فى ذكرى رحيل الهلالي – محمد سيف الدولة
فى زمن الاستقطاب والتخوين والتكفير، علينا ان نستدعى من تاريخنا وتراثنا القريب كل المواقف والأفكار والشخصيات، التى قاومت الاستبداد والظلم والعنصرية، وناضلت من اجل العدل والحرية للجميع؛ لخصومها قبل انصارها. فلعلنا باستلهامنا لها أن ننجح قبل فوات الأوان، فى وقف حملات التحريض والكراهية المسعورة الحالية، التى تهدد وحدتنا الوطنية وتدفع بنا الى أتون من الفتن والصراعات الأهلية لا يزال بإمكاننا وأدها وتجنبها.
***
وواحد من أهم المناضلين المرجعيين فى هذه المعركة الوطنية الشريفة، كان هو الاستاذ أحمد نبيل الهلالى الملقب بقديس اليسار، والذى تحل هذه الايام الذكرى الخامسة عشر لرحيله فى 18 يونيو 2006. والذى كان محل حب وتقدير واحترام كافة التيارات الفكرية والسياسية فى مصر، فى واحدة من حالات الاجماع النادرة.
كان الهلالى مناضلا صلبا من الطراز الأول، ثار على طبقته الاجتماعية الثرية وهجرها، وانحاز الى الفقراء من العمال والمهمشين، وانخرط فى التنظيمات الشيوعية السرية منذ نعومة اظافره قبل ان يؤسس حزب الشعب الاشتراكى (السرى) عام 1987 بعد ان اختلف مع رفاق الأمس فى تحالفهم مع نظام مبارك. ولقد كان ضيفا دائما على معتقلات السلطة منذ الخمسينات أو متهما فى محاكمها، ربما كان آخرها هو اعتقالات سبتمبر 1981.
ولكنه قبل ذلك وبعده كان محاميا للحريات بامتياز، دافع عن المتهمين والمظلومين والمعارضين من كافة التيارات، لم يستثنِ منهم أحدا. ورفض وأدان على الدوام أى مشاركة فى الحملات السياسية التى تشنها السلطة ضد معارضيها، حتى ممن إختلف معهم فكريا وسياسيا.
***
فى عام 1993 استهل الاستاذ نبيل الهلالى مرافعته عن الجماعة الاسلامية فى “قضية اغتيال رفعت المحجوب” أمام محكمة أمن الدولة العليا (طوارئ) بمقدمة رائعة جاء فيها:
((حقا ما ادق مسئولية القضاء الجالس وما اشق مهمة القضاء الواقف فى هذه القضية، ذلك ان دعوانا، تشق طريقها وسط حقل من الالغام وفى مواجهة عواصف هوجاء رعناء……خارج هذه القاعة يخيم جو مسموم، ويعربد مناخ محموم، وتطالب الحملات الهستيرية بقطع الرقاب، وقطف رؤوس شباب متهم بالارهاب … وتتمادى الهجمة الشرسة، فتتطاول على قضاء مصر الشامخ، وتشن أبواق مسعورة مأجورة. حملة ساقطة على قضاء مصر، تتهمهم بالعجز وعدم الحزم. وتتهمهم بالتراخي وعدم الجزم. وتعتبر تمسك المحامين بتوفير حق الدفاع على الوجه الأكمل، تسويفا ومماطلة، وتعويقا لسير العدالة… متجاهلين ان القضاء جهاز لإرساء العدل، وليس أداة للقمع أو الردع. … ان القضاء الطبيعي لا يشفى لهم غليل. لذلك يبحثون عن البديل، عن محاكم تفصيل … وهكذا تدفع بلادنا دفعا، إلى قلب دوامة دموية جهنمية من العنف والعنف المضاد، تهدد وحدة الوطن كيانا وشعبا. دوامة لن يخرج منها أحدا سالما أو غانما وهكذا تساق بلادنا عبر سرداب مظلم نحو هاوية بلا قرار. ..وكل ذلك يثلج صدور الأعادى من حولنا، لأنه يمكنهم من ممارسة لعبتهم التقليدية “فرق تسد”.
***
كان هذه بعض المقاطع من المدخل الذى اختاره الهلالى لمرافعته. ولقد حكمت المحكمة وقتذاك على المتهمين بالاعدام، قبل ان تبرئهم محكمة النقض، وتعاد محاكمتهم مرة أخرى، فيتم تبرئة بعضهم وإدانة البعض الآخر، ولكن على تهم أخرى غير تهمة اغتيال رفعت المحجوب.
***
وأخيرا نحمد لله ان مدرسة الهلالى للدفاع عن العدالة والحرية للجميع، قد أفرخت جيلا جديدا من المحامين والحقوقيين لا يزال يؤمن بحق كل مصرى فى محاكمة عادلة وفى مساواة كاملة أمام القضاء والقانون، بصرف النظر عن انتمائاته الفكرية والسياسية، جيلا قادرا على تحدى حملات التحريض والتشهير والتخويف والاستقطاب، جيلا صلبا وان كان لا يزال للأسف يمثل الاستثناء وليس القاعدة.
وندعو الله ان نعود جميعا الى رشدنا، وأن نحكم عقولنا وضمائرنا، وأن نستدعى مبادءنا وقيمنا، وأن نتعظ من دروس التاريخ وسننه، ومن تجارب من حولنا، وأن نسارع الى تطهير انفسنا وبلادنا من هذه الأجواء المسمومة من الانقسام والتحريض والكراهية، قبل فوات الأوان.
*****
محمد سيف الدولة