فى ذكرى المعاهدة .. لن نرفع الراية البيضاء – محمد سيف الدولة
على امتداد ما يزيد عن أربعين عاما، كانت كلما تحل الذكرى السنوية للمعاهدة المصرية (الاسرائيلية) الموقعة منذ 43 عاما فى 26 مارس 1979 والمشهورة باسم كامب ديفيد، تُستنفر القوى الوطنية المصرية لتنظيم الفاعليات وعقد الندوات والخروج فى الفضائيات وكتابة المقالات واصدار البيانات لتفنيد المعاهدة التى كانت لها نتائج كارثية على مصر وفلسطين والامة العربية، على رأسها:
1) فرض قيود امنية وعسكرية على سيناء لصالح الامن القومى “الاسرائيلى”.
2) فك واعادة تركيب النظام المصرى عقائديا واستراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وطبقيا على مقاس المصالح الامريكية والنظام الرأسمالى العالمى.
3) ليكتمل احكام القبضة والهيمنة الأمريكية على كل المنطقة، من احتلال العراق وتقسيم السودان وبذر قواعدها العسكرية…الخ.
4) حدوث انشقاق وطنى حاد فى المجتمع أدى الى ضرب وتهديد الوحدة الوطنية بين الشعب والسلطة التى تصالحت مع عدو الأمة ومحتل أراضيها وقاتل شعوبها.
5) توجيه ضربة قاسمة لروح الانتماء الوطني لدى الشعب المصري، بعد أن تم ضرب كل ثوابته الوطنية والعقائدية والتاريخية، مما أدى الى ظهور وصعود الانتماءات البديلة الطائفية والقبلية.
6) انتقال قيادة المنطقة من مصر الى (اسرائيل) التى أصبحت هى القوة الاقليمية العظمى، فلقد ادى انسحاب مصر من الصراع الى اختلال كبير فى ميزان القوى، مما وجه ضربة قاسية لخيار أي حرب عربية ضد (اسرائيل)، التى انفردت بالمنطقة وعربدت فيها فابتلعت مزيدا من الاراضى العربية، وارتكبت عشرات الجرائم والاعتداءات العسكرية على لبنان والعراق وتونس والسودان وسوريا.
7) وبضرب قضية العرب المركزية (فلسطين)، انفرط العقد العربى الذى كان يلتف حولها، وتفشت الانقسامات والحروب الاهلية والحروب بالوكالة، وحلت الصراعات العربية/العربية محل الصراع العربى الصهيونى.
8) وبصدور أول اعتراف رسمي عربي بحق (إسرائيل) فى أن تعيش داخل (حدودها الآمنة)، اختفت أرض فلسطين التاريخية من الاجندات والمطالب العربية والفلسطينية الرسمية، لتقتصر على المطالبة بفلسطين 1967، وبلا أى جدوى.
9) كما أدى الاعتراف المصرى بشرعية الدولة العبرية بكل طائفيتها وعنصريتها الى فتح الابواب على مصراعيها لكل المشروعات الطائفية الأخرى فى المنطقة ومخططاتها للتفتيت والانفصال وتأسيس دويلاتها الخاصة إقتضاءا بالنموذج الصهيوني.
10) كسر المقاطعة الدولية (لاسرائيل) بعد أن قامت 80 دولة بالاعتراف بها والتطبيع معها بعد المعاهدة مباشرة، مما أدى الى ضخ دماء جديدة فى شرايين دولة الاحتلال وأطال فى عمرها الافتراضى لعقود قادمة.
وغيره الكثير.
كانت هذه نماذج من رسائل الوعى التى كانت القوى الوطنية المصرية تحرص على ارسالها للرأى العام والاجيال الجديدة على امتداد عقود طويلة، ولكنها وياللأسى توقفت أو كادت ان تختفى تماما من الخطاب السياسى والحزبى المعارض فى السنوات القليلة الماضية، رغم ما وصلت اليه العلاقات المصرية الاسرائيلية من عمق غير مسبوق، تمثل فى عديد من الملفات على رأسها التنسيق الامنى، والصفقة الكبرى لشراء الغاز (الاسرائيلى) وتسييله لاعادة تصديره، وتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، والمشاركة (معا لأول مرة) مع 60 دولة أخرى فى مناورات عسكرية قادتها الولايات المتحدة مؤخرا، وتقارب الرؤى الاستراتيجية لما يسمى بالمخاطر والتهديدات المشتركة، بالإضافة الى تخفيف القيود المفروضة على الانشطة الاسرائيلية فى الداخل المصرى مثل التصريح للسفارة العبرية بالاحتفال علانية عام 2018 بذكرى النكبة الفلسطينية التى يطلقون عليها ذكرى استقلال (اسرائيل) على ضفاف النيل فى القلب من القاهرة، أو احياء ذكرى الهولوكوست بالتعاون مع السفارة الامريكية لاول مرة فى القاهرة، ناهيك على زيارات رئيس وزراء (اسرائيل) المتعددة .. الخ.
نقول: رغم كل ذلك وما يستدعيه من ضرورة ارتفاع وعلو صوت وحركة القوى الوطنية المناصرة لفلسطين والمناهضة للصهيونية و”لإسرائيل” والرافضة لكامب ديفيد، الا أن العكس تماما هو الذي حدث، فلقد ساد الصمت واختفت أصوات المعارضين.
وهو ما قد يدفع بعض المراقبين الى التوهم بأن القضية قد خبت وتراجعت، وان الأوضاع قد استقرت واستتبت تماما للعلاقات المصرية “الاسرائيلية”، وأن القوى الوطنية المصرية المعادية (لاسرائيل) قد رفعت الراية البيضاء.
ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فالثوابت والعقائد والمواقف والقناعات والمشاعر لا تزال حية فى العقول والصدور. والصمت الظاهر للعيان بسبب القيود السياسية والقانونية الصارمة المفروضة على المعارضة السياسية بكل أطيافها، يخفى وراءه رفض وغضب واستياء وتململ مكتوم من هذا التقارب الرسمى المصرى والعربى مع (اسرائيل)، رفض يهمس به الناس يوميا لبعضهم البعض، وهم على يقين بأن هذا الوضع لا يمكن أن يدوم، وأن هذا السلام “بالاكراه” لا يمكن أن يستتب، مهما طال به الزمن، مع الشعب الذي استطاع أن يسقط كل المعاهدات التى كانت تنتقص من سيادته ولو بعد حين، كمعاهدة 1936 وحق امتياز قناة السويس.
حفظ الله مصر وشعبها ووهبها القوة والعزيمة لكى تعتق نفسها من كامب ديفيد وقيودها.
القاهرة فى 26 مارس 2022