فرنسا وقضية آية رمضان – منير شفيق
لقد أُثيرَت تساؤلات في فلسطين وفي عدد من الأقطار العربية والإسلامية حول الخطوة التي أقدم عليها جيل كلافرول المفوّض الوزاري لمكافحة العنصرية واللاساميّة في الحكومة الفرنسية بتوجيه “تهمة تمجيد الإرهاب” إلى الناشطة السياسية آية رمضان، بسبب تغريدة تحيّي عملية تل أبيب الأخيرة، وتصل عقوبتها إلى سبع سنوات سجناً وغرامة 600 ألف يورو بحدّها الأقصى.
يجب التذكير بدايةً، بالحقائق التالية:
1- تحمل فرنسا في قلبها روح الثورة الفرنسية التي نادت بالحريّة والمساواة والإخاء. وذلك بالرغم من محاولة بعض الفرنسيين الارتباط بعهدها الاستعماري وتراثه وقِيَمه، خصوصاً في معاملتهم للفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولا سيما في نظرة ذلك البعض إلى مقاومة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، كما تدل على ذلك التهمة المذكورة الموجهّة لآية رمضان.
2- فرنسا- الشعب الفرنسي قاومت الاحتلال النازي لفرنسا من خلال المقاومة المسلحة.
3- فرنسا من خلال الجنرال لافاييت شاركت في المقاومة المسلحة الأمريكية ضدّ الاحتلال الإنكليزي في ما أصبح يُعرَف باسم الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحقائق تفتخر فرنسا بها. ثم هنالك حقائق ثلاث أخرى تستحق التوقف أمامها أيضاً:
– فرنسا موقّعَة على القانون الدولي الذي يجرّم الاحتلال والاستيطان (التغيير الجغرافي والديمغرافي). الأمر الذي ينطبق على حالة الاحتلال والاستيطان اللذيْن يتعرض لهما الشعب الفلسطيني.
– فرنسا تعتبر رسمياً الأراضي الفلسطينية التي تمّ الإستيلاء عليها في حرب حزيران 1967، أراضي محتلة وترفض سياسة الاستيطان. ومن ثم لا تستطيع أن تتنكر لما يترتب على هذه الحقيقة من حق للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والاستيطان. أما إذا تحفظت على استخدام المقاومة المسلحة وشجبتها فإنها لا تستطيع إدراجها في تعريف الإرهاب العالمي الذي تحاربه (ويحاربها) لأنه يقع في إطار آخر تماماً.
– ثمة عدّة قرارات صادرة عن الجمعية العامة لهيئة الأمم تعتبر أن من حق الشعب الفلسطيني استخدام كل أشكال النضال بما فيها المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال، من بينها القرار 1514 (د-15) لعام 1960 وقرار 2625 لعام 1970 وقرار 3070 لعام 1973. وهذا، في الأقل، لا يسمح بإدراج النضال الفلسطيني في إطار الإرهاب.
أولا: لهذه الأسباب لا يستطيع السيد كلافرول إدراج تأييد آية رمضان لمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ضمن معاداة الساميّة والتحريض على الإرهاب. وإذا كان يشجب عملية مارسها بعض الشباب الفلسطيني ضدّ الاحتلال والاستيطان فليس مقبولاً أن يعتبره جزءاً من الإرهاب العالمي أو جزءاً من اتجاهات معاداة الساميّة في الغرب. فنحن أمام حالة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمنظمات الإرهابية العالمية أو بحركات معاداة الساميّة.
ثانيا: على أن هذا الخطأ الفادح الذي يرتكبه جيل كلافرول حين يُدرج دعم آية رمضان للشعب الفلسطيني أو موقفها من العملية المذكورة في إطار الإرهاب العالمي أو معاداة الساميّة، يحمل أبعاداً أخرى يتوجب الانتباه إليها.
ثمة خلل كبير ترتكبه عدّة دول في العالم حين تدرج ما تواجهه من معارضة بما فيها المسلحة في بلادها، ضمن تعريف الإرهاب العالمي فيما يربط بينها وبين المشاركة في محاربة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وعلى التحديد داعش والقاعدة ومن يعلن سيره على نهجهما ويبايعهما. الأمر الذي أدّى ويؤدي إلى تعويم الإرهاب الأساسي. ويحول دون التحالف العريض ضدّه، ومن ثم الاتفاق على تعريف محدّد للإرهاب المعني لكي يكون بالإمكان عزله ومحاصرته وتصفيته. فالتفريق بدايةً يجب أن يكون بين التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود والتي تعتبر جبهتها في كل مكان وضدّ كل من يعارضها من جهة، وبين التنظيمات والحركات ذات الطابع المحلي في دولة بعينها حتى لو أصرّت بوصفه إرهاباً. ولكن هذا الوصف يخصّها وحدها، ولا يجب أن يًخلَط بينه وبين الإرهاب عابر الحدود. فهذا الأخير محدّد المعالم ويمكن أن يُتفق عالمياً على تعريفه بدقة عالية.
فعلى سبيل المثال؛ تعتبر تركيا عددا من الحركات الكردية إرهابية وتدرجها في الإرهاب العام. وهو ما لا تُوافِق عليه دول كثيرة. وكذلك الحال بالنسبة إلى مصر حين تعتبر الإخوان المسلمين حركة إرهابية وتدرجه في المعركة مع الإرهاب العام، وهو ما لا تُوافِق عليه دول كثيرة. بل حتى أغلبية الدول في هيئة الأمم المتحدة. وعليه قس مواقف دول كثيرة في العالم، وفي مقدّمها أمريكا ودول أوروبية حين تتوسّع في اتهام أعداء آخرين ضمن إطار الإرهاب.. مما حال دون الاتفاق العالمي على تعريف جامع مانع للإرهاب من جهة. ولكنه حال بسبب ذلك دون التركيز العالمي على مكافحة الإرهاب عابر الحدود والمتمثل أساسا بتنظيمَيْ داعش والقاعدة وما سار على نهجهما من جهة أخرى. وهذا سبب من الأسباب التي أدّت إلى الفشل في التخلص من ظاهرة الإرهاب الذي ضرب في فرنسا أو في بلجيكا أو أمريكا أو تركيا أو السعودية، وأماكن أخرى.
وهذا الخطأ الفادح هو الذي يكرّره السيد كلافرول في القضيّة المرفوعة ضدّ آية رمضان حين يدرج ما هو مقاومة فلسطينية في إطار الإرهاب عابر الحدود بما في ذلك الاتهام بمعاداة الساميّة. وهو ما لا يستطيع إقامة دليل ملموس واحد عليه بأنه يدخل في إطار التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود، أو في إطار معاداة الساميّة.
ثالثا: ثمة خلل عالمي كبير في التعاطي مع التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود حين تربط ظاهرتها، بشكل أو بآخر، بالعرب أو المسلمين أو الفلسطينيين، أو بالإسلام نفسه. وهذا بدوره يحول دون الاتفاق العالمي على تعريف جامع مانع للإرهاب من جهة، ويحول من جهة أخرى، دون التركيز العالمي على مكافحة التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود وذلك حين تُعوّم عربيا وإسلاميا، وتوجّه السهام ضدّ الإسلام نفسه. فتصبح جبهتها (التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود) واسعة إلى حدّ يمنع من مواجهتها ويعطيها فرصا ثمينة للتوسّع والتمدّد والتوحش أكثر.
وهذا الخطأ الفادح الذي يرتكبه جيل كلافرول في قضية آية رمضان. لأن ما فعلته آية رمضان في تغريدتها يشاركها به الملايين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين بمن فيهم من أصبحوا أمريكيين وفرنسيين وأوروبيين. فلمصلحة من توسّع جبهة الإرهاب ومعاداة الساميّة من خلال القضيّة المرفوعة ضدّ آية رمضان ولمصلحة من حين تستفز مواقف الملايين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم ومشاعرهم. وهؤلاء جميعاً براء من الإرهاب العالمي عابر الحدود.
رابعا: إن العملية التي تُحاكَم آية رمضان بسبب دعمها لمنفذيها تحمل خصوصية فريدة كونها هي نفسها نتاج فعل عفوي لا ينتسب لتنظيم يقف وراءه. كما هو الحال بالنسبة للإرهاب العالمي الذي يتسّم بارتباط أفراده بتنظيم له أهدافه ونهجه المحدّدان ومن ثم لا يجوز أن تُدرَج، بناءً على هذا النهج، كل العمليات ذات الطابع الفردي والعفوي في العالم لتُحسَب ضمن إطار الإرهاب العالمي مما يجعله ممتدا إلى حدود لا يمكن ضبطها أو مواجهتها. ولهذا حاولت السلطات الأمريكية أن تنفي عن عملية أورلاندو، بالرغم من ادّعاء داعش لها، ارتباطها بالإرهاب العالمي لكي تحصرها بفعل فردي لا علاقة له بتنظيم داعش. وذلك لمنع إظهار الإرهاب العالمي، بصورة مبالغة فيها، تخدمه ولا تساعد على مواجهته. وهو ما لا يلحظه السيد كلافرول في قضيّة أية رمضان. علما أن ما لا يُحصى من الأعمال العفوية الفردية التي تحدث في كل أنحاء العالم تتسّم ضمن مناخ سياسي واجتماعي عام بسبب احتلال أو ميز عنصري أو اضطهاد اجتماعي وهو ما يفرّقها أيضاً عن الإرهاب عابر الحدود. ولعل ما حدث في دالاس الأمريكية أخيراً يوجِب أن يفرّق بين ما هو فردي وعفوي يعمل ضمن مناخ داخلي معيّن من جهة وبين ما هو إرهاب عالمي عابر للحدود من جهة أخرى. وهو ما يجب أن يكون موقف معارضي ذلك الفعل الفردي- العفوي. وهو ما فعله أوباما في قضيّة دالاس أيضا.
وأخيرا لا بدّ من أن يُلاحظ التناقض الصارخ في فهم مصلحة فرنسا بين الموقف الرسمي الفرنسي، وموقف الأحرار الفرنسيين عموما من جهة وموقف جيل كلافرول في قضيّة آية رمضان. ففي الوقت الذي يحرص فيه الطرف الأول على إقامة أفضل العلاقات بالفلسطينيين والعرب والمسلمين ورفض كل دعاة “الإسلام فوبيا” والتعصب العنصري ومعاداة العرب والمسلمين، فإنه يحرص الطرف الثاني، كما يفعل كلافرول في قضيّة آية رمضان على تحدّي أو استفزاز ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين داخل فرنسا وخارجها.. وذلك بتبنّيه نظرية نتنياهو حول اعتبار “المقاومة الفلسطينية إرهاباً” فيزجّ بفرنسا، وبصورة غير مسوّغة، وغير مفهومة، ولا علاقة لها بمصالح فرنسا في هذه القضيّة المريبة وهو ما يجب تداركه سريعاً في مصلحة أفضل العلاقات الفرنسية مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم.
فرنسا وقضية آية رمضان – منير شفيق