائب المباشرة على ذوي الرواتب الضعيفة والمتوسطة، وإعفاء دخل البرجوازيين والمضاربين وغير الأُجَراء من الضرائب، مع ارتفاع كبير في الضرائب غير المباشرة، التي تُساوِي بين الفقير والغني، ومن بينها زيادة رسوم البنزين وإقصاء السيارات القديمة بداية من سنة 2019، عبر تشديد عمليات “المراقبة التّقنية”، بهدف إجبار المواطنين على شراء سيارات جديدة، أو لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، خاصة في المدن الصغيرة وفي الأرياف المحرومة من وسائل النّقل العمومي، ومن المستشفيات ومن سُبُل العيش الكريم، مما أدّى إلى ارتفاع نسب البطالة والفقر…
لهذه الأسباب، توسعت حركة الإحتجاج، وتوسّعت معها المطالب، من الإحتجاج على رفع أسعار المحروقات، إلى مطالب مرتبطة بارتفاع الضرائب وبانخفاض قيمة الدّخل الحقيقي للأفراد والأُسَر، وارتفاع نسبة البطالة، والعمل بعقود هشّة وبدوام جُزْئِي، وغيرها من المطالب التي زادت من شعبية المُحْتَجِّين، وبلغت نسبة تأييد المطالب والمتظاهرين 72% من إجمالي عدد المواطنين، وفق وكالات استطلاع الرأي، خصوصًا لدى فئات المتقاعدين وسكان الأرياف والمدن الصغيرة، ولم تتردد أجهزة قمع الدولة في استخدام العُنف، مما أدّى إلى قَتْل ثلاثة متظاهرين، وفق تصريحات الشرطة، وإصابة المئات، وأعلن وزير الداخلية اعتقال 107 متظاهرين خلال يوم واحد (422 خلال عشرة أيام)، وتوقيف 378 على ذمة التحقيق، وفق بيان رسمي، وأدّت تصريحات الرئيس “إيمانويل ماكرون” المتعالي والمُتَسَلِّط والمُحْتَقِر للشعب، إلى رفع شعارات تُطالب باستقالته، بعد وصفه ( يوم الثلاثاء 27/11/2018) بعض المتظاهرين من أصحاب السترات الصفراء بـ”البلطجية والهمجيين”، وأضاف “كل احتجاجاتكم لن تجبرني على التراجع أو الإستسلام عن السياسات التي تنتهجها الحكومة”، ويعتبر الرئيس الفرنسي النُّخْبَوِي (ممثل رأس المال المالي والمصارف وأثرى الأثرياء) عند كل احتجاج إن قراراته صائبة، ولكن جوهر المشكل “مَنْهَجِي” أو “بيداغوجي” بحت، حيث يعتبر إنه لم يتم شرح مغزى هذه القرارات بالشكل المطلوب، وأعلن إن الحكومة ستواصل تَصَلُّبَها وسترفض تلبية جميع أشكال المطالبات النقابية والشعبية، وإن الحكومة لن تسحب ضريبة الوقود، لأن رفع أسعار الوقود جزء لا يتجزأ من استراتيجية الحكومة التي تُخَفِّفُ العبء على الأثرياء وتُثْقِل كاهل الفُقراء، والأُجراء، أما وزيره للداخلية “كريستوف كاستانر” فوصَفَ الاحتجاجات بأنها “إهانة للجمهورية”، وبعد هذه التصريحات التي اتسمت بالصّلَف والبذاءة، إضافة إلى الشّتائم، شبّهَهُ المتظاهرون ب”لويس السادس عشر”، الملك الذي أطاحت به ثورة 1789، فأَدْرَك الرئيس الفرنسي (الذي تجاوز وقاحة وصهيونية “نيكولا ساركوزي”) إن “مَنْهَجِيّتَهُ” أجّجت غضب المواطنين (الذي لم ينتخبه منهم سوى 18% في الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة)، فطالب رئيسَ وزرائِهِ “إدوار فيليب” بإجراء محادثات مع زعماء سياسيين ومتظاهرين (وصفهم قبل أيام بالبلطجية والهمجيين؟) بهدف إيجاد سبيل لإنهاء الاحتجاجات التي عمت البلاد، بالتوازي مع إشراف الرئيس على اجتماع أمني عاجل، وأعلنت وزيرة القضاء عن محاكمة الموقوفين، ودرست الحكومة احتمال فرض حالة الطوارئ لمنع المظاهرات، قبل العُدول عن الفكرة…
يُعتبر هذا الحراك الجماهيري جُزْءًا من غضب شعبي بدأ سنة 2013 بحركة “الطّاقِيّات الحمراء” في شمال غرب فرنسا، وتواصَل عبر النّقابات خلال سنتَيْ 2017 و 2018، وجمعت هذه الإحتجاجات فئات عديدة من العُمّال والأُجَراء والمتقاعدين، وبمناسبة الإحتجاجات الأخيرة (السترات الصفراء)، دعا بعض رُمُوز اليمين للتراجع عن قرار زيادة ضرائب الوقود، وطالبه بعض أعضاء أغلبيته البرلمانية لتنظيم استفتاء حول بعض جوانب سياسته (ومن بينها ارتفاع الضرائب غير المباشرة)، وبإطلاق حوار وطني مع “السترات الصفراء” والنقابات والمنظمات غير الحكومية حول القدرة الشرائية وتوزيع الثروات وبعض المطالب الأخرى، مثل إعادة فرض الضريبة على الثروة (التي ألْغاها ساركوزي جُزْئِيًّا، وألغاها ماكرون كُلِّيًّا)، لكن “إيمانويل ماكرون” يُمثّل رأس المال المالي، ويُعوّل عليه لإعادة انتخابه، بفعل سيطرته على وسائل الإعلام، وقد لا يهتم ماكرون أصلاً بإعادة انتخابه، فهو موجود لتأدية دوره في خدمة طبقته، طبقة الأثرياء والبرجوازيين…
تَطَلّب الأمر ثلاثة أسابيع من الإحتجاجات والمظاهرات والمصادمات لكي تتظاهر الحكومة بتفهّم مطالب الشعب، بعد فشل المحاولات السابقة، من تجاهل حركة الإحتجاجات ومحاولة استنزافها إلى محاولة احتوائها، إذْ أعلن رئيس الوزراء “إدوارد فيليب” (يوم الثلاثاء 04/12/2018) عجزه عن “إدارة الأزمة”، وأعلن “تعليق الضرائب الإضافية على الوقود لمدة ستة أشهر، وعدم زيادة أسعار الكهرباء والغاز خلال الشتاء… وفتح حوار وطني حول الضرائب والنفقات العامة…”، وجاء هذا التّصريح بعد أيام قليلة من تَعَنُّت الرئيس المُتَغَطْرِس “إيمانويل ماكرون” (خرّيج المجموعة المصرفية والمالية “روتشيلد”) وتأكيده رَفْضَ الحوار وعدم “التهاون مع العنف”، وأدّت التصريحات المتتالية والمستفزّة للرئيس – ممثل مصالح الأثرياء والنخب الليبرالية- إلى رَفْعِ سقف مطالب المُحتجّين، والمطالبة باستقالة الرئيس “ماكرون” وحل البرلمان، وإجراء انتخابات مُبَكِّرَة، وشملت المطالبات أيضًا “إعادة توزيع الثروات في البلاد بشكل عادل وعدم تركيزها بأيدي نخب اقتصادية، ورفع الأجور، وتحسين شروط التقاعد والأمان الاجتماعي…”، مما أثار هلعًا داخل صفوف الأغلبية الساحقة من نواب البرلمان، وكتبت وكالة “فرنس برس”، إن خطوة الحكومة “تكتيكية، ولا تهدف سوى تهدئة الوضع وسحب البساط من تحت أقدام القسم الأكثر وَعْيًا (سياسيا) من حركة الإحتجاج الواسعة التي خرجت عن سيطرة النقابات والأحزاب والمُعارضة التّقْلِيدية، وأدى تعنّت الرئيس وحكومته إلى تَجَذّر حركة “السترات الصفراء”، وإعلان قسم من المشاركين النّشِطِين معارضة “منطق السوق وأرباب العمل، والمصالح الرأسماليّة التي يُمثّلها رئيس الجمهوريّة”، مدعومًا من وسائل الإعلام الليبرالي التي ركزت على بعض مظاهر “العنف الشعبي” وأهملت عنف مؤسسات الدولة (الشرطة)…
تُمثّل الحكومة الفرنسية الحالية أرقى مظاهر غطرسة رأس المال الإحتكاري، وانطلقت هذه الهيمنة منذ عقود، ومثلته حكومات الحزب “الإشتراكي” وحكومات الأحزاب اليمينية، وإن بدرجات مختلفة ومتفاوتة، ولكن هذه الحكومة بالغت في دعم الرأسماليين (إلغاء الضريبة الرّمزية على الثّروة) وطالبت العُمّال والموظفين والفُقراء بضبْطِ إنفاقهم والتضحية بقوتهم، خدمة لمصالح الشركات الإحتكارية الفرنسية التي تعمل على منافسة شركات الإقتصادات “النامية”، أي الشركات الصينية (وليس منافسة الشركات الأمريكية مثلاً)، وأدّت هذه السياسات المتواصلة منذ قرابة ثلاثة عقود إلى هجرة اضطرارية للفُقراء من داخل المدن إلى مناطق بعيدة، محرومة من وسائل النقل العمومي، ومن خدمات الرعاية الصحية، مما يضطر الفقراء إلى استخدام السيارات الخاصة في تنقلاتهم، وأدت هذه السياسات كذلك إلى تنظيم احتجاجات ضخمة، من بينها إضراب شتاء 1995 ومظاهرات 2003 ضد “إصلاح” نظام التأمينات الإجتماعية والتقاعد، واحتجاجات شباب ضواحي المدن الكبرى في تشرين الأول 2005، ودام ثلاثة أسابيع، دون دعم من “اليسار”، بل ساهمت قوى “اليسار” المائع (والتروتسكي) في تشويه هذه الحركة التي أطلقها أبناء المهاجرين، وفي المقابل دعم هذا اليسار المائع ووسائل الإعلام انتفاضة شباب الجامعات والبرجوازية الصغيرة، ربيع 2006… واتّهم الإعلام وبعض اليسار احتجاجات “السترات الصفراء” في بداياتها بالولاء لليمين المتطرف أو بما يُسَمّى “الشّعبوية”، ولكن توسّع الحركة أجْبَر الجميع على مراجعة الخطاب والمواقف، كدليل على القطيعة بين “النّخب” (بما فيها الأحزاب البرلمانية وقيادات النقابات العمالية) والجماهير المُفَقّرَة من الشعب…
أمّا مُشكلة المشاكل فتكمن في النجاح في تحويل الإحتجاجات العفوية إلى حركة مُنظّمة، تطرح بديلاً للسلطة القائمة، وقادرة على الحكم باسم وبمشاركة وإشراف الفئات الكادحة والمُفَقَّرَة من الشّعُوب، سواء تعلّق الأمر ببلاد ذات اقتصاد رأسمالي متطور (مثل فرنسا)، أو بلاد تحكمها برجوازية كمبرادورية، ذات اقتصاد تابع للإحتكارات العالمية، مثل تونس ومصر…
المعلومات الواردة من أ.ف.ب + رويترز + “معهد الدراسات السياسية” بباريس من 01 إلى 04/12/18
كنعان
فرنسا – بين الإنتفاضة العَفْوية ومناورات الحكومة
الطاهر المعز