فضيحة بان كي مون وآخرين- منير شفيق
عارٌ آخر يكلل جبين بان كي مون أمين عام هيئة الأمم المتحدة يضاف إلى أكاليل عار كثيرة لطخت جبينه منذ أن تولى أمانة هيئة الأمم. وكان ذلك السبب الرئيس الذي استخدمت الإدارة الأمريكية كل نفوذها في الهيئة الدولية لإعادة انتخابه أو في الأصح تعيينه لدورة ثانية.
صحيح أن الأمناء العامين لهيئة الأمم المتحدة كانوا، عموماً، من الطينة نفسها فيما يتعلق بالتبعية لأمريكا ولكن مع مراعاة الدول الكبرى في أحيان معينة. ولكن بان كي مون جاء في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة ولا سيما في الفترة التي استفردت فيها أمريكا بمجموعة قرارات لهيئة الأمم المتحدة وتعيين الأمين العام. وهي الفترة الممتدة طوال العقدين الأخيرين.
أمريكا في الخمس سنوات الأخيرة ضَعُفَت على المستوى العالمي ضعفاً أصبح ظاهراً لأعين الكثيرين. ولكنها بقيت مسيطرة على أمين عام هيئة الأمم وعلى عدد من مؤسساتها. وذلك إلى جانب سيطرتها أو استمرار سيطرتها على كلٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسة المصرفية العالمية. وهو ما تبقى لها من سيطرة منفردة.
استطاعت أمريكا أن تسيطر على الهيئات والمؤسسات في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول الصين لعبة النظام الرأسمالي العالمي، وما اقتضاه من “اعتدال” في المواقف السياسية، أو ما اقتضاه من تجنب المواجهة مع أمريكا. وبهذا “خلا الميدان لأبي حميدان” إلى حد بعيد. فوقع اختيارها على بان كي مون التابع المروّض لهذه المرحلة. فتاريخه تاريخ تبعية لأمريكا والصهيونية منذ أن كان وزيراً لخارجية كورية الجنوبية.
إكليل العار الأخير الذي وضعه بان كي مون على رأسه كانت “قائمة العار في قتل الأطفال” التي صدرت أخيراً عن هيئة الأمم المتحدة حيث وضع كل ثقله لعدم إدراج اسم “إسرائيل” (الكيان الصهيوني) في تلك القائمة، وهو الاسم الذي يجب أن يوضع على رأس القائمة، ولا يستطيع أحد أن ينافسه على هذه الزعامة والريادة. مما كشف بان كي مون صهيونياً أشدّ صهيونية من إدارة أوباما التي وجدت نفسها مضطرة في أكثر من مناسبة، على التعارض مع حكومة نتنياهو. علماً أن أوباما في عهديه لم يُقصِّر في التقدم خطوات بالسياسة الأمريكية في الانحياز للنص الصهيوني الأساسي في الموضوع المتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد سبق له أن ادّعى أن “فلسطين التاريخية كانت الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. وهو بهذا زوّر التاريخ وزايد على النص الصهيوني الذي لم يتجرأ يوماً أن يصفها بالوطن التاريخي لليهود. فاليهود عاشوا في أغلبيتهم الساحقة بعيداً من فلسطين طوال القرون الماضية. بل يشكك علماء الآثار في وجودهم يوماً فيها بسبب عدم العثور على أثر واحد يدلل على ذلك.
هذا، وجعل أوباما الاعتراف بيهودية الدولة، أو باعتبار ما يسمّى بـ”دولة إسرائيل” دولة يهودية بمعنى ينهي حق الفلسطينيين أصلاً بفلسطين وينكر على فلسطينيي الـ48 وجودهم تحت تلك الدولة المغتَصِبة غير الشرعية، وهم السكان الأصليون، بل وينكر حق العودة من حيث أتى.
هذا كله، أخذ به بان كي مون ولكنه لم يختلف مع الكيان الصهيوني، ولو بمستوى ثانوي، كما فعل أوباما. فبان كي مون أثبت أنه صهيوني حتى النخاع في مواقف عدة اتخذها في الموضوع الفلسطيني، وكان آخرها إصراره على عدم إدراج الكيان الصهيوني بقائمة العار في قتل الأطفال، فيما دماء أكثر من خمسماية وأربعين طفلاً فلسطينياً قتلهم القصف الصهيوني في حرب تموز/آب 2014، لم تجف بعد.
والسؤال إلى متى يظل هذا التغاضي الرسمي العالمي على الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني؟ الجواب، بالطبع ما دامت أمريكا متسلطة على هيئة الأمم المتحدة. وهو تسلط جاء من قوّة الاستمرار، ومن تهديدها الدائم بقطع مساهماتها المالية، ولم يأتِ، كما كان الحال سابقاً، من سيطرتها الفعلية على النظام العالمي، أو من قوتها العالمية واتسّاع نفوذها. ولهذا ثمة تناقض بين فقدان أمريكا وأوروبا لسيطرتهما العالمية من جهة وبين استمرار السيطرة على هيئة الأمم والمؤسسات المالية حيث السلاح المستخدم في المقاطعة والحصار من جهة أخرى.
من هنا لا بد لمجموعة البريكس، ولبلدان العالم الثالث، عموماً، وضع حدٍ لهذه السيطرة الأمريكية التي لم يعد لها من مسوّغ في موازين القوى. وذلك كما فعلت أمريكا حين أزاحت الاسترليني ليحل الدولار مكانه، بعد أن فقدت بريطانيا سيطرتها العالمية السابقة في ميزان القوى الجديد مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني وهذه الضربة التي وُجهت لأطفال فلسطين (تآمر أمين عام الأمم المتحدة وأمريكا لإبعاد اسم الكيان الصهيوني من قائمة العار الخاصة بجرائم الأطفال)، فإن إحراجاً كبيراً قد لحق بمحمود عباس والسلطة الفلسطينية واستمرارهما بالتنسيق الأمني. لأن الاكتفاء باحتجاج لفظي على هذه الضربة سرعان ما يذهب أدراج الرياح.
على أن الأهم من هذا النقد فيتمثل في مغزى عدم إدراج دولة الكيان الصهيوني في قائمة العار الخاصة بقتل الأطفال من قِبَل على هيئة الأمم المتحدة وأمينها العام. استراتيجية الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وقد قامت على أساس اللجوء إلى المنظمات والمؤسسات الدولية من أجل ليّ ذراع نتنياهو ليوقف بناء المستوطنات، ويعود إلى المفاوضات، على أساس حل الدولتين: دولة فلسطينية في حدود 1967.
فهذه الاستراتيجية تكون قد تلقت فشلها الثاني خلال أسبوع بعد فشلها في تجميد عضوية الكيان الصهيوني في المنظمة الدولية لكرة القدم الـ “فيفا”. وذلك من خلال تراجعها المذل تحت الضغط لسحب مشروعها المطالب بتجميد تلك العضوية.
الأمر الذي يعني أن استراتيجية محمود عباس الرديفة المنقذة لاستراتيجية التسوية والمفاوضات هي استراتيجية فاشلة أيضاً، وبالوقائع والنتائج (حتى يرضى ولن يرضى).
والسؤال ألم يحن له ولقيادة حركة فتح ولفصائل المجلس المركزي أن يعتبروا بهذين الفشلين، ناهيك عن دوران استراتيجية اللجوء إلى المنظمات والهيئات الدولية حول نفسها من دون أي تقدم منذ أن أُعلنت حتى الآن؟ وماذا ينتظرون والاستيطان يستفحل في الضفة الغربية والتهويد ماض على قدم وساق في القدس والاعتداءات على المسجد الأقصى متصاعدة يوماً بعد يوم؟ ثم ماذا يقولون بوضع قرار المجلس المركزي القاضي بوقف التنسيق الأمني على الرف “وكأن شيئاً لم يكن”. والأنكى أن أمام أعينهم وملء سمعهم مشروع انتفاضة قادرة على قلب الطاولة على رأس نتنياهو.
قال الشاعر: “لقد أَسْمَعتَ لو ناديتَ حياً ولكن لا حياةَ لِمَن تُنادي” أو بعبارة أخرى: لا إرادة لمن تنادي. ويبدو أن ثمة مفقودات أخرى كثيرة غير الإرادة.