في تعارض الاستراتيجية والتكتيك – معين الطاهر
يتعارض مفهوم التكتيك في بلادنا مع معناه العلمي المتعارف عليه، فقد حوّلته النخبة السياسية إلى شيء مرذول، هدفه تبرير أعمالها وإعطاء الانطباع بأنّ ما يقترفونه من سياساتٍ لا يُعدّ انحرافًا عن المبدأ والهدف، فما هو إلّا مناورة أو “تكتيك” مؤقت. لذا اقترن مصطلح التكتيك بالتنازلات والمناورات وألاعيب السياسة وتقلب المواقف، وابتعد عن مدلوله الأصلي، باعتباره خطوة، وطريقة عمل، وأسلوبًا، وخطة جزئية، يؤدي تراكمها، أي مجموع التكتيكات والخطوات والسياسات الفرعية، إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي، فالتكتيك هنا لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الاستراتيجية، أو منعزلًا عنها ومغايرًا لنهجها وهدفها، فهو حجرٌ ضمن بنائها، ونجاحه يؤدي إلى بناء مدماكٍ آخر جديد، أمّا فشله فيُلزمنا بإعادة النظر في هذه الجزئية، واستخلاص الدروس منها.
وتكمن الطامة الكبرى، حين تُستخدم “تكتيكات” وسياسات تؤدي بمجموعها، وعبر تراكمها، إلى تغيير حقيقي في الاستراتيجية، وحرفها عن مسارها، ما يقود، بالضرورة، إلى تبنّي استراتيجية وهدف يختلفان تمامًا عمّا أُعلن عنه ابتداءً. ويستوي في ذلك الدول أو الجماعات السياسية.
كثر الحديث، في التاريخ العربي، عن هدف تحقيق الوحدة العربية استراتيجية جامعة لعدد وافر من الدول والحركات السياسية، إلّا أنّ السياسات المتبعة قادت إلى الابتعاد عن الوحدة، وتعميق الدولة القُطرية. وفي التجربة الفلسطينية، خصوصًا، كانت الاستراتيجية المُعلنة هي تحرير فلسطين عبر حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، وتثوير الجماهير العربية، إلّا أّن التكتيكات التي اتُبعت حرفت هذا المسار، واستبدلت الثورة بالسير على طريق التسوية، وتبخر حلمها في أذهان كثيرين.
تعارض التكتيكات والسياسات المتبعة عن الاستراتيجيات المعلنة هو ما يؤدي إلى انحرافها،
ويُلقي بها إلى شواطئ بعيدة عن أهدافها. وحسبنا اليوم أن نُلقي نظرة سريعة على ما يحدث في دول الخليج وفي فلسطين لنتبيّن ذلك بوضوح، ومن دون أن يعني ذلك أنّنا نتبنى هذه السياسات أو ندعو إليها، إذ لا يتعدى هدف هذه المقالة إظهار التعارض ما بين الاستراتيجيات المعلنة والسياسات، والإجراءات المتبعة للوصول إليها، لاكتشاف أنّ هذه السياسات تقود، في الحقيقة، إلى تبنّي استراتيجيات مختلفة، بل ومتناقضة، عمّا هو مُعلن. أو أنّها ستؤدي إلى فشل تحقيق الأهداف المعلنة أساسًا.
في دول الخليج، تقوم الاستراتيجية المعلنة على تعزيز منظومة مجلس التعاون الخليجي، والمحافظة على استقراره، مع دور قيادي بارز للسعودية. وكانت هناك محاولة لتعزيزه خلال القمة الإسلامية في الرياض، بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في سعي واضح إلى تشكيل تحالف لمواجهة إيران، والحدّ من تنامي نفوذها في المنطقة. وإذا كانت هذه هي الخطوط العامة لتلك الاستراتيجية، فإنّ السياسات التي اتُبعت ألحقت ضررًا فادحًا بها، إذ زعزع قرار حصار قطر من وحدة منظومة مجلس التعاون، وجعل المجلس يبدو وكأنّه انقسم إلى قسمين؛ مع الحصار وضده. وربما جعل دولًا أخرى تخشى من محاولة التدخل في شؤونها لاحقًا. إضافة إلى تراجع مكانة دول الحصار، بعد أن لم تحظَ إجراءاتها بالتأييد الذي كانت تترقبه.
سياسات أخرى، مثل دعم الأكراد وانكشاف التأييد الإماراتي لمحاولة الانقلاب في تركيا، جعل دولة إسلامية كبرى لها وزنها تقف عمليًا خارج دائرة التحالف الذي رُوّج له، بل والسعي إلى تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة مع إيران، في مواجهة بعض الجماعات الكردية أو الإرهابية. كما بدأت تظهر الآثار السلبية لإضفاء الطابع المذهبي على الصراع السياسي مع إيران على المجتمعات المحلية ووحدتها، في وقت تُشن فيه حملة تحريض واسعة على الإسلام السياسي (الإخوان)، وهم من المفترض أن يكونوا حلفاء حسب الاستراتيجية المعلنة سابقًا.
يُلاحَظ أنّ هذه السياسات (التكتيكات) لا تخدم الأهداف الأساسية المعلنة، ولا تحافظ على الاستقرار الإقليمي أو على السلم الأهلي، وتبتعد عن تركيز الصراع ضد الإرهاب، وتفسح المجال لخوض معارك جانبية مختلفة، تُنفّذ منها مطامع الدول الكبرى والإقليمية، وتتيح لقوى الإرهاب أن تنمو وسط مناخات التحريض المذهبي، والابتعاد عن مواجهة العدو الرئيس للأمة، بل والسعي إلى التطبيع والتعاون معه، باعتباره جزءًا من التحالف ضد المد الإيراني، أو حارسًا محتملًا للأنظمة في مواجهة أي متغيّرات قد تعصف بها.
ثمّة وضع مشابه في فلسطين، ساهمت الأزمة الخليجية في رسم بعض ملامحه، حين جرت محاولة لتصوير تفاهم قادة حركة حماس في غزة مع السلطات المصرية على بعض الترتيبات الأمنية وكأنّه انحياز من الحركة للمحور السعودي الإماراتي المصري، وجزء من الصراع الدائر، وربط ذلك بوعود المساعدات المرتقبة من دولة الإمارات عبر محمد دحلان. هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث الجوهر فتبدو الأمور أكثر تعقيدًا. حيث الهدف المعلن لكل من
السلطة الفلسطينية وحركة حماس هو المصالحة، وإنهاء الانقسام، ودحر الاحتلال، وصولًا إلى تفاهمات القاهرة ووثيقة الأسرى والاتفاقات المختلفة على مر السنين. وبعد وثيقة “حماس”، ثمّة اتفاق ضمني على حل الدولتين، وإن اختلفت مسمياته ومعطياته، لكنّ السياسات المتبعة قادت إلى عكس هذا الاتجاه تمامًا، وأدّت إلى حالةٍ من انعدام الثقة بين الطرفين، الأمر الذي يدفع ثمنهالمشروع الوطني الفلسطيني، وقطاع غزة حيث وطأة الحصار، وفي الضفة الغربية حيث وطأة الاحتلال والاستيطان في كل يوم.
ومع تشكيل لجنة “حماس” لإدارة شؤون قطاع غزة، والتي يوشك أن يشارك بها تيار محمد دحلان، الإصلاحي في حركة فتح كما يسمي نفسه، ومع عقوبات السلطة المتنامية ضد القطاع وأهله، والتي هدّد الرئيس محمود عباس أمام وفد اليسار الإسرائيلي (وسط اعتراض بعضهم) بأن تتسع لتشمل 100% من التزامات السلطة تجاه القطاع، فإنّ النتيجة المتوقعة من ذلك كله ضعف كلا الطرفين وتكريس للانقسام، وربما الانفصال بعد أن فشل أطرافه حتى في إدارته والتعايش معه.
لن يكون موقف أبو مازن التفاوضي أحسن حالًا في ظّل هذه الأوضاع، فحوالى نصف دولته الموعودة خارج سلطته، وهو يتوافق مع “حماس” عن علم، وهو مصيبة، أو جهل يصل إلى مصاف الكارثة، على إخراج العدو من دائرة المتهمين بحصار غزة، عبر استبدال الحصار الصهيوني بحصار مصري، يجعل مفاتيح أبواب غزة ومائها والكهرباء والغذاء والدخول والخروج منها وإليها رهناً بمشيئة السلطات المصرية، ومدى تجاوب حركة حماس مع تقلبات السياسة المصرية ورغباتها، وثمّة شك بقدرتها على مقاومته، بعد أن تكتشف أنّها، كما يقول المثل الشعبي، قد خرجت من تحت الدلف (أي نقاط الماء) إلى تحت المزراب، وبعد أن يتضح أنّ أي تغيير جذري على الحياة اليومية للسكان لم ولن يطرأ عليه أي تبديل، إذ كل ما جرى هو استبدال أدوات الحصار ووسائله بأدوات أخرى. أمّا وضع المقاومة الباسلة، فثمّة مخاوف جدية على مستقبلها وسط محاولات تكليفها بالأمن، وتحويلها إلى جهاز شرطي، يذكّرنا بما حدث في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو مع آلاف الفدائيين العائدين إلى ربوع الوطن.
إنّه تعارض بين التكتيك والاستراتيجية، وانقلاب عليها، حين يظنّ بعض الساسة أنّهم بهذا يكونون أكثر مهارة وحكمة، تحت شعار أنّ السياسة هي فن الممكن، مبرّرين بذلك تخليهم عن الأهداف العظمى، فيخسرون مبادئهم، وفي الوقت ذاته، يتحوّل ممكنهم إلى سراب، والحال العربي مليء بالشواهد، والمستقبل هو مُلك لأصحاب المبادئ العظيمة فقط.