في سيكولوجيا الإنتخابات الأمريكية …- د.عامر صالح
.. وعيوب العقل الجمعي العربي والإسلامي !!!
أن ظاهرة الإنتخابات الحرة الديمقراطية هي ظاهرة جديدة وغريبة على العقل العربي والإسلامي المغيب والمثخن بجراح الإرهاب والتطرف الفكري وإقصاء الآخر المغاير لنا في الملة والتفكير, فكيف لنا أن نفهم الانتخابات الأمريكية ونحن لن نمارس الديمقراطية قطعا ولازالت بالنسبة لنا حلما بعيدا عن المنال, أو لازلنا نفهم الديمقراطية هي وسيلة لإفتراس الحكم وتقاسم غنائم السلطة والتأسيس لكانتونات طائفية وأثنية لنهب موارد البلاد وألغاء الدولة, كما هي في التجربة العراقية, أو تجارب ما يسمى ” بالربيع العربي ” !!!.
لازلنا نعيش بقدسية مزيفة لإمتلاك الحق الديني والأيديولجي والأثني والمذهبي والطائفي، جميع الدول و الديانات والطوائف اصبحت تعترف بالاخطاء التي تم ارتكابها باسمها بل وقدمت اعتذارات عن ذلك، هم متصالحون مع تاريخهم و يعترفون بالخير و الشر الذي فعله اسلافهم و لايجدون داعي لتزوير حقائق تاريخهم حتى لو كان سيئأ، الا نحن بقينا كتله متحجرة كبيرة ندعي المجد و تاريخنا مملوء بالاكاذيب و المشكلة ان هذا التاريخ ينعكس بشكل مخيف على حاضرنا ومستقبل الأجيال القادمة, بل ويشكل مرجعيتنا الأساسية لفهم الظواهر التي تجري من حولنا !!!.
لقد فهمنا ببساطة ساذجة إن الفوز ” الترامبي ” جاء مفرحا للسنة من المسلمين المتطرفين, فهو بقدر فهمهم سيلغي الإتفاق النووي الإيراني, ويحد من التدخل الإيراني والأجندة الإيرانية في العراق وفي المنطقة عموما, كما جاء فوزه مفرحا للشيعة من المتأسلمين السياسيين بأنه سيمحي السعودية من الوجود وقطر وآلتها الاعلامية قناة الجزيرة, كما أبتهجت شرائح متطرفة من مسيحيو الشرق اوسطي في أمريكا وخارجها في أن الخلاص قادم لا محال من المسلمين في أمريكا, كما جاء فوزه دعما ضمنيا للنظام السوري من خلال عدم اعترافه بهوية من يقاتل النظام السوري, وتضامنه الضمني مع الموقف الروسي لصالح النظام السوري, وكل يغني على ليلاه, تلك هي مسحة التفكير الثنائي القاتل في مجتمعات تتآكلها ظاهرة الهوس الديني في مرحلة ما قبل الدولة المدنية !!!.
لا تفهم السياسة الامريكية بانها وليدة اللحظة أبدا, بل انها تعتمد على تخطيط مسبق وطويل الأمد, قد يصل في أقل سقف زمني له هو خمسة عقود, وبالتالي فإن مرشح أي حزب مهما كبر حجمه وسلطان نفوذه المالي ما هو إلا موظف يدير السياسات الموضوعة, ولكن لديه صلاحيات في اتخاذ القرار في الأمور المختلفة وبالاستناد الى مستشاريه, ومن هنا نستطيع القول ان السياسة الامريكية تستند الى علم الادارة قبل استنادها الى المزاج الشخصي للرئيس المنتخب, والرئيس الجديد لا يأتي مقطوع الصلة بسياسات وأدارة الرئيس الذي سبقه. وأسوق هنا مثالين فقط لا للحصر كيف تكمل الادارة الامريكية بعضها البعض في سياستها الخارجية: قانون تحرير العراق والذي شرع في عام 1998 في عهد الديمقراطي بيل كلنتون وقد نفذه جورج بوش الجمهوري في 2003 وأحتل فيه العراق, وكذلك قانون جاستا في مقاضاة الدول الداعمة للإرهاب وفي مقدمتها السعودية فقد شرع في عهد أوباما الديمقراطي وسينفذه ترامب الجمهوري !!!.
في سيكولوجيا الأتصال يمكن فهم الانتخابات الأمريكية كما تفهم غيرها من الظواهر: فهناك مرسل, وهناك مستقبل, وهناك قناة إيصال ومادة إرسال ” الموضوع “, ثم هناك ظروف مصاحبة للأرسال, أو معرقلة له, يجري الحد منها في مسارات الارسال, والهدف النهائي هو إيصال الرسالة للمستقبل بدرجة كبيرة من الفهم والنجاح وتحقيق الأهداف المرجوة, والتي هي في الحالة الأمريكية فوز ترامب وخسارة هيلاري كلينتون, أو إحتمالات العكس كما كان متوقع عالميا ولم يحصل !!!.
كانت رسالة ترامب الانتخابية وما أعقبها من فوز له تفهم بأنها انتصار لليمين المتطرف, وانتصار للتقارب الأمريكي الروسي, وانتصار للعرق الأبيض, وانتصارا للإسلاموفوبيا, وانتصار للأنكلوسكسونيا, وانتصار للعزلة وجدار الفصل بين أمريكا والمكسيك, وانتصار للعرق الأبيض, وانتصار لرافضي الإجهاض, وانتصار لأعداء المثلية الجنسية والحريات الجنسية, وانتصارا لمعارضي الهجرة والمهاجرين, وانتصارا لخفض الدعم الأمريكي لحلف الناتو وترك الدول تدافع عن أمنها بمفردها, وانتصارا للتمركز حول الذات الأمريكية بعيدا عن العالم, طبعا وانتصارا لليبرالية الرأسمالية وخفض الضرائب على الأغنياء, وأختزال الضمانات الاحتماعية والحد من دعم البطالة, ونهاية لمشروع أوباما للخدمات العلاجية المجانية والتوجه أيضا لتغيرات جوهرية لقضاة المحكمة العليا, وفي أضيق نظاق شخصي اعتبر فوز ترامب هو فوز لسيدة أمريكا القادمة ” ميلاني ترامب ” والتي استخدم تاريخها الشخصي للتضييق على فرص انتخاب ترامب !!!.
كان محتوى رسالة ترامب الانتخابية موجها الى العقلية والضمير والشخصية الأمريكية الكلاسيكية مستفزا لشعبويتها المتمركزة حول الذات القومية, في ظل تجارب رئاسية جمهورية وديمقراطية, كان حصادها حروب اقليمية واحتلالات, ودعم الارهاب الاسلامي التكفيري وخاصة المتمثل بما يسمى ” بالربيع العربي ” وولادة حركات أرهابية أكثر تطرفا ودمارا للإنسانية كداعش مثلا, وقد أسهمت تدخلات أمريكا في تعقيد انتقال هذه المجتمعات صوب الديمقراطية والتعددية إنتقالا سلسا وآمنا, كما في الحالة العراقية, وقد لحق دمارا هائلا في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية والثقافية مما غيب فرص بناء المستقبل لأجيال قادمة, وبالمقابل عرض أمن أمريكا الى مزيدا من المخاطر والاستنزاف في الموارد والضحايا البشرية, الى جانب مسؤوليتها وتحالفاتها اتجاه أوربا وغيرها من دول العالم !!!.
لقد استطاع ترامب بخطابه المرسل الى الشعب الأمريكي, الى جانب مزاياه الشخصية في ذهنية منتخبيه, وليست السياسية, كونه رجل أعمال ناجح وذو شأن اجتماعي وخصوصية أسرية يعجب بها الأمريكي قبل غيره أن يستحوذ على أصوات الأغلبية الانتخابية. وبالمقابل فشلت هيلاري كلينتون السياسة المتمرسة ومن وقف معها: من الاعلام الاوربي ووسائل التواصل الاجتماعي العالمية والتي ضخمت في توقعات فوز كلينتون المفرطة, إنطلاقا من امنيات ومصالح أوربا في فوزها للإبقاء على الدعم الامريكي لأوربا في نطاق الاقتصاد والأمن والعلاقات العامة والدفاع المشترك !!!.
في الحملة الاعلامية ضد انتخاب ترامب أستخدمت جزئيات كثيرة للحد من صعوده, سواء في الاعلام الأوربي وكذلك في الأعلام العربي والإسلامي, فقد ركز الأعلام المضاد حول المخاطر الأمنية على الصعيد العالمي والأقليمي بفوز ترامب, وأحتمالات نشوء حروب جديدة قادمة أوربية وأقليمية عربية وأسلامية بفعل توقعات لغياب الدور الأمريكي الفعال, وقد ركز الأعلام حول أمية ترامب السياسية وعدم مقدرته على الصعيد العالمي, وأنه رجل أعمال وليست سياسي ” محنك “, ولكن خلاف ذلك تؤكد المعلومات حول سيرته الشخصية أنه كان في أحضان الحزب الديمقراطي قبل عام 1987 ثم هجره, وألتحق بالحزب الجمهوري وتركه أيضا ثم عاد أليه, وسيعمل مع الجمهوريين, وفي ظل برلمان ومجلس شيوخ أغلبه من الجمهوريين, ولا أعتقد لرجل بارع في الأقتصاد والمال أن يكون أميا في السياسية, فالمصالح الأقتصادية وتأمنيها تستدعي معارفا سياسية رفيعة, وبالنتيجة العامة فالسياسة وليدة الأقتصاد !!!.
وفي جزئية أخرى استخدمت فيها الجانب الجنسي وعلاقاته مع النساء للحد من صعوده, وتصدرت صفحات الاعلام العالمي تحمل صور لزوجته بهذا الخصوص تقترب من الأباحة, ولكن الناخب الأمريكي حسم ذلك وكان يميز بين ما هو شخصي بحت ومتعلق بالحريات الشخصية وبين ما هو عام, فقد انحاز الناخب الامريكي الى ترامب, وبالمقابل كان الفساد الاداري والوظيفي بالنسبة لهيلاري كلينتون أحد عوامل انخفاض شعبيتها الأنتخابية وخاصة ما يتعلق بأستخدامها الخوادم البريدية الخاصة خلال توليها منصب وزيرة الخارجية الأمريكية, ولم تكن على سبيل المثال فضيحة زوجها الجنسية والرئيس السابق بيل كلنتون سببا في ذلك !!!.
في ثقافتنا العربية والاسلامية السياسية نضع ثقل لمعايير الشرف الشخصي أو السلوكيات الجنسية الشخصية ونستخدمها في حدية قاتلة لتحديد نزاهة الشخص السياسي, وبالمقابل نتغافل عن ما يرتكبه السياسيون من فساد أداري ومالي وسياسي وأستخداما سيئ للمنصب وعبث في المال العام وأنتهاك لحرمة الدولة, حيث تتجمع بيده, الثروة والسلاح والسلطة, ليقرر ما يشاء, ونضع العلاقة مع الجنس الآخر في نقيض للأداء السياسي, في ظروف لا علاقة للأول بالثاني. وقد قرأت بعض التعليقات المفارقة هنا وهناك لبعض نساء من مجتمعاتنا تجسدت في فرح فوز ترامب في جزئية استخدام زوجته في الدعاية المضاده له, وقد تفسر توقا خفيا صوب الحريات وتمردا على الظلم الأجتماعي, كما قرأت فرحا بفشل هيلاري كلينتون لأنها بقت مع زوجها رغم “خيانته ” الزوجية, وهو نمط من الفهم المتطرف بعيدا عن سنة التسامح في ارتكاب الأخطاء !!!.
اليوم يتعامل العالم مع “المنتخب” ترامب وليست “المرشح” ترامب, وهناك فسحة في الخطابين ” خطاب المرشح وخطاب المنتخب “, ففي الخطاب الأول تكمن الانفعالات المفرطة لكسب الاصواب عبر قراءة مزاج الناخب وهو موجه الى الداخل الأمريكي حتى في جزءه الخارجي, أي الى المحيط الأنتخابي الذي قرر فوز ترامب, وهناك خطاب ترامب المنتخب والموجه الى الداخل والخارج, وقد بدأت ملامح ذلك في بعض من تصريحاته: تنازله عن راتبه الرئاسي وأستلامه شهريا دولار واحد كراتب رمزي, وسعيه ان يكون رئيسا لكل الامريكيين باختلاف انتمائتهم واعراقهم, كما بدأ مشروع دولتيين متعايشتين فلسطينية واسرائيلية أحد “همومه ” كسابقيه من الرؤوساء الأمريكيين, كما انه سيراجع الاتفاق النووي مع ايران ولن يلغيه, وهناك فرق بين المراجعة والألغاء, لا بل ان الامير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الاسبق والمسؤول عن ملف العلاقات الاسرائيلية السعودية ينصح ترامب بعدم الغاء الاتفاقية النووية, لأن ذلك برأيه قد يعطي فرصة لأيران بانتاج القنبلة النووية, وبالتالي لا نعتقد أن الظروف الدولية الشائكة يجهلها ترامب ويفهمها تركي الفيصل افضل منه. نعتقد ان هناك فرق كبير بين ان تكون مسؤول أول في البيت الابيض, وخطيب او مرشح انتخابي على منصة التحشيد للفوز !!!.
وعلى العموم فأن مخاوف العرب والمسلمين من مجيئ ترامب أو ما يزيد وطأة الخوف هو انعدام مشروعنا الحضاري والمدني وعدم تمكننا داخليا من حماية أنفسنا, وتحولنا الى كانتونات طائفية ومذهبية ودينية واثنية وعرقية تقاتل بعضها البعض, في زمن تراجعت فيه مكانة الدولة الحاضنة والآمنة للجميع, واحتلت فيه الاولوية في الولاء للعشيرة والطائفة والعرق والقومية, وهكذا شلليات اجتماعية معوقة هي دائما بحاجة الى حماية من الخارج او الى حليف قوي يقف الى جانبها حتى ولو بشروطه, فلا نستغرب من خوفنا “المشروع ” في ظل تشرذمنا, ولنرى ما يخبأه ترامب لنا وللعالم, فالسياسة فن الممكن ؟؟؟.