في تحدي الكاميرا ابراهيم الأمين
أواخر تسعينيات القرن الماضي، كانت الصحافة العربية قد شهدت تطورات كثيرة. أضيفت عناصر مهنية الى اللعبة الإعلامية، لكن في سياق تمدّد نفوذ دول النفط الخليجي وسط الإعلام العربي.
وكان التحدي قد بدأ يطلّ برأسه بين الصحافة المكتوبة والصحافة المرئية، وخصوصاً أن المنطقة، كما العالم، دخلت يومها مرحلة الفضائيات، وباتت الصحف ملزمة بالتفكير في ما ستقدّمه من جديد يميزها عمّا يقدمه التلفزيون خلال ساعات مفتوحة من البث.
في تلك المرحلة، عاد محمد حسنين هيكل الى الكتابة الصحافية الدورية بعد توقف لفترة من الزمن. تولت مجلة «وجهات نظر» المصرية، على مدى أكثر من عام، نشر مجموعة من المقالات التي قدم خلالها مقاربة جديدة لعمله الصحافي. وتولت «السفير»، في بيروت، نشر المقالات نفسها التي كانت تمتد على صفحات عدة. هيكل، المشهور بسعة اطلاعه، وتوسع شبكة معارفه، وخبرته الطويلة في المهنة والسياسة، كان يحرص دوماً، على عكس تجربته هذه في مقالاته، معطوفة على ما يرد من معطيات أو وثائق أو معلومات. وهو بسبب عدم إدمانه الكتابة اليومية، كان يأخذ راحته في المقالة الطويلة التي بدت أقرب الى تحقيق سياسي من طراز خاص.
بمعزل عن محتوى المقالات، أثير يومها نقاش حول المقالة الطويلة. كان منتقدوه، في الأغلب، يرون فيه ما لا يناسبهم سياسياً أو ثقافياً، ومن ثم مهنياً. لكن النقاش صار يتركّز حول ما إذا كان أسلوبه في الكتابة لا يزال سارياً. وأذكر جلسة في مكاتب «السفير»، بين الراحل جوزيف سماحة والكاتب حازم صاغية، تناولت مقالات هيكل، وما إذا كان الجمهور لا يزال قادراً على تحمل مقالات بهذا الحجم.
في ذلك الوقت، تجرأت على محاولة اختصار أحد مقالاته. وتقصّدت ان أحصر النص بالعنوان الأساسي وإزالة الإضافات الكثيرة، حتى بتّ مقتنعاً بأنه يمكن اختصار المقالة الى النصف. طبعاً، كان من الصعب عرض الأمر على أحد… الى أن زارنا هيكل في مكاتب الجريدة، حيث تواعد أستاذنا طلال سلمان على جمعه مع زملاء لنقاش سياسي، لكن مع عودة الى المهنة وأحوالها. في تلك الجلسة، سألت هيكل عما إذا كان يقبل أن تختصر مقالاته، وتُحصر في الموضوع الرئيسي لا في التفاصيل الكثيرة التي يوردها على هامشه. طبعاً، استُفزّ الرجل، وسألني مباشرة عن عمري المهني، ليقفز فوراً الى الحديث عن تجربته الطويلة، وليقول إن مقالاته اليوم يمكن تسميتها «المقالة المستطردة». أي أنها ليست مقالة تقليدية، وهي تهدف الى تقديم رواية عن حدث ما، مع تفاصيل قد لا تصيب جوهر الموضوع، لكنها عناصر مهمة للصحافي. وفيها ما يشرح خلفيات بعض الأمور. وأذكر جيداً جديته عندما توقف عن الكلام للحظة، ثم قال: أنا أمارس التحدي مع الإعلام المرئي. أنا أريد أن أعرض في مقالتي ما لا يقدر التلفزيون على عرضه. أنا هنا، أدخل حيث لا تستطيع الكاميرا أن تدخل!
بعدها بنحو عامين، قصدت القاهرة مع الأستاذ طلال، وزرنا هيكل في مكتبه المطلّ على النيل. كنت، شخصياً، شغوفاً بمقاربته لأداء المقاومة في لبنان. لم يكن إعجابه أو تقديره للمقاومة فعلاً سياسياً عاماً، بل فيه نوع من المقارنة مع قوى وحكومات فشلت في هزيمة العدو. وكانت تلفِتُه قدرة المقاومة على احتلال مساحة في الوعي العام عند العدو، حكومة وجيشاً وشعباً. وهي مسائل، كنت أعرف أنها كانت مدار نقاش في جلساته الطويلة مع السيد حسن نصرالله.
هيكل، صاحب الذاكرة المخيفة، ذكّرني إن كنت لا أزال أريد اختصار مقالاته. لم يكن الأمر محل نقاش. لكن ما قلته له، أو بالأحرى سألته عنه، هو كيفية تعامله هو مع التلفزيون، وكيفية تعامل التلفزيون معه كصاحب رأي، لأنني أزعم أنه كان أول الصحافيين العرب الكبار الذين قدّم لهم التلفزيون حبل النجاة، فنقله من كاتب يملأ النصوص بتفاصيل مهمة كثيرة، الى ضيف، تمثَّل بشخصية راوٍ، وأعطاه مساحته الفضائية والزمنية الكفيلة بعرض ما يحتاج الى أكثر من مقال لعرضه.
بدا لي هيكل، الذي ظل على الدوام رمزاً لأبرز كتّاب العالم العربي وصحافييه، أول من أعطى إشارة بداية انهزام الصحافة المكتوبة أمام سطوة الكاميرا. وهو ما دأب على فعله عبر قناة «الجزيرة»، أو لاحقاً عبر قنوات مصرية. وهي الإشارة التي ربما عبّرت عن عجز مواجهة لعنة الكاميرا، أو هي الإشارة التي تجاوزها الصحافيون، باعتبار أن هيكل قيمة معرفية يجب الاستفادة منها، تلفزيونياً أو عبر أي وسيلة. لكن حقيقة الأمر أن الرجل تحول، في نهاية الأمر، من كاتب صحافي الى مقدم برنامج سياسي، فيه ما يميزه عن البرامج الأخرى. هو المقدم وهو الضيف. أما مدير الندوة، فليس ــــ مع الاحترام الشديد للزملاء ــــ إلا مذيع ربط لمقاطع رواية هيكل.
نودع هيكل اليوم، ولا نجد جواباً شافياً حول قدرتنا على حفظ أوراقنا في وجه الكاميرا وما تبعها من بث رقمي متطور. لكنه التحدي الإضافي والمستمر لنا، كصحافيين، نحلم جميعاً بأن نحصد بعض ما حصده الراحل الكبير.
الاخبار اللبنانية