في رثاء المناضل عبد الرزاق الترك *- بك لا يليق الغياب
22-10-2007
بقلم : توفيق أبو أرشيد
كيف فعلتها يا صديقي …. تسللت خارجاً في خريفٍ حزين ، كيف ترجلت وتركتنا في إعصار الفوضى هذا ، ألم تعلم أن رحلتنا لم تنتهي بعد، ونصنا لم يكتمل ، وثمة مستقبلون يلوحون لنا على أرصفة لم نصلها بعد , أما كان لك أن تنتظر قليلاً …. أعلم أن الحزن قد فطر قلبك ولم يعد قادراً على استقبال كل هذا الهم، نصده من اليمين فيأتينا من الشمال ومرة أخرى من الأمام و الخلف، وأنت تذود عن حلمك كما تذود اللبؤة عن أشبالها .كل الأشياء كان يمكن إعادة صياغتها بسيف الزمن القاسي، إلا حلمك ثابتاً كان وسرمدياً كما الله في عليائه . كم حزنت وفرحت وضحكت وغضبت، أخطأت وأصبت، وعشت حياتك ما وجدت إليها سبيلا .
وعندما ينقشع غبار اللحظة لا نجد إلا جوهرة واحدة بين يديك تقدم إليها وحدها قرابين المحبة الأخيرة والصلاة الأخيرة والتنازل الأخير ، آلا وهي ( القدس ) مفتاح أسرارك وموجتك النقية الصافية .
في كنفها نشأت وفي بيوتها وحاراتها العتيقة تعلمت الأبجدية، ومن شوارعها الحزينة التقطت سرها، ومن أوجاع أهلها تشربت وعيك ، وفهمت أنها فلسطين لا شي قبلها ولا شيء بعدها , بوصلتك أينما رحلت وحللت .
أي حمل ثقيل أودعه الدهر لدى شاب فقير متوقد الذهن قوي العزيمة، لاجئ’’ لا تكاد تلتفت إليه الدول الشقيقة اللقيطه والعالم المنافق، أبعده الإحتلال عن موطنه فطاف بقاع الأرض باحثاً عن بلاد النجاشي تنصره على الحياة القاسية وتناصره في مشروعه ومشروع أهله ، حين اكتشف أن شرخ فلسطين قد غمر كل البلاد واستحالت الساحات كلها إلى معركة واحدة، عنوانها (فلسطين)، معركة إختزلت دفاع البشرية عن قيمها وإنسانيتها ورفضها للظلم والجبروت والزيف .
( لن تكرر واقعة هنود أمريكا مع شعبنا )، هذا ما كنا نقوله يا صديقي . سنصمد أمام القوة والوحشية في داخل فلسطين وعلى جنباتها، وأينما حللنا نحن شعبها الجريح في الشتات لن يصادروا كرامتنا ولا ثقافتنا ولا أي حق من حقوقنا، ومهما طال الزمن فنحن نعيدهم إلى المربع الأول يوم جاؤونا من البحر على أجنحة المستعمر الغربي المنافق . ولن نكون وحدنا وسيحمل أنصارنا من أمتنا همنا وشي’’ كثير’’ من وجعنا وسيعود العالم إلى رشده ، ولينظر كم فعل في هذه المنطقة من الكوارث تحت مسميات شتى ، ليس أقلها ما فعل بالعراق نصير فلسطين يوم تستقر الحقيقة ولا شي غير الحقيقة .
أنا من يعلم , كم نحت بالصخر لتأمين مستلزمات حياتك طالباً، ومستلزمات أسرتك لاحقا، وكم سهرت الليالي وطفت بالمدن وأنت تدعو إلى دعم فلسطين وإلى دعم كفاح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ذلك الفيصل الرائد الذي ترعرعت مناضلا في كنفه . ولم تهن عزيمتك يوماً وإن تقلبت مواجع الحياة . كنت ترنو إلى مواطن العروبة ، إنني لن أنسى قبل ثلاث سنوات حينما حملتني إلى المطار مودعا بعد زيارتي الأخيرة لكم، وقفت بعد الوداع تلاحقني بعيونك إلى أن غبت أنا بعيداً في زحام المسافرين، وإجراءات السفر، كنت أقرأ في عيونك لهفة مرافقتي إلى أوطان العروبة أو قليلاً منها ويا ليتك فعلت .
أي عبد …. وأنت تنتقل اليوم إلى مثواك الأخير في مدينة المهجر ( دارمشتادت )، أتمنى أن أقول ليس مثواك الأخير، فربما كانت القدس هي مثواك الأخير في يوم من الأيام . واعلم أنك أحببت هذه المدينة أيضا التي قضيت فيها نصف عمرك، وأسست فيها إسرتك الرائعة، ستشعر المدينه برحيلك , فلم تكن هامشياً فيها ولا حتى عادياً، بل استثناءً كنت , تعرفك الجامعات والشوارع ومراكز الفعاليات الثقافية والسياسية والدينية وكل الجاليات ، وحتى مراكز العمل ومحطات القطار، حيث كنت تسرى فجراً , وكنت شأنك – شأن جيلك الذين لوعهم صراعنا مع الصهيونية الأوروبية – حاملة المعرفة والقوة، تحاول أن تتصل بكل أسباب امتلاك المعرفة ما استطعت إليها سبيلا، فلسفة كانت أم موسيقى أو علوم طبيعية أو مذاهب سياسية، ولم تمكنك المهمات الكثيرة والوقت من التخصص …. لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي جئت به من فرانكفورت الى دارمشتادت حاملا مكتبة كاملة من الكتب العربية على كتفيك كغنيمة فرحا بها، وأي فرح ، وإنهمكنا بتصنيفها نتناقش ساعة (بأصل الأنواع ) لداروين، وساعة أخرى بدراسات هيكل حول المرحلة الناصرية، وهكذا إلى أن أعيانا التعب، واتحفتنا بحفلة شاي مميزة وربما عشاء سريعاً لا تكتمل حفلة الشاي إلا به .
آه كم أحببت الحياة يا صديقي، رغم قساوتها عليك وعلى ( أمل ) زوجتك الرائعة التي قاسمتك
تعب الحياة وحلاوتها . وكم راوغك الموت أيها الصوفي المتسربل بثياب العصر حتى تمكن وحده دون غيره من هزيمتك .
نم قرير العين يا أبا حنين … فأسرتك الغالية (أمل وحنين وحلا) وأصدقائك من شتى الجنسيات فهموا رسالتك جيداً وحملوها بحدقات العيون، ولن يغيب أبدا من هو محفورُ بالذاكرة , فبك وبأمثالك لا يليق الغياب .
· المهندس عبد الرزاق الترك : مناضل في صفوف الجبهه الشعبيه لتحرير فلسطين
ولد ونشأ في القدس … ناشط سياسي درس
وعاش في دارمشتادت – المانيا وتوفي مؤخرا فيها
http://www.safsaf.org/010-07/art/tawfiqAboArshid.htm