في ذكرى ثورة يوليو.. تداعيات الغياب الناصري وراهنيته – موفق محادين
ارتبط خطاب جمال عبد الناصر على المستوى العالمي بدعم حركات التحرر، وتوسيع القواسم المشتركة مع المنظومة الاشتراكية التي ساندت الناصرية في كل الحقول، من بناء السد العالي إلى التصنيع وكسر احتكار السلاح.
تنطلق هذه المقاربة من الربط الجدلي بين الناصرية ومصر، سواء في نشأتها أم في تداعياتها، أم في راهنيتها وضرورتها الموضوعية، وبين القوس المصري – الشامي كرافعة للأمة في كل مراحل نهوضها.
فما كان من الممكن أن تنبثق الناصرية من بلد عربي غير مصر، وليس من الممكن أن تنبعث من جديد إلا في مصر أيضاً، وما كان لمصر أن تنهض بدورها التاريخي في كل مرة من دون التكامل مع الشام…
ولم يجانب الصواب في ذلك مفكّرون سياسيّون مكرّسون، مثل نديم البيطار وياسين الحافظ وعبد الله الريماوي وجمال حمدان وعصمت سيف الدولة.
مصر الناصرية
إذا كانت دمشق ثم بغداد هما اللتان حوّلتا الإسلام والإيلاف القرشي إلى مشروع للأمة عبر إمبراطورية شاسعة، على مدار الحقب التاريخية التي سبقت الثورة الصناعية البرجوازية، فإن القاهرة، بالتكامل مع سوريا، كانت المركز الموضوعي للعرب منذ توطّد الحقبة الرأسمالية.
وهي ليست حقبة أوروبية خالصة كما تذهب المركزية المضادة للمركزية الأوروبية، بل حقبة ذات بعد أممي، لا يحجب ولا يخفي ولا يصادر خصائص التشكيلات القومية وسبل نهضتها ووحدتها، هنا وهناك.
وإذا كانت الثورة الصناعية البرجوازية الأوروبية سابقة على غيرها، فلا يعني ذلك احتكارها لهذه التحولات العالمية، بقدر ما يؤشر على تأخر الشروط الموضوعية لها في أماكن أخرى، وهو ما حدث لاحقاً مع العديد من الثورات القومية وغيرها.
وثمة استدراك ضروري هنا، هو أن هذه المقاربة لا تقحم التحقيقات المادية المعمّمة المعروفة، هكذا وكيفما اتفق، بل تستفيد منها في معاينة خاصة شأن كل القراءات الخاصة.
لقد رأينا كيف أفسح تحلل وتفسّخ الشكل الأوروبي، من الإقطاع العالمي وتمثلاته في الإمبراطورية الجرمانية المقدسة، المجال أمام علاقات إنتاج صناعية أفرزت بدورها أشكالاً سياسية واجتماعية جديدة تماماً، بالتزامن مع الثورة العلمية وانشطار البابوية إلى كنائس قومية في ما عُرف بـ الثورة البروتستانتية.
وإضافة إلى نظريات (العقد الاجتماعي) والثورات الدستورية في الحكم، عند روسو ومونتسيكو وهوبز ولوك وغيرهم، كبديل (للتفويض الإلهي)، فقد قامت على أنقاض الأشكال الإمبراطورية القديمة سلسلة من الدول القومية، في إطار خطاب وقاموس سياسي، اجتماعي حقوقي، معرفي جديد، أضفى طابعاً قومياً موضوعياً على كل المفاهيم ذات الصلة، من الدولة إلى المجتمع والمواطنة إلى الهوية والحدود والعملة والجمارك والسوق.
ولم يحدث ذلك بسهولة، بل عبر حروب طاحنة مركبة، بين القوى البرجوازية الصاعدة والقوى الإقطاعية الهابطة، كما بين القوى الصاعدة والهابطة نفسها، وهو ما انتهى إلى اتفاقية وستفاليا 1648 التي كرّست ما عُرف لاحقاً بدولة وستفاليا، أي الدولة القومية العلمانية الحديثة للعصر الصناعي.
مصر بين تجربتين: (محمد علي والثورة القومية البرجوازية، وعبد الناصر والثورة القومية الديموقراطية)
أولاً، تجربة محمد علي:
لم تقترب حالة عربية من السمة العامة للحقبة الرأسمالية كما اقتربت الحالة المصرية، لتوافر الشروط الموضوعية التاريخية للثورة البرجوازية القومية تحت تأثير أكثر من عامل:
1- التراث الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي للدولة العميقة، التي نشأت في سياق ما يعرف بنمط الإنتاج الآسيوي حول ضفاف النيل؛ فمن الحاجة إلى السيطرة المركزية على فيضانات النهر، إلى انبثاق أشكال توحيدية من السلطة والدين.
2- ازدهار زراعة القطن وصناعته وتجارته، التي كانت مصدراً أساسياً لصناعات النسيج الأوروبية، وكانت أهميتها آنذاك توازي أهمية النفط في القرن العشرين.
3- استفادة محمد علي من التنافس الفرنسي – البريطاني، ومن الصراع الأوروبي لوراثة الرجل التركي المريض، وقد تمكّن محمد علي بدعم فرنسا من بناء صناعات كبيرة للأساطيل والأسلحة وغيرها.
4- شقّ قناة السويس في فترة الخديوي إسماعيل، ما انعكس على طرق التجارة الكبرى، وتحوّلها من إسطنبول ورأس الرجاء الصالح إلى مصر، وقد أشرف السان سيمونيون على القناة والقناطر الخيرية وغيرها…
وليس من دون معنى هنا أن ترتبط قراءات المغاربي عبد الله العروي، للوعي العربي في لحظاته الثلاث، بمفكرين مصريين هم: الشيخ محمد عبده، والليبرالي لطفي السيد، والتقني سلامة موسى.
وكان من مظاهر صعود مصر في هذه المرحلة وإرهاصات الثورة القومية البرجوازية فيها، الالتقاط المبكر لمحمد علي لمغزى القوس المصري – الشامي ومعناه، وتوسيعه إلى الحجاز ونجد والسودان ومنطقة البحر الأحمر.
فبعد نجاح الحملة المصرية في القضاء على الوهابية في الدرعية، مستفيدة من الصراع التركي –البريطاني، دفع قواته إلى الشام، وراح يقترب من إسطنبول نفسها.
ثانياً، تجربة عبد الناصر:
عرف العرب، خارج مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، العديد من التجارب التي أخفقت الواحدة تلو الأخرى، وخاصة في بلاد الشام، لأسباب محلية وخارجية، بينها المستوى المتواضع لتركيبة البرجوازيات فيها، وتداخلها مع الإقطاع المحلي وخاصة (تجارة الحبوب)، وانحصارها في أسواق ضيقة، اللهم ازدهار صناعة الحرير وتجارته في جبل لبنان والساحل السوري، وارتباطهما بمصانع ليون، ما عزّز الحماية الفرنسية وتبادلها مع الاستعمار البريطاني للهيمنة على المنطقة، وتوجيه مفاتيح الاستقلال فيها، والتي عرفت كعناوين للثورة العربية الكبرى.
وستمضي عقود عديدة قبل أن تتراكم إرهاصات ثورة 1919 في مصر مع الحركات التالية للبرجوازية الناشئة والحركة العمالية في اللحظة الفاصلة من تاريخ مصر والأمة، لحظة الثالث والعشرين من يوليو 1952.
وهي اللحظة التي حوّلها عبد الناصر إلى مشروع ثورة قومية ديموقراطية، بعد أن بدأت كانقلاب عسكري ضد القصر وقوى الاستعمار البريطاني القديم، وبمشاركة قوى متناقضة، من الوطنيين إلى الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين إلى أصدقاء الأخوين دالاس، الذين كانوا يراهنون على القوة الأميركية الجديدة، ولم يدركوا أنهم أمام شكل جديد للاستعمار.
وأياً كانت الجرعة المحلية أو الوطنية المصرية في بلاغات الثورة الأولى، فسرعان ما تلازمت التحولات الكبرى في مصر وبنيتها التحتية (السد العالي والكهرباء والصناعة ومجمعات الحديد والصلب والإصلاح الزراعي والقطاع العام والتعليم الواسع المجاني والنهضة الثقافية) مع بنية فكرية لخطاب سياسي جديد راح يدمج المقاربات التجريبية مع منظورات الدوائر الثلاث، وفي القلب منها الدائرة القومية وحركة التحرر القومي.
ولنا أن نقول هنا إنه مقابل الأيديولوجيا شبه الجاهزة في التصورات والمشاريع القومية الأخرى في المشرق العربي، فإن الظاهرة الناصرية راحت تمتحن الأفكار والمواقف وتعيد إنتاجها في قلب الصراع في حقوله المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
وكان خطابها السياسي الفكري تعبيراً أو انعكاساً لتحولات مادية كبرى، اصطدمت مع المصالح الإمبريالية والرجعية والكومبرادور والرأسمالية الطفيلية، وحوّلت فك التبعية إلى عنوان عريض لمعركة التحرر على المستوى القومي.
وكما كان القوس المصري – الشامي رافعة لنهوض الأمة في محطاتها التاريخية، من هزيمة الموجات المغولية وما يعرف بالحملات الصليبية، إلى تجربة محمد علي الكبير، كان من الطبيعي أن يترجم الصعود الناصري نفسه في التكامل مع صعود حركة التحرر العربية في سوريا والإعلان عن اتحاد مصر وسوريا عام 1958 كتعبير عن هذا الصعود أولاً، وكردّ على التهديدات الأميركية والصهيونية والرجعية والتركية الأطلسية.
هكذا، ارتبطت تحديات البناء الداخلي وتوفير التراكم الوطني للقطاع العام وبنى الإنتاج التحتية والبنى المعرفية بالخطاب القومي التقدمي، ضد التجزئة والتخلف والرجعية والصهيونية والتبعية والطائفية وقوى الكومبرادور والسوق الطفيلية.
كما ارتبط هذا الخطاب على المستوى العالمي بدعم حركات التحرر، وتوسيع القواسم المشتركة مع المنظومة الاشتراكية التي ساندت الناصرية في كل الحقول، من بناء السد العالي إلى التصنيع وكسر احتكار السلاح.
تجربة عبد الناصر ومحمد علي… بين العوامل الداخلية والخارجية
لا يجوز ابتداءً تجاهل أيّ اعتبارات ومعطيات عند تشخيص أيّ واقعة أو ظاهرة ورؤيتها بعين واحدة، وفي المقابل، يساعدنا قانون التناقضات وحلقاته الأساسية والرئيسية والثانوية على تحرّي الوزن النسبي للعوامل المختلفة، في المكان والزمان المحدّدين، ومن ذلك تشخيص ظروف وأسباب وسياقات وإخفاق التجربة المصرية في المحطات الأساسية بولادة الثورة القومية الديموقراطية وسيرورتها على مستوى الأمة، انطلاقاً من المركز المصري.
صحيح أن القوى الذاتية لم تكتمل تماماً لتكون مؤهّلة للدفاع عن مشروعها، ولم تتوافر للعرب تجربة الظرف التاريخي كما توافرت في بروسيا الألمانية وغيرها من النماذج الأوروبية، كما لم تتوافر لهم تجربة الحزب الطليعي على غرار التجربة الصينية والفيتنامية، لكن كاريزما قائدين كبيرين مثل عبد الناصر ومحمد علي بتوسّط ظروف معقولة في مصر تحديداً، كانت برسم إنجاز تحولات كبيرة لولا التدخل الخارجي، الذي تمثّل في كل مرة بتدخّل أعتى القوى الدولية والإقليمية، وتكالبها ضد القوى الناهضة في القاهرة ودمشق، بما تحمله من آمال وأحلام وقدرات وحدوية مستقلة، ومن الإمساك بمفاتيح الشرق وبواباته، وبما يهدّد مجمل المصالح الاستعمارية الرأسمالية في شكليها، القديم والجديد، وتقتلع ظلالهما وامتداداتهما المحلية.
فمن تكالب قوى الاستعمار الأوروبي على تجربة محمد علي وتوحيده القوس المصري الشامي، وإجباره على الانسحاب من سوريا وتحريض القبائل وأوساط من التجار والزعامات المحلية على هذه التجربة، إلى تكالب قوى الاستعمار الأوروبي القديم، والأميركي الجديد، ومنهما قوى التجزئة والتخلف والرجعية، على المشروع الناصري وتبرير الانفصال السوري ثم العدوان الصهيوني عام 1967.
راهنية الناصرية في عهد الانبعاثات الإمبراطورية
تستمد الناصرية راهنيتها وضرورتها من أفول نموذج دولة (سايكس – بيكو) وهشاشتها أمام مناخات التمزيق والتفكيك الطائفية والجهوية، والاستحقاقات التدميرية الأخرى لما يسمّى الربيع العربي، كما من التحولات الدولية والإقليمية التي تعصف بالعالم وتشهد أشكالاً شتى من الانبعاثات الإمبراطورية شمالاً وشرقاً وغرباً:
1- على صعيد الشمال الرأسمالي العالمي، الأميركي والأوروبي، فإن إطار العقد الاجتماعي السابق (دولة وستفاليا القومية البرجوازية) صار قديماً ومعيقاً لتطوّر علاقات الإنتاج الرأسمالية ما بعد الصناعية، التي باتت أمام تصدّع هذا النموذج وتفسّخه أو الذهاب إلى أشكال من التفكّك وإعادة التركيب على شكل فيدراليات إمبراطورية.
2- على صعيد دول كبرى، مثل روسيا والصين، فالقوى الاجتماعية الجديدة فيها والناشئة عن تقاطعات بين رأسمالية الدولة العميقة والانفتاح الاقتصادي ورواسب الثقافة القومية، تعيد تشكيل نفسها كإمبراطوريات عالمية، أوراسية قيصرية في الحالة الروسية، وإمبراطورية صناعية تجارية في الحالة الصينية ومجالاتها الحيوية.
3- على صعيد الإقليم، وحيث يحاول الكيان الصهيوني تجديد مكانته الإقليمية العدوانية من خلال مشروع إقليمي يجمع بين أوهام مملكة أورشليم الليكودية وأوهام مشروع البنيلوكس الثلاثي كما طرحه بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) (مركز إسرائيلي ومحيط أردني، فلسطيني) يتعامل مع الأرض بين البحر والصحراء كـ أرض يهودية يعيش عليها سكان عرب، فإن الشرق العربي والأوسط يشهد للمرة الأولى، ومنذ الانقلاب الساداتي الأميركي الرجعي النفطي على الناصرية، صعود قوّتين إقليميّتين نافذتين، إلى جانب القوى الكبرى، هما إيران وتركيا.
ويلاحظ في صعودهما تحوّلهما من الإرث القومي العلماني (الشاهنشاهي والطوراني الأتاتوركي) إلى انبعاثات إمبراطورية بأيديولوجيا دينية مشوبة بنزعات قومية، تستجيب لاستحقاقات المجالات الحيوية للتحول الإمبراطوري في المحيط التقليدي لهما، وخاصة في آسيا الوسطى والجمهوريات الإسلامية السابقة في الاتحاد السوفياتي.
كما يلاحظ في كل هذه الانبعاثات الحضور القوي لرواسب الدولة العميقة.
مصر الناصرية والقوس المصري –الشامي مجدّداً:
في ضوء ما سبق من تحولات دولية وإقليمية ومن انبعاثات إمبراطورية شمالاً وشرقاً وجنوباً في الإقليم، وفي ضوء أفول دولة سايكس بيكو والدولة القطرية عموماً، ما من خيار آخر أمام العرب للبقاء داخل التاريخ، وتلمّس أسباب النهضة والتقدم والكرامة، سوى إعادة الاعتبار إلى ثقافة الدولة الإمبراطورية وعقلها، بلغة العصر وقوانينه.
وما من مركز يحوز الشروط الموضوعية لهذا الانبعاث سوى مصر، بما تمثّله من دولة عميقة ضاربة في التاريخ، وبنى تحتية وشرط اجتماعي يتجاوز المجاميع والهويات القاتلة إلى مجتمع المواطنة والحداثة في مرجعياتها وقاموسها القومي الديموقراطي.
كما برهنت التجربة والوقائع السياسية، على مدار التاريخ، أن الدور المحوري لمصر ارتبط على الدوام بالتكامل مع سوريا، في جدل حيّ بين الشروط الموضوعية للمركز القومي التاريخي، وثقافة المقاومة للغزاة وتقاليدها، في عموم بلاد الشام.
وصار في ما يشبه المتلازمة والقانون السياسي، أن شرارة المقاومة في دمشق سرعان ما تحرّك القوى والعناصر الحيّة المصرية، وتستنهض أعماق النيل والتراث الإمبراطوري للدولة العميقة.
تأسيساً على ذلك، فإن عودة العرب إلى مسرح الشرق والتاريخ وإعادة الاعتبار إليهم كلاعب محوري في إقليم لا مكان فيه للصغار ويحفل بالتنافس والصراع بين لاعبين كبار دوليين وإقليميين، عودة مرهونة باستنهاض مصر وتكاملها مع سوريا ضمن الشروط الجديدة للإقليم، شروط الانبعاث الإمبراطوري، بما هو في الحالة العربية مزيج من خطاب التحرر الوطني والقومي، ومن إدراك أهمية الجغرافيا السياسية وتأثيرها في تكوين المراكز القومية وصعودها، من النمط الإيلافي في الحقبة ما قبل الرأسمالية، إلى الصراع على الموانئ والبوابات الحيوية للشرق.