فلسطين في حرب لبنان الأهلية- معين الطاهر
أربعون عاما مضت على اندلاع شرارة الحرب الأهلية في لبنان، والتي اندلعت عقب ما عرف بحادث حافلة عين الرمانة، حين تم إطلاق النار عليها وهي تقل عددا من أهالي مخيم تل الزعتر العائدين إلى مخيمهم، من احتفال جماهيري أقيم في جامعة بيروت العربية. لم تكن تلك الشرارة لتلهب حريقاً يمتد في لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، لو لم يكن الاحتقان الداخلي قد بلغ مداه بين الأطراف اللبنانية المختلفة. وفي واحدة من تعبيراته، أقدم رئيس الوزراء اللبناني، صائب سلام، على تقديم كرسيه في احتفال أقيم في قاعة اليونسكو، ليضعه بموازاة كرسي رئيس الجمهورية، سليمان فرنجية، ليعبر عن رفض صارخ للمعادلة السياسية السائدة منذ عهد الاستقلال.
بعد أحداث سبتمبر/أيلول في الأردن 1970، انتقل مركز الثقل الرئيس للمقاومة الفلسطينية إلى لبنان، وتنامت قوتها فيه، واعتبر بعضهم أن الوجود المسلح الفلسطيني أضاف عوامل قوة لأطراف الحركة الوطنية اللبنانية، والجناح المسلم في التركيبة اللبنانية، ما حملهم على المطالبة بتغييرات أساسية في بنية النظام القائم، رفضها المعسكر اليميني، ووفر بيئة خصبة لنزاع داخلي، حظي بدعم أطراف إقليمية في ظل مناخ الحرب الباردة، وتدخل إسرائيلي، كانت ذروته في اجتياح لبنان 1982، وفرض رئيس للجمهورية عبر فوهة الدبابات الإسرائيلية. وكان وقود هذا الصراع المرير آلاف من أبناء الشعبين، اللبناني والفلسطيني، وشمل عمليات تطهير ذات طابع طائفي، وخلف آلاف القتلى والمفقودين والمهجرين في ظل حربٍ داميةٍ، اختفت فيها معايير أخلاقية كثيرة.
شكلت المقاومة الفلسطينية في لبنان حاضنة للتوجه العروبي وغير الطائفي في نزاع أهلي مفتوح على التقسيم، ووقفت فصائلها الرئيسية بحزم ضده. إذ خلال تلك الحرب، وحسب مراحلها المختلفة، اعتقد كل طرف فيها، عندما مالت موازين القوى قليلاً على الأرض لصالحه، أن في وسعه تحقيق الحسم العسكري، وفرض الأمر الواقع، وإيقاع الهزيمة الساحقة بالطرف الآخر، وهو وهم يتنافى مع سمات الحروب الأهلية، وسرعان ما كانت تذروه الرياح.
على أن الأمور لم تكن بمثل هذه البساطة والوضوح، بقدر ما شهدت صراعات كبيرة وخلافات ونزاعات، بدأت منذ إطلاق الشعار الشهير، بضرورة عزل الكتائب، عقاباً لها على حادثة عين الرمانة، ما قاد عملياً إلى تكريس الكتائب قائدة للمعسكر المسيحي، كما أدت إلى فشل محاولات ياسر عرفات المستمرة للخروج من دوامة هذه الحرب، وإفشال مساعيه المستمرة لذلك. ولعل أوضح مثال على ذلك يوم تم إفشال لقاء الكسليك، والذي قدم فيه المعسكر المسيحي تنازلات مهمة للمقاومة والحركة الوطنية، عبر ليلة قصف جنوني لمنطقة الأشرفية في بيروت، أطلقت عليها صحيفة السفير في عنوانها الرئيسي اسم “ليلة تأديب الأشرفية”. ويمكن القول إن ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) قد فقدا، في بعض مراحل الحرب الأهلية اللبنانية، زمام السيطرة على القرار السياسي، خصوصا بعد اجتياح منطقة عينطورة صنين، وإطلاق اسم الجيب الأحمر عليه، وازدياد الوهم لدى أطراف من الحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية الأخرى بإمكانية تحقيق الحسم العسكري، تحت شعار جبهة تمتد من صوفر إلى موسكو، ومحاولة عزل القوى الوطنية الأخرى، والقيادات اللبنانية التقليدية عن دائرة الفعل. في الوقت الذي لجأ فيه المعسكر الآخر إلى التحالف المباشر مع العدو الصهيوني، ما وضع لبنان على حافة التقسيم. ولم يستعد أبو عمار زمام القرار، إلا بعد انهيار جبهة عينطورة أمام التقدم السوري، والمواجهة الفلسطينية السورية في بحمدون، والتدخل العربي المصري والسعودي الذي أعقبها، ووضع نهاية لهذه المرحلة من الحرب الأهلية.
وثمّة وجه آخر لتأثير هذه الحرب على الوضع الفلسطيني، ذلك أن نمو القوة الفلسطينية خلالها، وسيطرتها على مقاليد الأمور في أجزاء واسعة من لبنان، شجع القيادة الفلسطينية على الإمساك بلبنان ورقة مساومة ونقطة قوة ومفتاحاً للدخول في عملية التسوية، عبر الاعتراف بها لاعباً أساسياً في عملية التسوية في الشرق الأوسط. وقد أدى هذا العامل إلى نتيجتين: أولهما، حرف الاستراتيجية الفلسطينية عن عملية تحرير كامل التراب الفلسطيني. وميدانياً الاتجاه إلى تشكيل وحدات وكتائب عسكرية نظامية، لتتمكن من فرض سيطرتها العسكرية على الأرض، بما في ذلك إعادة توزيع قواتها في مناطق مختلفة من لبنان. وثانيهما، اشتداد الصراع مع سورية حول أوليات عملية التسوية وشروطها، والأطراف المشاركة فيها، وبالطبع حول الدورين، السوري والفلسطيني، في لبنان. وإثر خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، في أعقاب اجتياح 1982، اختل التوازن مرة أخرى، وفقد اليسار اللبناني، و”المسلمون” عموماً، والسنة خصوصاً، جيشهم. وتراجعت الحركة الوطنية اللبنانية، وشهدت فصائلها انقسامات وحروبا مختلفة، معيارها الولاء أو البعد عن النفوذ السوري الذي هيمن على لبنان.
الحرب الأهلية، وكما هو حاصل في سورية اليوم، تستولد من داخلها حروباً أهلية أخرى، تنازع الكل مع الكل في داخل الفصيل الوحيد، أو بين الفصائل المختلفة. شهد لبنان الانشقاق في حركة فتح، كما شهد حرب المخيمات بين حلفاء الأمس من المقاومة وحركة أمل المدعومة من الجيش السوري. شملت الحرب معارك ضمن الطرف الواحد، وضمن الطائفة الواحدة، مثل معارك “أمل” مع “المرابطون” ومع الحزب التقدمي الاشتراكي، والتصفيات داخل المعسكر المسيحي وحروب ميشيل عون وسمير جعجع وعون والجيش السوري، وأمل وحزب الله، ومعارك طرابلس. ولم يعد الوجود الفلسطيني المسلح مقبولاً في لبنان، حتى لو كان حليفاً لسورية، إذ كان مهماً نزع ورقة لبنان كلياً من أيدي أي طرف فلسطيني، أو حتى لبناني، وحصرها في النظام السوري فقط.
والأهم من ذلك كله، وبعد 15 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، أن الأمور في لبنان ما زالت على حالها من حيث الانقسام الطائفي، أو العوامل الأولى التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية، وإن اختلفت بعض عناوينها. ولعلي لا أبالغ إذا كتبت أن لبنان قد أضاع فرصته الذهبية التاريخية، عندما لم تتحول مقاومة العدو الصهيوني الذي احتل لبنان إلى مقاومة وطنية شاملة، وتم صبغها بلون واحد، على عظمة الإنجاز الذي حققته المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله فيه، ويبدو أن سبب ذلك لا يعدو كونه جزءاً أصيلاً من الأسباب والنتائج في آن واحد