فيلم “مجنونة”/ أو “غير عاقلة”(أنسين)/2018: – مهند النابلسي
عمل تجريبي نفسي مرعب غريب مصور كاملا بكاميرا “آي فون سيفن- بلس” الرقمية:
دراما تشويقية حافلة بالغموض والرعب: بصمات هيتشكوكية وسردية كافكاوية وتجربة سايكواجرامية..
تحليل نقدي– تحليلي (دراسي) مسهب وغير مسبوق لفيلم عادي “تجريبي” ترفيهي “غير مكلف” معروض!
الحجز الاجباري لامرأة في مصح نفسي:
*الملخص: يتحدث الفيلم عن اجبار امرأة شابة طموحة للالتزام بحجزها في مستشفى امراض نفسية بعد مطاردة مقصودة، حيث تواجهها اكبر مخاوفها، ولكنا نبقى لا نعرف هل هي حقيقية ام مجرد هلوسات وهمية انعكاسية، والشريط من اخراج ستيفن سودربيرغ وتصويره، وكتابة كل من جوناثان بيرنشتاين وجيمس جرير، وتمثيل كل من كلير فوي، جوشوا ايوناردو، ايمي مولينز، آمي أرفنغ، وجيسي فارأو، تم عرضه الاستهلالي في مهرجان برلين (فبراير/2018).
متحرش مثابر وزميلة موتورة وصديق ودود:
*تفاصيل الحبكة: سوير فالنتيني (كلير فوي)، هي سيدة اعمال ناجحة ومضطربة نفسيا، وقد بدأت وظيفة جديدة في مدينة جديدة، هربا من مطاردة مروعة وتحرش مزعج لمدة سنتين، وهي تسعى للانضمام طواعية لمجموعة دعم ضحايا التحرش في مستشفى نفسي قريب، حيث تتحدث اولا مع مستشار نفسي، وبعد استشارة اولية، التي اعترفت فيها بانها فكرت جديا بالتحار، تقوم بلا تدقيق بتوقيع جملة وثائق شخصية، يتم حجزها عنوة في جناح المرضى النفسيين، ثم تتصل بالشرطة طالبة منهم اخراجها، ولكن هؤلاء لا يبدون متحمسين لذلك لأنها وقعت على الوثائق برغبتها، ويزيد ذلك من توترها، فتدخل في عراك عصبي مع زميلتها المضطربة المريضة فيوليت( جونو تيمبل)، التي تشتبه ايضا بها، وتفشل كل محاولاتها للخروج عاجلا، ويتم تمديد اقامتها لمدة اسبوع…
الهروب أخيرا ومواجهة الحقائق:
*آخر فقرة: ثم ترى فرصة سانحة للهروب اخيرا، فتقنع المتحرش دافيد بممارسة الجنس اولا مع فيوليت المريضة امامها في قبو الحبس الانفرادي، مما يوفر لها فرصة طعن دافيد، وتهرب، فيقوم دافيد بكسر عنق فيوليت “المسكينة” قبل اللحاق بسوير واستعادتها من الغابة المجاورة وكسر كاحلها، وحبسها عنوة في صندوق سيارته الخلفي، جنبا الى جنب مع كيس يحتوي على جثة امها أنجيلا (التي قتلها سابقا داخل شقتها)، بعد ان علم بخطتها لاخراج ابنتها من المصح…وبعد أن تتظاهر بفقدان الوعي، ثم تستخدم “صليب” والدتها الحاد لطعن دافيد في عينه قبل ان تقطع حنجرته…وفي هذه الأثناء تشرع الشرطة بتفتيش المستشفى، لتكتشف دفتر مذكرات الصحفي المتخفي “نيت”، الذي يشرح فيه بالتفصيل كافة الأنشطة الاجرامية المتعلقة بقضايا التامين الصحي المشبوهة، فتعتقل كافة الموظفين المسؤولين ومديرة المشفى المتبجحة…وربما نجد دليلا على “توهماتها الجامحة” هنا بكون الشرطة غير مهتمة فيما يحدث لها على مستوى المتابعة والتحقيق الجنائي، فيما لا نفهم حقيقة اغتيال والدتها من قبل دافيد هذا، ولماذا لم تنجح جهودها باخراجها من المستشفى كما وعدت!
الغوص في أرض الأوهام والاثارة النفسية والغموض الغامض: هل هي نفسها ام ليست هي؟!
*بعد ستة أشهر، تتناول سوير طعام الغذاء مع زميلتها وتتشدق متعالية عليها، ثم تعتقد فجأة أنها رأت دافيد جالسا في نفس المطعم مع زميله، فتسير نحوه وبيدها سكينة، لتكتشف أنه شخص آخر ومجرد وهم وهكذا ينتهي الفيلم، ونتوه نحن المشاهدين ايضا ، فلا نعرف حقيقة ما جرى وهل كان مجرد اوهام وهلوسات ام حقائق واقعية، وينجح سوديربرغ هنا بالخوض ببراعة في ارض الاثارة النفسية باسلوب هيتشكوكي أشد ضراوة وغموضا وتشويقا (79%).
*ملخص نقدي لكوميديا سوداء لا تؤخذ على محمل الجد:
فيلم غاضب وصلابة النساء ورومانسية المتحرش والبعد الواقعي التشويقي والبقاء على حافة المقعد!
*يتضمن مجموعة من المشاهد “المشوهة والمزعجة والغامضة”، تشير بمجملها لفيلم غريب غاضب، منها القاء فيوليت بفوطتها الصحية “المقرفة” هكذا والملوثة بالدماء على سوير المستلقية على سريرها المجاور، ومنها اعطاءها ادوية زائدة مهلوسة من قبل دافيد، ومنها طريقة تعذيب واعدام صديقها الأسمر “جيسي فارأو” لأنه حاول مساعدتها واعطاها الخلوي سرا لاجراء الاتصالات مع والدتها…الفيلم مؤشر تجريبي على حيوية السينما والقدرة على التجديد.
*الفيلم يشير لصلابة النساء كجنس “جندري”، والقدرة على مقاومة الضغوطات النفسية والاستفزازات المنهجية المؤسسية والشخصية، وقد نجحت في اجتياز عذابات الاحتجاز النفسي وشحنات الكهرباء المتتابعة، وخرجت سالمة ومعافاة من هذه التجربة المريرة.
*ابدعت “كلير فوي” بدورها المتطلب المستحوذ، وجذبت المشاهدين معها في رحلة نفسية معقدة ومرهقة…كما أنا لاحظنا ان المتحرش دافيد متيم بهان ويعشقها حقيقة بشكل رومانسي ربما، ونلاحظ ذلك بطريقة تأملها وهي تتناول فطورها المفضل، الذي جلبه لها في الحبس الانفرادي، كذلك وعوده لها بحياة مستقلة رغيدة لهما، حيث يملك منزلا ريفيا ومطعما يكمن ترميمه…
*الفيلم يجتاحك ويشوقك، كما يبقيك على حافة مقعدك مترقبا، وستتذكر خصوصيته ونمط تصويره، حيث استخدم الأي فون سيفن كأول سلاح سينمائي مثير وترفيهي، ويتمتع بلهجة مدمرة ومبرمجة، وربما هناك اشتقاق خفي من منهجية الفرنسي “غودار” ، الذي يعبث بابطاله ويعرضهم لمصائر غريبة لا تخطر على البال، وبلا تفسير منطقي احيانا!
*هناك بعد واقعي جلي بطريقة التعامل مع المرضى النفسيين في المصح العلاجي، وهناك رغبة باكتشاف امكانات وتقنيات سينمائية جديدة، واظهار كليشهات لافتة، تخلط الرعب بالاثارة، باسلوب تصوير فريد غير مكلف، يتضمن زوايا غريبة باهتة ومتابعات لاهثة…
*الساحر السينمائي الذي لا يعتزل:
بالرغم من اعلانه ذلك منذ حوالي العشر سنوات الا انه يواصل الاخراج، فقدم بالعام 2017: فيلم “لوجان لاكي” الكوميدي الظريف، الذي يتحدث عن سرقة عائلية متقنة لأموال سباق “ناسكار للسيارات الشهير” في كارولينا الشمالية، وكان هذا الفيلم بمثابة متعة ترفيهية، وربما ابطأ ايقاعا من فيلمه الشهير “اوشين اليفن”، مع تمكن واضح بعناصر التصوير والموسيقى والتمثيل، وهناك أفلام عصابات المخدرات وانتشار الأوبئة، التي قدمها بشكل شبه وثائقي بانورامي، لكن هذا هنا فيلم مختلف تماما وان كان يطرح موضوع خداع وتلاعبات شركات التامين الصحي، فهو فيلم تجريبي منخفض التكاليف ومصور بنمط الفيديو الرقمي الحديث (بالآي فون سيفن)، ونحن لا نميز هنا الحقائق من الأوهام، فالبطلة الطموحة الشابة لا تزال تلاحق ذكرى مطاردها دايفيد (جوشوا ليونارد)، لتذهب طواعية وتوقع على عقد تقييم نفسي ملزم بالخطا في مستشفى مشبوه، لتاخذ القصة منحى “كافكاوي” غامض، وعندما تصل والدتها لانقاذها، وتحاول دفع فواتير شركات التامين المخادعة، يتم تدريجيا اثبات مرضها العقلي عند كل محاولة فاشلة للهرب…ثم يطلب منها تناول ادوية جديدة مهلوسة، فنتساءل جميعا: هل جنت حقا ام ماذا؟!
*الشرير الذي لا يرحل:
كعادة هذا النمط الشيق من الأفلام، فهناك شرير غامض لا يرحل، ويبدو السجن “الصحي” هنا كرمز لدوامة الموت الرأسمالي الخانقة، ولانعدام الأخلاق المهنية والانسانية بطريقة استغلال المرضى المساكين، واسلوب التعامل المشبوه مع ملفات التامين الصحي الفردية، وقد نجحت الممثلة “جونو تيمبل” ببث التوتر في أجواء العلاقة مع سوير وفي المستشفى عموما، كما نجح “جاي فارأو” الأسمر الجذاب بتهدئة سوير كصديق ودود كتوم يعرف الأسرار، ثم انتقلت لعبة القط والفأر جهارا بين “سوير ودافيد” المشبوه الشرير الباطني اللئيم، ولكنا لا يمكن أن نتجاهل نفس اسلوبية سودربيرغ التصاعدية التشويقية في مجمل أفلامه المعروفة الترفيهية، التي حفلت بفضح الممارسات الاجرامية والسرقات الكبيرة مثل: خارج البصر وذا ليمي، ثم ايرين بروكوفيتش، والمرور الشهير (ترافيك)، وانتهاء باوشينز اليفن و”لوجان لاكي” الأخير…
احتواء الشريط على عناصر “تاركوفسكية” ربما بلا قصد!
يقول تاركوفسكي في حديثه عن افلامه “أنا أتابع الفكرة بشكل لاواعي أو لاشعوري. بكلمة أخرى، إنها كما لو أنني كنت أروي قصة نفس الشخصية في كل مرة : قصة انسان يعتبره المجتمع ضعيفاً، فيما أعتبره أنا قوي”. وذلك يؤكد أنه لا يهتم بالحكاية وتفاصيل الشخصية.
يقول “أنه عندما نصبح واعين بممثل ما، أو بمعني ما بأي فنان أخر، بوصفه وسيطا، فالتأمل يصبح مستوي ثانوي، وتنعدم خبرة الملتقي بالعمل، فهناك وسيط يمثل مركزية يسيطر علي المشاهدين، حيث يكون الاندهاش الحقيقي من العمل بدون حضور الفنانين الطاغي، حيث لا يعرضون انفسهم”، ودورهم يتمثل وفقا لجادامر في استحضار العمل وتماسكه الباطني في نوع من الوضوح الذاتي غير المتكلف.
وتاركوفسي خلال افلامه لم يتجه نحو التكلف والمغالاة في التصوير، ويقول عن افلامه ” أحب أن أغير طريقة أفلامي ولا أدري كيف. سيكون ذلك رائعاً، أن تصور فيلم بحرية تامة، تماماً مثل الهواة حين يعملون أفلامهم. نبذ الميزانية الباهضة. أحب أن تكن لدي الأمكانية لمراقبة وملاحظة الطبيعة والناس بعناية، وأن أصورهم دون عجالة”، ويأتي ذلك تماشياً مع موقفه من سرد القصة، وعدم أهميتها في الفيلم،وايضا دور البطل والشخصيات في الفيلم، فالقصة لديه تخلق وتأتي من خلال ملاحظاته وافكاره، وليس هي الاساس الذي ينطلق منه رؤيته وفيلمه، وذلك يؤكد أنه لا يسعي لفيلم تقليدي وسينما معتادة، ولكنه يجتهد نحو تجلي الجميل الدائم في الصورة وفي المشهد، يشعر المشاهد ان هناك المزيد والمزيد ينتظره.
*هكذا نلاحظ أن سودربيرغ (وربما عن غير قصد) ادخل عناصر “تاركوفسكية” هامة في فيلمه المميز هذا، منها طبيعة الشخصية ونظرة المجتمع لها، وقدرة البطلة على مقاومة الأوهام والأحداث القاهرة في المشفى النفسي، وكذلك التركيز على وجود عناصر الاندهاش في الحبكة الغريبة بوضوح ولا تكلف، ثم اخيرا في البعد التجريبي التصويري البسيط للفيلم ومنهجية السرد التلقائي المتطورة، والحافلة بالمفاجآت والتجليات الجمالية، التي تجعل المشاهد بحالة ترقب دائمة.
جنون العظمة النسائي وطنين الحشرات الريفي واللون الأزرق الطاغي والعدسات الواسعة في أماكن ضيقة:
*يركز المخرج على طنين الحشرات في مشهد الاستهلال، وكأنا في موقع ريفي يتناقض مع وجود ابنية تعج بالزجاج والخرسانة، ربما بقصد ليوجهنا لحالة البارانويا والتوحد الحادة التي تعاني منها بطلة الفيلم (ربما تكمن مهارة كتاب القصة ومخرج الفيلم باستنباطهم لهذه الحالة الفريدة المدمجة).
*يملأ المخرج شريطه العجيب هذا بالتوتر والمغزى الخفي، ويعرض نمطا جنونيا ملطخا بالأزرق والأبيض، تمتد حتى الغابة الزرقاء المجاورة، وربما قصد اقحام هذه الألوان التي تثير احساسا بالسكينة لدى المتلقي عكس توتر الحالة الدرامية، وذلك ربما يتناقض بقصد ومدلول مع فيلم “اتجار” (الحائز على اوسكار عام 2001)، الذي اظهر فيه النجم “مايكل دوغلاس” وسط موجة متدرجة من اللون البرتقالي، عاكسا الاستفزاز والطاقة والفضول…
*يقتبس من بطلة كوبريك بفيلمه الشهير “اللمعان”، فنكاد نرى نفس البطلة “شيللي دوفال” وهي تركض في ردهات المستشفى الضيقة، بمشاهد واسعة عريضة تتماثل مع “عين السمكة”.
*يركز كثيرا على لعبة “القط والفار”، فنرى البطلة تستمتع بتمردها، وبمواجهتها للسجن والصدمات الكهربية والعقاقير المهدئة-المهلوسة، لذا فهو يسلط كاميرا موبايله طوال الوقت على وجه “فوي” المعبر!
*يترواح وضعها ما بين عذابات الاضطهاد والربط والتقييد، وبذاءآت زميلتها المتحرشة الشرسة فيوليت (جونو تيمبل)، وطيبة وتعاطف وترحيب زميلها الأسمر بيت (جاي فايرأه)، ثم بحالة الاصطفاف المقيتة اليومية لتناول “حبات” العقار الكريه لتلتقي اخيرا مع المتحرش ديفيد (جوشوا ليونارد) الذي يتفقد حالة بلع “الكبسولات” داخل أفواه المرضى، والذي يرفض اتهاماتها له.
*لا شك أن حياة سوير مليئة بالطموح العملي والتفوق المهني والزملاء الفضوليين وربما الحاسدين، كما يوجد هناك المدير المعجب الطامع المستحوذ…كما لا نفهم في البداية سر مقابلتها لشخص ما في بار مجاور، ومصاحبته لمنزلها، لنراها فجأة وأثناء تبادلها للقبلات معه تنقلب عليه مشمئزة، لتذهب للحمام لتناول عقار ما، ونسمعها قبل ذلك توصيه بأن لا يتحدث لأحد عن علاقتهما العابرة هذه.
*أخيرا وباختصار موجز، فهذا الفيلم مثير وشيق وبذىء واحيانا مضحك ومتناقض، وربما انجز بقصد لسرد قصة امرأة جميلة طموحة مضطربة، ويحفل بالصراخ والصخب والغضب…
مهند النابلسي / كاتب وباحث وناقد سينمائي / mman2005@yahoo.com