فلسطين بين متحفين – محمد عارف
عندما قرأتُ في «نيويورك تايمز» تقرير «متحف فلسطين يستعد للافتتاح دون معروضات»، خجلتُ لموضوعه الهزلي، وخجلتُ ضعفين لتقاعسي في الكتابة عن «متحف التاريخ الطبيعي لفلسطين». «متحف فلسطين» كلّف 24 مليون دولار، فيما تَبَرَعَ بتكاليف إنشاء «متحف التاريخ الطبيعي لفلسطين» عالم فلسطيني وزوجته. وفي «متحف فلسطين» كُلُ شيء تقريباً أنشئ، حسب الصحيفة الأميركية، «بناية جديدة عصرية مذهلة، وطموحات سامية، أنشأت ميداناً للاحتفال بالفن الفلسطيني والتعريف به، وبالتاريخ والثقافة، ومسرحاً في الهواء الطلق، وحدائق. لكن ينقصه شيء واحد هو المعروضات». بقية التفاصيل من النوع الذي يقول عنه المثل الفلسطيني «الموت بين الناس نعاس». وقد مات «لا تقسيم قط»، وهو العرض الرئيس الذي جرى الاستعداد له طويلاً، لكنه أُلغي بسبب خلاف بين مجلس إدارة المتحف ومديره الذي أُقصي.
ومصير «متحف فلسطين» يصوره المثل الفلسطيني «اقعد عالبحر وعِدْ أمواجه». والأمواج لن يجري عدّها في فلسطين، بل بيروت، حيث سيقيم «متحف فلسطين» معرضاً عنوانه «في الدرز: التاريخ السياسي لفن التطريز الفلسطيني». وسيكون هذا «واحد من معارض عدة خارج الضفة الغربية، حيث يصعب على كثيرين زيارتها بسبب متطلبات السفر من خلال المعابر الخاضعة لإسرائيل ونقاط سيطرتها الحدودية»، ذكر ذلك عمر القطان، رئيس مجلس إدارة «متحف فلسطين»، والذي صرّح للصحيفة الأميركية بأن «الفلسطينيين كانوا بحاجة إلى طاقة إيجابية يستحسن معها حتى افتتاح بناية فارغة»، وأضاف: «إنه أمر محرج رمزياً»، لكن «المرحلة المقبلة ستتضمن معارض أكثر إثارة».
وتقاعستُ في الكتابة عن «متحف التاريخ الطبيعي لفلسطين»، لكن قلبي لم يتقاعس عن متابعة مؤسسه؛ «مازن قمصيه»، أستاذ البيولوجيا في جامعة «بيت لحم»، وهو نفسه متحف كفلسطين؛ يٌقطّعُ إرباً إرباً، لكنه لا يُقهر. ناهض غزو العراق عام 2003، فأُوقف عقد عمله كأستاذ خدمات «جينات الخلايا» في «كلية الطب» في «جامعة ييل» التي تحتل الصدارة في تصنيف الجامعات العالمية. وكان بحكم عمله يشرف على مختبرات «الجينات» في كليات عدة، حسب صحيفة «ييل هيرالد» التي تحدثت عما تعرض له «قمصيه» منذ تعيينه في «جامعة ييل» عام 1999، وذلك بسبب دفاعه عن حقوق الفلسطينيين وترؤسه «منظمة العودة».
وإذا أردنا رؤية ما تفعله عقول عربية مهاجرة فذة عندما تعود، فلنتابع ثلاث مدونات أكاديمية، وعلمية، وسياسية، شخصية، ومحلية ودولية، أنشأها «قمصيه» منذ عودته إلى موطنه «بيت لحم» عام 2008، بينها مدونة «حقوق الإنسان»، وهي دائرة معارف نابضة بأناس لا يرصدهم سوى طبيب يقصدهم ويقصدونه. وصورة «قمصيه» مطروحاً أرضاً يضربه جنود الاحتلال الإسرائيلي بالهراوات، ستحفظها ذاكرة تاريخ العلماء الذين غيّروا التاريخ.
و«متحف التاريخ الطبيعي لفلسطين» شهادة حياة لفلسطين، أقيم على 12 دونماً قدّمتها «جامعة بيت لحم» للمشروع، و45 ألف دولار لتحسين البنية التحتية، وتَبرّع «قمصيه» وزوجته بربع مليون دولار، ويعمل كلاهما تطوعاً في إدارة المتحف الذي أنشأ خلال عامين فقط من تأسيسه حديقة نباتية متكاملة للنظم الإيكولوجية، وبِركة، وقفص علاج للطيور، ومركز بحوث للتنوع البيولوجي ولحيوانات ونباتات فلسطين، ونظَّمَ مهرجانات علوم للمدارس، ونشاطات مشتركة مع متاحف محلية وعربية وعالمية.
وتقويم «نباتات وأحياء فلسطين» لعام 2016 الذي أصدره المتحف، تحفة فنية تزين كل شهر منه لوحة كطبيعة فلسطين، تغدق الحياة على الحياة نفسها، «سوسنة فلسطين» في يناير، وتتوالى الشهور، «نجمة بيت لحم»، و«النباتات الطبية»، و«طير التميرة»، و«برتقال يافا»، و«يعسوب فلسطين»، و«سحليات الحديقة النباتية»، و«حصاد الزيتون»، و«زهور خشخاش فلسطين» و«زهر الصبير». وجميع لوحات التقويم من مقتنيات المتحف، بضمنها لوحة بأسلوب ناجي العلي، تُصوِّرُ قنابل تُبرعمُ زهوراً، عنوانها «الزهور ليست قنابل».
————————————
** الاتحاد
مستشار في العلوم والتكنولوجيا*