في الصراع ما بين الحقوق حقّ: المقاومة وحق العيش الكريم- منير شفيق
منذ بداية الاحتجاجات في لبنان منذ عدة أسابيع، وجد حزب الله نفسه في مواجهة الجماهير المطالبة بإسقاط الطبقة الحاكمة ومحاسبة الفاسدين.
قبل عدة أشهر انطلق حَراك شبابي في قطاع غزة تحت شعار “بدنا نعيش”، فاصطدم بقوى المقاومة التي تخوض حرب حياة أو موت مع العدو الصهيوني. مِمَّا وضعها تحت حصار خانق، وجعل الشعب يدفع أثماناً غالية وخسائر فادحة، وسدّ آفاقاً في وجه أجيال صاعدة فرض عليها ضيق العيش الحرمان من حقوق كثيرة.
ولكن ما كان من الممكن ألا يدفع الشعب كل تلك الأثمان والخسائر إن كان سيخوض تلك الحرب، ويمنع أو يمانع احتلالاً يسعى لاقتلاعه من أرضه ووطنه والحلول مكانه إلى “الأبد”، أو قل ما دام مطلق اليد لا يُواجِه أي مقاومة. والمقاومة حقٌّ وجودي للشعب وشبابه، ولأجيال وأجيال من الشباب لاحقة.
هنا تضارب حقان (حقّ مقاومة الاحتلال، وحق العيش الكريم) داخل صفوف الشعب بشيوخه وشبابه. بل تضاربت عدة حقوق بعضها مع بعض. وقام انقسام خطير بين من يأخذ بهذا الحقّ ويدفع إلى الخلف حقوقاً أخرى، ومن سيأخذ بحقٍّ آخر ويدفع إلى الخلف حقوقاً أخرى.
وحتى إذا تغلب أحد الجهتين على الأخرى (وفي قانون الحياة الاجتماعية والإنسانية لا بد من أن يحدث هذا التغلب لإحداهما) فإن الأخرى ستعمل للإطاحة بهذا التغلب إذا ما جاء أوان الانتفاضة أو الثورة.
إن تلبية كل هذه الحقوق واعتبارها متساوية، وتجنب حدوث هذا التغلب أو هذه الثورة، أمر غير ممكن بوجود عدو متفوق، أو بوجود موازين قوى وإمكانات قائمة، لا تسمح بهذا الجمع والتساوي. ولهذا لا بد من التدافع والصراع. ولا مفرّ من وقوع الاختلاف في الاختيار حتى بين المرء ونفسه. ومن ثم فإن الصدام واقع لا محالة حتى لو أجّلته موازين القوى والظروف العامَّة الخارجية والداخلية ردحاً من الزمان، لأن موازين القوى والظروف العامَّة الخارجية والداخلية معرَّضة دائمة لحدوث اختلال فيها ليجد الصدام فرصته للتغيير أو لمحاولة التغيير.
الأمر الأول الذي يجب أن نعترف به هنا أننا في الصراع الداخلي نجد أنفسنا أمام انحياز لحقوق دون حقوق، ولخوض “حرب” في تقديم حقوق على غيرها.
على سبيل المثال، في غزة وقوع الصدام أو التصادم بين حقوق المقاومة وحقّ المطالبة بأن “نعيش” والتحرُّر مِمَّا يُفرَض على الشعب من حرمان أو فقر أو انسداد آفاق أو حريات عامَّة وفردية.
حسنٌ، هذا المثال سيتكرر في لبنان إذا ما انحرف الحَراك أو الانتفاضة أو الثورة -لا مشاحَّة في المصطلَح- ليمسّ الحقّ في المقاومة، وخرج -أي الحَراك- عن هدفه الأول ضدّ الفساد والنهب والمطالبة بحق الطبابة والتعلم والعمل والحياة الكريمة لفئات -بغض النظر عن حجمها- محرومة من ذلك، وذاهبة إلى محاربة الفساد ونهب ثروات الدولة والشعب.
أما عند تجنُّب هذا الانحراف فمثال غزة سيبتعد عن مثال لبنان، ويصبح الصدام بين حقوق وحقوق في لبنان ضمن سقف آخر، كما ضمن معالجة مختلفة.
في قطاع غزة يجب أن يدوّي، بلا تردُّد، شعار وخيار “لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة”. وهذا قانون طبّقَته كل الشعوب قاطبة عندما تعرضت للحرب والغزو الخارجي. ومن ثم لا بُدَّ من أن يُضحَّى بحقوق من أجل حقوق. ولكن في الوقت نفسه يجب أن تتساوى سلطة (أو قيادة) المقاومة من الناحية الشخصيَّة، مع الشعب في التقشُّف وشظف العيش، ولا تسمح لعائلاتها بأي امتياز.
أما في الحالات التي لا تضمّ قضايا مقاومة أو قضايا حرب، فتصادم الحقوق في الصراعات الداخلية يجب أن يُبعد “الرؤوس الحامية” في الأطراف جميعاً، كما تجنب الحلول القصوى أو الحسم الحاسم. كان لبنان في مرحلة من تاريخه قد أنهى حرباً أهلية، أو ما يشبهها تحت شعار: “لا غالب ولا مغلوب”، وهو شعار ثار ضده كثير من النقد، وبعضه محق أيضاً، ولكن عاش لبنان على حلٍّ أخرجه من الفتنة الداخلية التي هي الأسوأ دائماً.
وهنالك حلول تَوافَقَ عليها المثلُ الشعبي قد أنقذت في بعض البلدان حالات من الفتنة، أو الوصول إلى الفتنة. وكان شعارها “غير جميل بالمطلق” لكنه خير من الفتنة، وهو: “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”.
واليوم دخل لبنان وعدد من الدول العربية في مرحلة جديدة ترجمتها حَراكات شبابية تقترب، بهذا القدر أو ذاك، من الثورة، وقد بدا واضحاً أن “نظاماً” قديماً تآكل وأخذ ينهار، وأصبح من الضروري أن ينشأ “نظام” جديد. الأمر الذي ينتظر الحلول الإبداعية في كل حالة، إذ ليس هنالك حل مُعلّب واحد، وذلك بسبب عشرات السمات الخاصَّة لكل بلد. لكن المشترك المهمّ هو إبعاد “الرؤوس الحامية” التي تبحث عن الحلول القصوى للصراعات الداخلية، أو لها أجندات غير الأجندة التي أنزلت مئات الألوف إلى الشوارع.
وبالمناسبة، عند التأمل في تضارب الحقوق وكيفية التعامل معها في هذه المرحلة من تاريخ العالَم، فثمة حاجة إلى تنظير شبيه بمنهج التعامل مع التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية. وهنا يبقى السؤال: هل يمكن الإفلات من ضرورة تحديد أولويات؟
الجواب: لا، لأنه ما من طرف يخوض صراعاً إلّا ويدافع عن حقوق يجعل لها الأولوية على حقوق أخرى، وذلك ما دام الجمع والمساواة بين كل الحقوق غير ممكن.
ومن هنا فإن الانحيازات الداخلية سواء اتّخذت شكل أحزاب أو تيَّارات أو غير ذلك، تكون انحيازاً لأولويات دون أولويات.
في المرحلة الأولى، مرحلة الاختيار والانحياز، تشكل مرحلة تحديد هُوية الذين يجمعهم حزب أو تيَّار أو جماعة أو رأي عامّ. ولكن المشكل يبدأ عند النزول لأخذ حقّ، إما عنوة وإما بقوة الضغط، أو قل مغالبة، لأنك هنا تدخل في مرحلة الصراع لتغليب حقّ على حقّ. فينتقل الصراع من عالَم الإقناع والجدال والمطالبة القانونية إلى عالَم الاشتباك. وهذا العالَم الأخير تحكمه موازين القوى وشروط النجاح والفشل في اللحظة المعطاة، فلا يعود الحقّ هو الحكم وإنما القوة بمعناها الواسع. وهنا إذا أخطأت تدمر الحقّ الذي تحمله، فتمرغه في وحول الهزيمة، أو تتركه للانتكاس لعشرات السنين.
فالذي يثور لأن الحقّ معه فقط ولا يراعي شروط التدافع أو الصراع أو الاشتباك، يذهب بنفسه وبحقه إلى الهزيمة. وهذا لا يعني ألّا تنحاز لحق أو تدافع عنه، وإنما يعني ألّا تدخل به إلى الاشتباك إذا كانت موازين القوى والظروف غير مؤاتية. إن موازين القوى ستصبح مؤاتية إذا أخذت القوى المسيطرة بالتداعي والتخبط