في المشهد الفلسطيني – معين الطاهر
ربما لم يدرك من قال من الأعراب “عش رجبًا ترى عجبًا” أنّ أيامنا الحالية استحالت كلها رجبًا، فما يجري في المشهد العربي والخليجي والفلسطيني عصيٌّ على الفهم، وغريبٌ عن كل منطق، وبعيدٌ عن كل عقل راجح. ولا ينطبق ذلك على منطقتنا، نحن زمرة المعارضين ما يجري ويدور، حيث يتعدّاه ليخالف منطق اللاعبين أنفسهم على المسرح، إذ يفعلون ما لا يقولون، ويرسمون عكس ما يخطّطون، فيحار المرء في الأهداف والتكتيكات والاستراتيجيات التي تضرّ بدايةً بأصحابها، ولا يُرى فيها إلا إمعانًا في التفتيت والتقسيم وتجزئة المجزوء، وأحسب أنّ لهذا كله نتيجة واحدة تتلخص في افتقادنا أي استراتيجية موحدة في مواجهة أعدائنا، بل وفي تمكين العدو الصهيوني منّا، ومحاولة جعله جزءًا من نسيجنا، نقاسمه ثرواتنا، ونجعله حارسًا لنا ولمناصبنا، وحكمًا في ما بيننا. ولعلّ ما يحدث في المشهد الفلسطيني خصوصا، والعربي عموما، خير دليل على ذلك.
كيف نصف ما يحدث في المشهد الفلسطيني؟ ومن يستطيع تفسيره، أو إيجاد مخارج وحلول جزئية أو كلية له، في خضم ما يعتريه من احتلالٍ وابتلاع للأرض، وازدياد مروّع في أعداد المستوطنين، وانقسام جغرافي ووطني، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، من مقاومة وصمود وإضرابات للأسرى، وهبّات شعبية وعمليات فردية، في ظلّ اكتفاء الفصائل بالإشادة بذلك كله، وكأنّها مراقب يطلّ على المشهد الفلسطيني من كوكب آخر.
تتركز الأخبار كلّها على قطاع غزة، ويتداخل فيها تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في قمة الرياض باعتبار حركة حماس إرهابية، مع تأكيد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، لاحقا على إرهاب “حماس”، واعتبار ذلك الملف أحد نقاط الاتهام الرئيسة التي توجهها الرياض وأبو ظبي والقاهرة لقطر بدعم “حماس” واستضافة قادتها. ويتزامن ذلك مع تصعيد إجراءات سلطة رام الله ضد حركة حماس وقطاع غزة، بدءًا بخصم 40% من فاتورة رواتب موظفي السلطة ذاتها، والمستنكفين عن العمل في إدارة حركة حماس، بناءً على طلب رام الله السابق، ووصولًا إلى إبلاغ الحكومة الإسرائيلية امتناع السلطة الفلسطينية عن دفع فاتورة الوقود المخصص لقطاع غزة نهائيًا، بعد أن كانت قد خفضتها سابقًا، ما يهدد بإغراق غزة في ظلام دامس، وتعطيل مقومات الحياة الأساسية فيها، مع استمرار التهديدات المتناثرة هنا وهناك بإعلان غزة إقليما متمرّدا. يترافق ذلك مع زيارة وفد من حركة حماس، بقيادة يحيى السنوار، القاهرة، بناءً على دعوة مصرية، ليتباحث مع وزير المخابرات العامة، ويُقال إنّه على هامش المباحثات جرى حوار مطوّل مع ما يُسمّى التيار الإصلاحي في حركة فتح، وحضر جزءًا منه القيادي المفصول من الحركة، المقيم في الإمارات، محمد دحلان.
لم تعلق “حماس” على هذه اللقاءات، وإن نفت لقاءها دحلان حصرًا، لكنّها صمتت أمام تسريباتٍ ساهم أصدقاء لها، مثل فايز أبو شمالة، وأعضاء فيها، مثل أحمد يوسف، في ترويج التسريبات التي ادّعت أنّ اتفاقًا قد أُبرم بين الطرفين، يؤدي إلى فتح معبر رفح بشكل دائم، بما فيه المعبر التجاري (هل ثمّة موافقة مصرية؟)، وتتولى لجنة مشتركة بين الطرفين جباية الرسوم الجمركية المقدرة بمبلغ 20 مليون دولار شهريًا، لتصرف على رواتب الموظفين، كما يتمّ إجراء مصالحة مجتمعية تذيّل آثار الانقسام عبر دفع ديّات لذوي الشهداء من الطرفين، ويُقدّر ذلك بمبلغ 50 مليون دولار، يتولى دحلان تأمينها. أمّا مشكلة الكهرباء فتحلّ عبر تأمين المحروقات من مصر بأسعار تفضيلية، في حين تُبنى مستقبلًا محطة كهرباء في رفح المصرية لتزويد القطاع بالكهرباء، كما الحال مع محطة تحلية مياه (لماذا في رفح المصرية وليس في غزة؟). ويُلاحظ هنا أنّ مجمل الالتزامات المالية قد وقعت على عاتق دحلان الذي، كما تروي المصادر، قد تعهد بتأمينها من الإمارات.
الثمن السياسي، وبحسب المصادر ذاتها، سيكون عبر اقتسام السلطة في القطاع بين الطرفين، إذ تتولى “حماس” موضوع الأمن، في حين يتولى دحلان الدعم المالي وترتيب علاقات القطاع الخارجية، وتحديدًا مع مصر وبعض دول الخليج، ويتفق الطرفان على عقد جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني يُنتخب فيها رئيس مستقل للمجلس، ما يعني تجديد شرعية المجلس ونزع شرعية الرئيس محمود عباس.
إذا صدقت تلك الأنباء، كلها أو جزء منها، فكيف يمكن تفسيرها؟ خصوصًا أنّ هذا الاتفاق لا يمكن أن يمرّ من دون موافقة ودعم سعودي وإماراتي وإجراءات مصرية، أي أنّ من يتهم “حماس” بالإرهاب هو من يسعى إلى اتفاق معها سيؤدي إلى فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة. وإيجاد شرعيتين، للرئيس في الضفة وللمجلس التشريعي في غزة، وما هو موقف “حماس” من ذلك؟ وما هو موقف الرئيس عباس؟ وما سرّ إجراءاته أخيرا ضد حركة حماس وقطاع غزة؟ ثمّ أنّ إجراءً كهذا سيفسّر أنّه ضد الرئيس محمود عباس المستعد والمنتظر صفقة الرئيس ترامب الموعودة للعودة إلى المفاوضات، وهو يستهدف زعزعة الصفة التمثيلية له، خصوصا عندما تحظى بغطاء عربي.
يدفع هذا كله إلى العودة إلى بيان الرباعية العربية السابق (مصر والأردن والسعودية والإمارات)، والذي حاول إعادة محمد دحلان إلى مربع السلطة الفلسطينية. يومها تغلّب الرئيس عباس على خصمه بالنقاط، بعد عقد المؤتمر السابع لحركة فتح، ومؤتمر بيروت للفصائل الذي حضرته الفصائل الفلسطينية، بما فيها الموجودة في سورية، وأعضاء من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ جدّد بذلك جزءًا من شرعيته الفتحاوية والفصائلية. ردّ دحلان على ذلك بلقاءات ومؤتمراتٍ في القاهرة، كان مفترضاً أن تتوج بمؤتمر حركي كبير لأنصار دحلان، يحضره مندوبون من الداخل والشتات، لكن ذلك توقف فجأة كما بدأ، وبدا وهلة أنّ علاقات أبو مازن مع الأردن والسعودية ومصر تحسّنت، وأنّ مرحلة ضغط الرباعية العربية توقفت. وبدلًا من أن يُعزّز عباس مسعى المصالحة مع “حماس” التي قدمت له مساعدة كبرى في تسهيل وصول المندوبين إلى مؤتمر “فتح”، وفي رسالة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (السابق)، خالد مشعل، إلى المؤتمر، وفي اجتماع بيروت، فقد اتخذ إجراءات عقابية ضد غزة وضد “حماس”، وطالبها بتسليم القطاع من دون قيد أو شرط، وقفز على كل محاولات المصالحة، وهدّد بمزيد من التصعيد معها. وقد جاءت هذه الإجراءات بعد تراجع الضغط العربي المهدد بوجود بديل له هو محمد دحلان، وبعد فتح قناة اتصال مع الإدارة الأميركية الجديدة، وبعد التعديلات على برنامج “حماس”، والتي وافقت فيها على حل الدولتين، مما يحمل على القول إنّ السلطة الفلسطينية اعتبرت إجراءاتها ضد “حماس” بمثابة شهادة مرور لها إلى المفاوضات الجديدة، وإجهاضًا لأي خط معتدل قد يبرز لدى “حماس”، وتعزّزت تلك السياسة بعد ضم “حماس” إلى قوائم الإرهاب الأميركية في مؤتمر الرياض.
التقت “حماس” مع مجموعة محمد دحلان سابقًا، لكنّها كانت تبرّر ذلك باعتبارها خطوات ذات مدلول اجتماعي، وتساهم في دعم صمود غزة عبر مساعداتٍ من الممكن إيصالها إلى القطاع. الآن تواجه حركة حماس، بعد التطورات الخليجية، وحصار قطر، والاتهامات الموجهة إليها، وضعًا صعبًا يساهم الرئيس محمود عباس في جعله أكثر صعوبةً، بإغلاقه باب الحوار معها.
أوجدت التسريبات عن لقاءات القاهرة، بغض النظر عن مدى دقتها، أجواءً من التفاؤل لدى أهل قطاع غزة باقتراب وقت تخفيف الحصار، وعودة الكهرباء، وحرية التنقل للدراسة والاستشفاء والعمل. والمشروع المطروح عليها، إن صدقت التسريبات وتحققت، يوفّر للقطاع فرصة أن يتنفس، ولحركة حماس فرصة تأجيل حربٍ قادمة أو عقوباتٍ أشد في ظل الوضع العربي المتردّي، خصوصًا أنّ المشروع مغلّف بتسليمها الأمن في القطاع، أي المحافظة على قوتها العسكرية الراهنة، وهو ما كان يرفضه الرئيس عباس، ويُعتبر أحد معيقات المصالحة الرئيسة.
وبعيدًا عن الدخول في تفصيلات تلك المبادرة أو التسريبات، فإنّ لها أهدافًا متعددة، منها؛ عودة أنصار دحلان إلى المسرح السياسي الفلسطيني عبر قطاع غزة، وتطويق حركة حماس بقفازات ناعمة، تتمثل في تخفيف الضغط المعيشي على القطاع، وتحقيق مشاركة سياسية مع مجموعة دحلان، وما يفرضه ذلك من اشتراطاتٍ، وإبعاد “حماس” عن المحور التركي – القطري، بل وربما الطموح في إيجاد انقسام في صفوف “حماس” ما بين حماس غزة وحماس الخارج، وإضعاف الرئيس عباس، وإفساح المجال لترتيبات جديدة لما بعد مرحلته.
وثمّة مخاطر تحيط بذلك أبرزها فصل القطاع عن الضفة، وإيجاد مبرّرات لإسرائيل للتنصل من أي اتفاقٍ بدعوى استمرار الانقسام الفلسطيني، وعدم وجود طرف فلسطيني مؤهل للمفاوضات، واستفراد الاحتلال بالضفة الغربية، واحتمال اتخاذ إجراءاتٍ عقابية وملاحقة أنصار “حماس” في الضفة الغربية، وتحميلها مسؤولية الوضع المتردي في غزة، إذا تعثّر الاتفاق أو لم يتحقق، إضافة إلى أنّ احتمالات إعادة الحصار ما تزال قائمة، في حالة عدم ارتهان “حماس” مستقبلًا للسياسة المصرية، أو اختلافها مع ما يفترض أن يكون حليفا جديدا، فمفاتيح الوقود والتجارة والتنقل والكهرباء والماء كلها خارج سيطرة الحركة.
ويبقى الاحتمال أن هذه المبادرة كلها، والتسريبات التي رافقتها، بالون اختبار، بغرض وضع “حماس” أمام خياراتٍ أحلاها مر، بالنظر إلى الظروف الإقليمية المحيطة بها. لكن بلا شك، فإنّ حركة حماس أمام اختبار صعب عليها أن توفّق فيه بين محاولة حلّ الأوضاع الصعبة في قطاع غزة، والمحافظة على المقاومة وثوابتها ووحدتها ووحدة المشروع الوطني للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كلها، ولعل هذا ليس مهمة “حماس” وحدها بقدر ما هي مهمة كل الوطنيين الفلسطينيين والعرب، المطلوب منهم إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني الذي يستهدف تفكيك الكيان الصهيوني والعودة إلى جذر القضية، والحذر كل الحذر من تطبيع العلاقات العربية الصهيونية، سعيا وراء سلام مزعوم.