في الطريق الوعرة للحياة، خسرت صديقي القديم كمال سحيم – ماهر رجا
في الطريق الوعرة للحياة، خسرت صديقي القديم الذي رحل أول أمس، الشاعر كمال سحيم.
لقاؤنا الأخير في بيته في دمشق كان قاسياً عليّ وعليه.. هو كان يحاول مكابراً أن يتغلب على آلامه وأن يتكئ بما استطاع على فراغ مكسور كي نجلس ونتحادث وجهاً لوجه كما في الأيام البعيدة، وأنا كنت حائراً بالأسى المخنوق أبحث عن ملامحه الأولى التي بددها النحول وأحاول أن أظهر له أنني لم أنتبه لآثار عاصفة المرض على جسده.
قلت له “ستكون بخير”.. هز رأسه وابتسم متواطئاً معي رغم سذاجة العبارة. ثم حاولنا أن نتقدم معاً حافيين من ضفة الذكريات لكن بأقدام مترجفة.. تحدثنا عن السنوات التي مضت وفرقتنا مؤقتاً، وعن الأصدقاء الذين لم يتركوا عناوينهم الجديدة في أصقاع الدنيا، وعن الأمنيات التي كانت، والأحلام التي لا تموت بحياة خفيفة.. لكن مرارة اللحظة كانت تقف كظل ثقيل في الركن وتصغي بصمت .. كانت أشد وطأة حضوراً من محاولتنا للهروب منها.
…
أول مرة رأيت كمال قبل وقت بعيد في التسعينيات، بدا لي مختلفاً. له شيء من صفات الشجر البري ومزاج السيف.. طبع المحارب في سريرة شاعر رقيق بسجايا البساطة والعمق مثل مخيلة البدوي، وبقلب العاشق الفتى ودهشة التأمل الغامض في وجوه العائدين إلى الحياة بفعل معجزة أو بتضارب موعدين بين الموت والحب..
الرجل الطيب كمال.. الصديق الصديق لأصدقائه.. ولطالما اعتبر أن عليه أن يخسر إن خسروا ولو كان يشعر بفوز الحياة، وأن يفرح لفرحهم حتى لو كان يشعر بحزن يضاهي الارض.
نقي الروح ودافئ الوجه، حر وصريح، يطيع قلبه ولا يطيع خوفه ولا يجامل حيث ينبغي ألا يفعل.. ولذلك ربما بدا بالنسبة للبعض حاداً.. أحياناً مخرباً وأحياناً مقلقاً لصفاء وهدوء المشهد المرتب كما ينبغي..
يسترسل كمال في الحديث عن الحياة كخصم وصديق في آن معا، لكنه كان يتغلب على تلك المفارقة بالحلم والشعر..الهروب من الحياة الموحشة الى الحياة نفسها بوهم احتمالاتها الجميلة، إلى أن غلبه المرض..
وفي الأشهر الأخيرة بدأت آلامه تشتد، وفقد أمام المرض الصعب كل جدران دفاعات الجسد.. في غرفته في الطابق الرابع في صحنايا كانت تساكنه الوحدة أيضاً، إلا من بعض إشارات الأمل والقلوب الجميلة هنا وهناك..وأشعر في هذه اللحظات أنه يتوجب علي أن أذكر اسم الصديق مراد السوداني الأمين العام لاتحاد الكتاب والصحفيين في فلسطين.. فهو منذ أن علم بوضع كمال لم يتوقف في آخر شهرين عن محاولة أن يفعل ما استطاع لنقله الى حيث يمكن أن يجد علاجاً.. فعل ذلك بصمت وبلا ضجيج، ونجحت مساعيه قبل أسبوع باتمام الخطوات اللازمة، لكن الأقدار سبقت.
….
الفقد معتم وقانط كأكاليل ذابلة، لكن على الأقل كمال لن يكون غداً بانتظار آلام اللحظة التالية، تلك الأوجاع الهائلة التي كان عليه في الشهور الأخيرة أن يتقاسم معها بقية جسده.
استرح الآن قليلاً من كل ذلك التعب “أبو محمد” .. في فضاء هادئ بلا وقت، يشبه الأحلام التي راودتك طويلاً عن حياة خفيفة.
رحمك الله.. يا صديقي وأخي.
5-9-2022