في ذكرى استشهاده سمير القنطار: جريحا، أسيرا، شهيداً
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
لم تكن القضية الفلسطينية، في يومٍ من الأيام، قضية تخص الفلسطينيين وحدهم، بل كانت ومازالت هي قضية العرب في كل مكان. فلأجلها قدّم العرب آلاف الشهداء ومئات من الأسرى، إذ لم تخلُ دولة عربية من المشاركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أو التمثيل داخل سجونه ومعتقلاته منذ احتلاله لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، فكان هناك أسرى مصريون ولبنانيون وأردنيون وسوريون وعراقيون ومغربيون وسودانيون وجزائريون وتونسيون وسعوديون وليبيون وغيرهم.
وهؤلاء جميعا يشكلون مفخرة للشعب الفلسطيني. فهم الذين سطروا سويا مع إخوانهم الفلسطينيين أروع صفحات الوحدة والتلاحم والنضال العربي المشترك في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وهم من سطروا كذلك صفحات مضيئة خلف قضبان سجونه. لذا ستبقى الذاكرة الفلسطينية تحفظ أسماءهم عن ظهر قلب. كيف لا وهم جزء من التاريخ الفلسطيني والحركة الأسيرة ! وسمير القنطار واحد منهم.
“سمير القنطار” شاب لبناني من مواليد عام 1962، وقد عشق فلسطين منذ طفولته، وانخرط في فصائل الثورة الفلسطينية في ريعان شبابه، وحمل البندقية بشجاعة وتقدم الصفوف دفاعاً عن فلسطين وثراها، وتخطى الحدود وتجاوز حقول الألغام، وعبر البحر إلى نهاريا شمال فلسطين على متن زورق مطاطي مع مجموعة من رفاقه ليقاوم المحتل الإسرائيلي وجهاً لوجه، وليساهم في استعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة.
“سمير” قاوم واشتبك، وقتل وجرح العديد من جنود الاحتلال، قبل أن تنفذ ذخيرته، ويصاب بعدة رصاصات وينزف دمه ليروي ثرى الوطن العربي الفلسطيني، فيقع أسيراً في قبضة المحتل الإسرائيلي. فتعرض لأبشع صنوف التعذيب، دون مراعاة لإصابته، وخط على جدران زنزانته بقطرات من دمه أولى حروف مرحلة جديدة في مسيرة حياته. كان ذلك في الثاني والعشرين من نيسان/ابريل عام 1979. وهو ذات التاريخ الذي أعتمد في الأجندة الفلسطينية يوما للأسير العربي، تكريما ووفاء لكل هؤلاء العرب الذين ناضلوا وضحوا واعتقلوا لأجل فلسطين وقضيتها العادلة.
وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير عام1980 اصدرت المحكمة الإسرائيلية المركزية في تل ابيب حكماً بالسجن المؤبد (مدى الحياة) خمس مرات، بالإضافة الى 47 عاماً، بحق ذاك الشاب العربي.
أمضى “سمير” ربع قرن من الزمن، زادهم أربع سنوات، بل وأكثر من ذلك ببضعة شهور، في غياهب سجون الاحتلال لأجل حرية فلسطين وثراها و حقوق شعبها، ودخل قسرا قائمة “جنرالات الصبر” وهو المصطلح الذي يُطلقه الفلسطينيون على من مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن، وهو بذلك يُعتبر “عميد الأسرى العرب” على مر التاريخ وليس فقط اللبنانيين، باعتباره أكثرهم قضاء للسنوات في سجون الاحتلال بشكل متواصل. هكذا يسجل التاريخ الفلسطيني والعربي، وهكذا تحفظ الحركة الأسيرة في سجلاتها.
وعلى امتداد سنوات أسره، تعرض “القنطار” للقهر والظلم وقسوة المعاملة كباقي الأسرى الفلسطينيين، لكن لربما معاناته تفوق معاناة الآخرين جراء حرمانه من زيارة أهله وأقربائه طوال فترة سجنه، إلا أن ذلك لم يكسر إرادته، ولم يهز ما فيه من معنوياته عالية، فظل “سمير” ثابتا بشخصيته وملتحما مع إخوانه، ونسج علاقات وطنية واسعة مع كافة الأسرى على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، فأحبهم وأحبوه، وتحلى بأخلاق عالية وشجاعة قل مثيلها. فانخرط في الحياة الاعتقالية والنضالية والتنظيمية، وكان نداً قوياً للسجان وما يمثله، وحاضراً دوماً في قلب المعركة، وكان مشاركاً وقائداً في كل المواجهات خلف القضبان بما فيها الإضرابات المفتوحة عن الطعام وما يُطلق عليها بـ”معارك الأمعاء الخاوية”.
وقد شارك “الشهيد” بفاعلية في تحقيق الانتصارات وتطور مسيرة الحركة الأسيرة. لذا اعتبر واحد من قيادات الحركة الأسيرة وأحد أعمدتها الأساسيين طوال فترة سجنه. هكذا عرفناه في السجون وهكذا يشهد له رفاقه واخوانه وممن عايشوه في سجون الاحتلال.
في العشرين من آيار/مايو 1985 رفضت دولة الاحتلال اطلاق سراحه ضمن صفقة التبادل التي أجرتها الجبهة الشعبية-القيادة العامة. ثم أصرت مرة أخرى على رفض إطلاق سراحه ضمن صفقة التبادل التي أنجزها حزب الله في كانون ثاني/يناير عام 2004. ثم تحقق وعد الحزب الصادق بتحرير سمير أخيراً في 2008.
عاد سمير إلى لبنان حراً منتصراً، ليقول: “لم أعد من فلسطين إلا لكي أعود إلى فلسطين”. فمن لا يعرف سمير، لا يعرف انتصارات المقاومة.
في 19 ديسمبر 2015، كان موعد سمير مع الشهادة قد حان. فاستهدفت غارة اسرائيلية صاروخية العمارة السكنية التي يقطنها في “جرمانا” القريبة من العاصمة السورية. فصعد إلى الله كما كان في قلوب الفلسطينيين واللبنانيين والعرب.
تنويه: المقال سبق ونشر. فاقتضى التنويه
عبد الناصر عوني فروانة
أسير محرر، مختص في شؤون الأسرى والمحررين