في المجموعة الشعريّة أدموزك وتتعشترين!
صياغةٌ رُؤيويّةٌ تجعلُ المَحسوسَ ذهنيًّا
بقلم: علوان السلمان
المقطعيّةُ الشعريّةُ نزعةٌ بلاغيّةٌ مُعتمَدةُ التكثيفِ الأسلوبيِّ والفنّيّ، مع إيجازٍ دالٍّ على حقلِها الدّلاليّ فكريًّا ووجدانيًّا، فضلًا عن إيحاءٍ مُكتظٍّ بشعريّةِ التّضادِ المُعبّرةِ عن الحالةِ النفسيّةِ، مع تَعدُّدِ ظِلالِ الرّؤيةِ بوحدةٍ موضوعيّةٍ، تُشكّلُ تأسيسًا على الإضاءةِ الخالقةِ لفنٍّ مُتّسِعِ الرُّؤى؛ موجَزَ العبارةِ، مُقتصِدَ الألفاظِ، مُتجاوزًا المَبنى والمعنى، للتعبيرِ عن اللحظةِ الشّعوريّةِ، التي فيها يكون (الشّكلُ والمُحتوى مُندمجيْن في عمليّةِ الخلقِ الأدبيّ) على حدِّ تعبيرِ هربرت ريد.
النّصُّ لدى الشاعرة آمال عوّاد رضوان لهُ تشكيلُهُ، وصُوَرُهُ، ولغتُهُ، وإيقاعُهُ الدّاخليُّ والخارجيُّ، مع بُنيةٍ مُركّزةٍ تتّكئُ على انزياحيّةٍ مُستفِزّةٍ للحظةٍ، ومُستَلّة لها مِن واقعِها، عبْرَ مُغامرةٍ يَخوضُ عوالمَها، ويُحقّقُ وجودَها طائرُ الفينيقِ الشّعريِّ، لتشكيلِ رؤيةٍ إبداعيّةٍ تتنفّسُ داخلَ روحِهِ الخالقةِ لنصِّهِ، والمُعبِّرِ عن موقفٍ انفعاليٍّ لرُؤى فكريّةٍ، تُباغِتُ المُستهلِكَ (المُتلقّي)، بصُورِها التي تكشفُ عن عُمقٍ دلاليٍّ مُنتَجٍ مِن اللّغةِ فكْرًا، ومِن الواقعِ المَرئيِّ تخييلًا.
(أُدَمْوِزُكِ وَتتعَشْتَرينَ)؛ مَجموعةٌ شعريّةٌ احتلّتِ الموْقعَ الرابعَ، بعدَ أن سبقتْها (بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ/2005)، و(سلامي لكَ مطرًا/2007)، و(رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ/2010)، والتي نسجَتْ عوالمَها النصّيّةَ المُتجاوزةَ للقوالبِ الجاهزةِ الشاعرةُ الحالمةُ آمال عوّاد رضوان، بأناملَ عاشقةٍ ولغةٍ دافئة.
وأسهمَت دار الوسط اليوم في نشرها وانتشارها/2015، بنصوصِها الخمسين التي تفاوتتْ عنواناتُها، والتي شكّلتْ ثُريّاتها في الكمّ اللّفظيّ، وقد سُبِقتْ بنصٍّ إهدائيٍّ مُوازٍ، شكّلَ عتبةً استنطاقيّةً لها، وأسهَمَ في تحفيزِ وإغواءِ المُستهلِكِ، للوصول إلى مَواطنِ الانفعالِ الشّعريّ ضمنَ تداوليّةٍ ثقافيّة:
أَيَا عَرُوسَ شِعْرِي الْأَخْرَس! / إِلَيْكَ / مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً
بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا / بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا / حَلِّقْ بِبَياضِهَا
صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ / بِنَارِ الُحُبِّ .. وَنورِ الْحَيَاة!
وكوْنُ نصوص آمال عوّاد رضوان تتشكّلُ وفقَ تصميمٍ هنــدسيٍّ، فهـو يَنـُمُّ عـن اشتغالٍ عــميقٍ، يَعــتمدُ التــــقاطَ الجُزئيّاتِ، وصياغةً رؤيويّةً ترقى مِن المَحسوسِ إلى الذّهنيّ، فضلًا عن أنّها تُعلنُ عن مضامينِها، وعن مُجــمَلِ تَحرُّكاتِها الدّراميّةِ ودلالاتِها اللّفظيّةِ، والتي تُعبّرُ عن حالةٍ شعوريّةٍ، بإسلوبٍ دراميٍّ حالمٍ، وبعمقٍ دلاليٍّ يَتداخلُ والسّياق الجَمعيّ، وهي نصوصٌ تسْبَحُ ما بينَ عوالم (الإله ديموزي)؛ الرّمز الأسطوريّ، والحارس لبوّابةِ السّماءِ، والمَسؤول عن دورةِ الفصولِ وتمثيلِ عنصرِ الذُّكورةِ في الطبيعةِ، وبين زوجِهِ عشتار؛ إلهة الجنسِ والحُبِّ والجَمال عندَ البابليّين، وإنانا عندَ السّومريّين، وأفروديت عندَ اليونانيّين، وفينوس عندَ الرّومان، فعانقَ الإلهان ديموزي وعشتار فضاءاتِ الوجود، وشكّلا أسطورةً مُتميّزةً بعناصرِها الجَماليّةِ المُثيرة، وبأحداثِها المُؤثّرةِ التي تعكسُ علاقةً عاطفيّةً تجاوزتْ حتّى الولّه.
مَا نَسِيتُ عُشْبًا .. لَيْسَ يَتَنَفَّسُهُ / إِلَّا نَسِيمٌ مُحَمَّلٌ .. / بِعَنَاقِيدِ شَوْقِي وَحَنِينِي
وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ / الْـ .. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!
فالنّصُّ آمال عوّاد رضوان يُعبّرُ عن يقظةِ وجْدٍ ووجودٍ، ويَستنهضُ الضّميرَ، إذ تستخدمُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان صوتَ التّاريخِ، لبعثِ الماضي وربْطِهِ بالحاضرِ ومُشكلاتِهِ، مِن خلالِ توظيفِ الرّمزِ المُجَسِّدِ للصّــورِ الّــتي تُضـفي حيويّةً وموضوعيّةً بعيدةً عن العاطفة، ابتداءً مِن العنوان بفونيميه الأسطوريّيْن الدّالّيْن على التّجدُّدِ والبعث الإنســانيِّ، ووِفــقَ تصمــيمٍ هــندسيٍّ، يَعــتمدُ المَقــــطعيّةَ الومضيّةَ المُتدفّقةَ، والّتي تُكرّسُ مفهومَ قصيدةَ النّثر، مِن حيث التقاطِها لجزئياتِ الواقع، لتحقيقِ التواصلِ بينَ المُنتِجِ والمُستهلك، كوْنَها تَشتغلُ بعُمقٍ مَعرفيٍّ ودرايةٍ، بالتّراثِ المُوظَّفِ جَماليًّا ودلاليًّا، لتقديمِ نصٍّ يَنُمُّ عن اشتغالٍ عميقٍ، يتّكئُ على رؤيةٍ ترقى مِن المَحسوسِ إلى الذّهنيّ، عبْرَ رُموزِهِ التي تُحقّقُ هُويّتَها التي مَنحَتْها الصّفةَ الإنسانيّة:
لكِنِّي وَمُنْذُ قُرُونٍ .. / حُرِمْتُ دُخُولَ جَنَّتِكِ!
تِلْكَ مُشْتَهَاتِي.. / سَخِيَّةُ الذَّوَبَانِ/ دَفِيئَتِي .. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ
وَمَا عُدْتُ أَتَعَرَّى .. حَيَاةً / حِينَ تُشَرِّعِينَ.. نَوَافِذَ رِقَّتِكِ!
وَجَـــلَالُـــكِ / أُقْسِمُ .. بِحَنَايَاكِ.. بِبُطُونِ وِدْيَانِكِ
قَوَافِلُ سُحُبِي.. بَاتَتْ حَارِقَةً/ وَهذَا الْجَامِحُ الْمُسْتَأْسِدُ بِي .. صَارَ مَارِدًا
يَرْعَى غَابَاتِي .. الْــ تَـعُـجُّ بِالنُّمُورِ
النّصُّ يَمتلكُ قدرةً تعبيريّةً مُختزَلةً لتراكيبِها الجَمالية، خارجًا عن المألوفِ والقوالبِ الجاهزة، عبْرَ حركةٍ بُؤرَويّةٍ مُكــثّفةٍ نامــيةٍ، مُتــجــدّدةٍ بــتوتُّرِها مــعَ كــلِّ دالٍّ ومَدلولٍ، ويكشفُ عن شاعرةٍ تعي ذاتَها الخالقةَ لتجربتِها، والمُدركةَ لهواجسِها المضطربةِ على المستوى العاطفيّ والنفسيّ.. لذا؛ فهي تُترجمُ أحاسيسَها وانفعالاتِها الدّاخليّةَ بإبداعٍ رؤيويٍّ عميقٍ، وبتوظيفِ تقنيّاتٍ فنّيّةٍ مُحرِّكةٍ للنّصِّ، يأتي في مُقدّمتِها:
*الرّمزُ؛ السِّمةُ الأسلوبيّةُ التي تُسهِمُ في الارتقاء بشِعريّتِهِ وتعميـــقِ دلالاتِهِ.
*وأسلوبُ الاستفهامِ الباحثِ عن الجوابِ لتوسيعِ مدياتِهِ.
*والتنقيطُ (النّصُّ الصّامت)، الّذي يَستدعي المُتلقّي للإسهام في بنائِهِ.
*والتّكرارُ؛ الظّاهرةُ الصّوتيّةُ التي تحتضِنُ دلالةً نفسيّةً وعاطفيّةً خارجَ نطاقِ الذّاتِ، لتحقيقِ التّوازُنِ، ولخلقِ مَوْسقةٍ شِعريّةٍ تُخفّفُ مِن حِدّةِ المأساةِ.
*والتّعبيرُ عن الحالةِ القلِقةِ الّتي تعانيها الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان، مِن خلالِ تقطيع اللّفظِ أفقيًّا.
*مُضافًا إلى ذلكَ، تعريفَ الفِعلِ للارتقاءِ بهِ إلى الدّراميّة.
أَيَا لَهْفَةَ رُوحِي / وَيَا عِطْرَ جَسَدِي
دَعِينِي أَتَسَلَّلُ إِلَيْكِ / كَحَالِمٍ .. بِثِيَابِ زَاهِدٍ
لِأَظَلَّ ظَامِئًا أَبَدِيًّا / تَــ~ا~ئِــ~هًـــ~ا / بَيْنَ أَحْضَانِكِ!
فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ / يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟
الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان تُركّزُ على العناصرِ الشّعوريّةِ والنفسيّةِ الخالقةِ لجدليّةِ (الذّاتِ والموضوع)، لخلْقِ نصِّ الرُّؤيا في إطارِهِ البُنيويِّ، مع تَجاوُزِ المألوفِ، والانطلاق في فضاءِ الوُجودِ والطّبيعةِ، وُصولًا إلى اللّحظةِ الانفعاليّةِ المُولّدةِ للوظيفةِ الجَماليّةِ، والمُتمثّلةِ في الإدهاشيّةِ المُفاجئةِ، ليكونَ خطابُها مُحقِّقًا لوظيفتِهِ الانفعاليّةِ، باستخدام الطاقاتِ الحِسّيّةِ والصّوتيّةِ والعقليّةِ، عَبْرَ بناءٍ يُفجِّرُ اللّغةَ باستثمارِ خصائصِها، بوَصْفِها مادّةً بنائيّةً لصُوَرٍ إيحائيّةٍ، تتّكئُ على:
الإيجازِ وإثارةِ الخيال، بتوْظيفِ المَجازِ المُعبِّرِ عن لحظةِ التّوهُّجِ، مع نهايةٍ خاطفةٍ، مُدهِشةٍ، مُتعالِقةٍ مع العتبةِ الاستهلاليّةِ ونتيجةً لها، لأنّها تُبلورُ الرّؤيا الشّعريّةَ المُعبّرةَ عن الذّاتِ الإنسانيّة، فتعكسُ القيمةَ الحقّةَ للرّوح الإنسانيّة، وما يَختــمرُ بــينَ طيّاتِ فِــكرِها، بقدرةٍ تعبيريّةٍ مُتّكئةٍ على رمزيّةٍ تكتنزُها البُنيةُ النّصّيّةُ المُختزلةُ لها، باعتمادِ الجُملةِ الشّعريّةِ المُتميّزةِ: بالتكثيفِ اللّغويّ، وبدقّةِ السّردِ الشّعريّ، وُصولًا إلى اللّحظةِ الانفعاليّةِ المُولّدةِ للوظيفةِ الإدهاشيّةِ المُفاجئة.
أَيَا نَرْجِسَ وَقْتِي الْمُحَنَّطِ / أَعِيدِينِي إلَى صَوَامِعِكِ
دُونَكِ / سَمَائِي .. مَلْغُومَةُ الْغَمَامِ
دُونَكِ / رِيحِي مَشْلُولَةٌ
ليْسَتْ تُزَوْبِعُهَا .. إِلَّا شَهْوَةُ حَرَائِقِكِ!
النّصُّ يَكشفُ عن شاعرةٍ امتازَتْ بقدرتِها على خلْقِ نصِّها، وسيْطرَتِها على أدواتِها الشّعريّةِ، مِن خِلالِ صمْتِ نصوصِها وضَجيجِ دلالاتِها؛ كوْنَها تعمَلُ وفقَ ميكانزيماتٍ لغويّةٍ، تبُثُّ الرّوحَ في ثنايا النّصِّ المُعبّأ بالدّهشةِ، والمُركّزِ على المعاني، باعتماد الإيجازِ، والرّمزِ الّذي يَقبلُ التّأويلَ، ويُسهِمُ في نبْشِ الخزانةِ الفِكريّةِ للمُستهلك.
وكوْنَها نصوصًا دائمةَ التّخلُّقِ بقابليّتِها على التّحرُّكِ في الزّمكانيّة، بسبب طاقاتِها الدّيناميّةِ الفاعِلةِ، والمُتوالِدةِ في ذاتِها النّصّيّة، كي تَستفِزَّ ذهنَ المُتلقّي، وتُحرِّكَ مَكنونَهُ الفِكريَّ الذي يكتشفُهُ القارئُ عندَ البحثِ عن: أركيلوجيا النصّ، وتفكيكِ مُعطياتِهِ، وتحديدِ بُؤَرِهِ الجَماليّةِ التي انبثقتْ منه، والّتي تَكشفُ عن وعي الاشتغالاتِ النّصّيّةِ الوامضة، والتي تستنطقُ الذّاتَ، وتختصرُ المسافاتِ في لحظةٍ حُلُميّةٍ، تعتمدُ كثافةَ الإيحاءِ وإيجازَ العبارة.
وبذلك؛ قدّمت الشاعرة آمال عوّاد رضوان نصوصًا شعريّةً، تستنطقُ اللّحظةَ الشّعوريّةَ، عبْرَ نسَقٍ لغويٍّ قادرٍ على توليدِ حقولٍ، تُسهِمُ في اتّساعِ الفضاءِ الدّلاليّ للجملةِ الشعريّةِ، باستيعابها لمُعطياتِ النّصّ النثريّ المَقطعيِّ الوامضِ، ولثرائِها العميقِ في الاختزالِ والتكثيفِ، وللقدرةِ على الإدهاشِ والخلقِ الفنّيّ، باختصارِ المسافةِ الحالمةِ، عبْرَ زمكانيّةٍ وتركيزٍ واقتصادٍ في الألفاظِ المُكتنزةِ بالرّؤى والمعاني.