في التوافق الفلسطيني إلى بايدن – منير شفيق
إن أعمق انقسام داخلي فلسطيني- فلسطيني عرفه التاريخ الفلسطيني، تمثل في الانقسام حول اتفاق أوسلو. وهذا الانقسام ما زال ينخر في الجسم الفلسطيني، بالرغم من إعلان فشله رسميا من جانب رئاسة سلطة الحكم الذاتي، ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ولكنها وهي تقود حركة فتح ما زالت تعلن تمسكها بنهج اتفاق أوسلو وسياسة التسوية، وحلّ الدولتين الذي يتضمن الاعتراف والصلح والتطبيع، ولم يبق من فلسطين للفلسطينيين إلاّ 22 في المائة منها، وحتى هذه خاضعة للتفاوض، أي متنازع على أجزاء غير محددة منها، ثم أضف تبنيها وتطبيقها للتنسيق الأمني (الذي يحمل كل الأوصاف المرذولة).
ولهذا فإن الانقسام مستمر، ولا حل له ما لم تسقط هذه السياسة، أو يتم التخلي عنها. ومن ثم فإن كل من راح يجلد الفلسطينيين لأنهم منقسمون وراح يعظهم بأن يتوحدوا، ولم يضع المسؤولية على هذه السياسة ويطالب بالتخلي عنها يقوم عمليا، عن قصد أو دون قصد، بوضع طرفيّ الانقسام على قدم المساواة. ويكون قد غطى على اتفاق أوسلو ونهجه، أو لم يضيق على من وراءه ليتراجع، فكان سببا جديدا لاستمرار الانقسام من حيث أراد العكس.
وهذا ينطبق أيضاً على الفصائل التي طالبت بالمصالحة ولم تتعرض للسياسة، وتحميل سياسة أوسلو المسؤولية.
محمود عباس يعلن، بلا مواربة، أنه مستمر في سياساته، وراح يفتح الأبواب للتفاهم مع إدارة جو بايدن. يعني أننا أمام توافق تحته اللغم الكبير
وهذا يتكرر اليوم عند تناول مراسيم الانتخابات، والتوافق واعتباره طريقاً للمصالحة، من دون حلّ الإشكال السياسي. بل السعي للتوافق في ظله، خصوصاً وأن الرئيس محمود عباس يعلن، بلا مواربة، أنه مستمر في سياساته، وراح يفتح الأبواب للتفاهم مع إدارة جو بايدن. يعني أننا أمام توافق تحته اللغم الكبير.
صحيح أن الوضع دخل مرحلة جديدة بعد إعلان الرئيس محمود عباس رفضه “صفقة القرن”، وعارض ما اتخذه ترامب من خطوات ولا سيما ما يتعلق بالقدس، فقطع العلاقات بين أمريكا والسلطة، وأعلن وقف العلاقات مع حكومة نتنياهو، وصولا إلى إعلان وقف التنسيق الأمني، لكن ظن كثيرون أن هذه التطورات ستجعل محمود عباس يعيد النظر في سياساته ونهجه، ولهذا قوبلت دعوته لاجتماع الأمناء العامين في بيروت ورام الله بأمل متحفظ.
قبل أن يجف الحبر عن بيان هذا الاجتماع، أعلن محمود عباس من خلال حسين الشيخ العودة بالعلاقات مع حكومة نتنياهو “كما كانت” (وبالتمام والكمال). وكان يفترض بهذه العودة أن تعيد التذكير بضرورة الانقسام، فقد عورضت من الجميع ولكن مع إبقاء شعرة معاوية. هذه الشعرة سمحت لمحمود عباس أن يطلب التوافق على أساس إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، ومجلس وطني. وبهذا دخل الوضع الفلسطيني مرحلة جديدة.
لماذا إبقاء شعرة معاوية هذه وعدم رفض الفصائل للتوافق ما لم يتم الاتفاق على الخط السياسي، ويعلن محمود عباس تخليه عن نهج أوسلو وسياسات التسوية والمفاوضات والتنسيق الأمني وحل الدولتين؟
والسؤال: لماذا إبقاء شعرة معاوية هذه وعدم رفض الفصائل للتوافق ما لم يتم الاتفاق على الخط السياسي، ويعلن محمود عباس تخليه عن نهج أوسلو وسياسات التسوية والمفاوضات والتنسيق الأمني وحل الدولتين؟
كان هذا هو الموقف الصحيح والاستناد إلى عدم تجريب المجرب، ولكن عند الأخذ بعين الاعتبار تدخلات الدول الصديقة المطالبة بالتوافق من جهة، واتباع نظرية “المشي مع العيّار حتى باب الدار” لإسقاط الذرائع والإحراج، فضلاً عن تخفيف بعض الضغوط على معارضي أوسلو في الضفة الغربية من جهة أخرى، ثم هنالك حجة ثالثة وهي إعطاء فرصة لتعثر محمود عباس من داخل فتح نفسها بسبب الانتخابات.. كل هذا يسمح بتفهم موقف الفصائل من الدخول في لعبة التوافق، ومن ثم عدم نقدها وتخطيئها، ولكن مع عدم تأييد التوافق الجاري والترحيب به، لأن في ذلك نصيبا لمحمود عباس يجب ألاّ يُعطاه. بل ثمة ضرورة بأن تتعالى أصوات تكشف ما يريده من التوافق وتهاجم سياساته من حيث أتت، أي يجب أن تقوم بهذه المهمة شخصيات وتجمعات فلسطينية مستقلة تهاجم سياسات عباس دون الانجرار إلى نقد موقف الفصائل من التوافق.
هذا هو الموقف الصحيح عند هذا المفترق للطرق؛ لأن المهم ألاّ يُمرّر دهاء عباس دون رفض ونقد حازمين ما دام مصرا على خطه السياسي المدمر، وذلك لإحباط سعيه إدخال الجميع في خيمته وتعزيز شرعيته في الانتقال إلى مرحلة جو بايدن.
إن ما تكشف حتى الآن من سياسات جو بايدن حول القضية الفلسطينية هو تمرير ما تم إنجازه من قِبَل ترامب- نتنياهو، ولكن مع التخفيف من آثاره الجانبية، وتهدئة الوضع وعدم تأزيمه، وذلك في ظل وعود بانتهاج سياسة جديدة مختلفة، من دون التركيز عليها لتنفذ عمليا. أما إذا ذهبت إلى فتح مفاوضات للتسوية، فهذا يعني السعي لتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة إنتاج الانقسام والصراعات الداخلية، وفي مقدمها ضرب قطاع غزة المحرر وما وصله من قوة مقاومة عسكرية جبارة تحت الحصار. وقد تحقق هذا وأنف الانقسام راغم.
فما يهم الكيان الصهيوني هو أن تحدث تهدئة وعملية تخدير تنساق إليها سلطة رام الله، فيما يمضي الاستيطان في الضفة الغربية ويتعزز الاحتلال من خلال التنسيق الأمني من جهة، وتمضي من جهة ثانية عملية تهويد القدس وإنهاء الوضع القائم (ستاتيكو) في المسجد الأقصى، ومحاولة فرض اقتسام الصلاة فيه، ومصادرة مسجد باب الرحمة، واقتسام الباحة المباركة والتهيئة لمشاريع بناء الهيكل.
إبقاء الوضع القائم، مع نزع ما أمكن من “صواعق” التفجير والتأزيم، فيما يستمر الاستيطان وابتلاع المزيد من الأراضي عملياً وهذا ما يخفف من الصدام
بكلمة، سيكون أمام إدارة جو بايدن سياستان: الأولى محو بعض آثار ما فعله ترامب ولو شكليا ولفظيا، وإعادة العلاقات مع سلطة رام الله مع بعض الدعم المالي، ووعود لحل الدولتين. أي إبقاء الوضع القائم، مع نزع ما أمكن من “صواعق” التفجير والتأزيم، فيما يستمر الاستيطان وابتلاع المزيد من الأراضي عمليا. وهذا ما يخفف من الصدام الداخلي: الصهيوني الأمريكي والصهيوني (الإسرائيلي). وهذا الخيار يسمح أيضا بالتركيز ضد إيران وبقاء الأولوية لمواجهة الصين وروسيا.
أما السياسة الثانية فهي التركيز على التسوية والمفاوضات لحل الدولتين وجعله أولوية، كما فعل كلينتون وبوش الابن وترامب. وقد فشل وسمح لبوتين ببناء روسيا دولة عظمى، وسمح للصين أن تسابق أمريكا اقتصاديا وتكنولوجيا. وهذا الخيار هو الأقل احتمالا حتى الآن.