في شهر أيّار التقينا..بكينا وغنينا! – رشاد ابو شاور
28 – مايو – 2013
ليالي الأنس في فينا! زرت فيينا ثلاث مرّات، كلها في شهر أيّار. هل يمكن لمثلي أن يزور فييناللسياحة والتمتع بفييناالجميلة العريقة، والغناء بهجة وطربا مع أسمهان: ليالي الأنس في فينا؟! في المرتين السابقتين دعيت للمشاركة في نشاطات فلسطينية ترتبط بحق العودة، في أيار 2005 و2009. في هذا الأيار دعاني الصديق المهندس المتقاعد الفلسطيني سعيد الخضرا، الذي يحمل الجنسية النمساوية منذ عقود، والذي درس الهندسة في النمسا، الناشط في أوساط الجاليات العربية، وفي لجنة الصداقة العربية النمساوية.
في لقاء بمقر رابطة الثقافة العربية، التي أسست بمبادرة من نشطاء الجالية المصرية، تكلمت بداية عن كتاب الصديق الإعلامي نضال حمد (في حضرة الحنين)، وأجبت عن أسئلة حول الثقافة الفلسطينية، ومأزق الوضع الفلسطيني بسبب الخلاف بين السلطتين.
في الأيام التي قضيتها في فيينا التقيت بكثيرين من الجاليات العربية، و..الفلسطينية، ولمست بحزن وأسى الشروخ في الجالية الفلسطينية، وهي من صنع فلسطينيين اعتادوا واستمرأوا (الهيمنة)، وما عادت تعنيهم آلام شعبنا، ومتاهات قضيتنا.
كان لا بد من زيارة بعض قصور فييناالعريقة، والتمتع ببعض جمال هذه المدنية الباهرة، ومتاحفها التي لا يمكن أن تفرغ من التردد إليها في أيام معدودات.
طيلة الوقت كنت أقارن بحسرة بين ما يتمتع به المواطن النمساوي من حقوق، والحقوق المنتهكة للإنسان العربي الممسوخ في ( كل دول ) العرب، ولا أقول بلادهم!
كل شيء في وطن النمساوي له، لراحته، لتمتعه، وهو بالمقابل يعطي للدولة التي تعطيه، وهكذا تمضي الحياة هنيئة كريمة..وهذا كان مبعث الغصة في القلب، فالعربي لا حقوق ولا كرامة له في ما يفترض أنها بلاده، والعربي لا وطن له في (وطنه)!
كثيرا ما تساءلت وأنا أتمشى في شوارع فيينا مع الصديق سعيد الخضرا: متى ستكون أوطاننا هكذا: نظيفة، ممتعة، جميلة، آمنة، يتوفر فيها كل ما يحتاجه المواطن؟!
هل أقول في ختام كلماتي القليلة عن فيينا التي قضيت فيها أياما ممتعة: لنا أصدقاء هناك؟ نعم: لنا أصدقاء تلتقيهم في الشارع، في النشاطات بمناسبة النكبة ـ يقاطعها فلسطينيون لا يطيب لهم أن ينشط أحد بعيدا عن هيمنتهم_ في لقاءات تتم صدفة أحيانا في المقهى..وفيينا مدينة المقاهي الجميلة، وبخاصة في ساحة أشتيفان، ساحة الكاتدرائية العريقة المبنية على الطراز الهندسي القوطي..والتي تتوسط فييناالجميلة، ومنها تتفرع الشوارع العريقة الباذخة، والتي عبرها يتوجه السائحون إلى أرجاء فيينا للتمتع بمدينة المتاحف، والقصور، والعراقة، والأناقة.
ملاحظة: المقاهي بدون شيش تلوث الجو…
لقاء مع الجالية في غوتنبرغ:
تلقيت من الجالية الفلسطينية في مدينة غوتنبرغ _ السويد دعوة للمشاركة في احتفالية أعدوا لها بمناسبة النكبة.
من فيينا توجهت إلى غوتنبرغ مع ابني فهد يوم 10 أيّار، وهناك التقيت بأصدقاء قدامى عرفتهم في سورية، تحديدا في مخيم اليرموك، وفي لبنان، أو عبر الهاتف، أو على الفيس بوك..وفي مقدمتهم الناشط صبري حجير.
في الفضاء الرصاصي هبطت بنا الطائرة في مطار المدينة، بعد أن عبرت بنا فوق بحيرات كثيرة متناثرة، وغابات ممتدة.
الطقس هنا قاتم، ثقيل، شمسه قليلة، ما أن تظهر حتى تختفي، ولكن دفء اللقاء أجج الذكريات التي عطرها استذكار رفاق رحلوا في ميادين المعارك ولا سيما في بيروت، وعلى أرض الجنوب.
التقيت بالصديق راضي الشعيبي الذي قدم من برشلونة، وهو رئيس الأمانة العامة لاتحاد الجاليات والفعاليات، والمؤسسات الفلسطينية في أوربه، ومن جديد بالصديق نضال حمد الذي بعد يوم واحد على عودته إلى أسرته في النرويج عاد بسيارته برا ليشارك في احتفالية الجالية في غوتنبرغ.
يوم 11 كان يوما حاشدا، فالمكان يضج بالأسر الفلسطينية التي حضرت مع أطفالها حاملة الأعلام الفلسطينية ـ لم أر علما لأي فصيل، أو شعارا لجهة ما ـ منشدة أغاني الثورة التي لا يريد تذكرها من تاهوا عن الطريق…
رقصت طفلات وأنشدن فاستنزفن الدموع من عيوننا، والأسئلة عن المستقبل.
تحدث ممثل الحزب الشيوعي السويدي فذكرنا بالخطاب الأصيل الذي يقول بعروبة فلسطين من نهرها لبحرها، وشدد الدكتور راضي على حق العودة، وضرورة تنظيم الصفوف في الشتات، وهو ما شدد عليه( أبوبسام) رئيس الجالية هناك…
دورتموند: حديث في الثقافة.
هبطت الطائرة بنا في مطار دوسلدورف، خرجنا من بوابة المطار فإذا بأحد الأخوة يلوّح لي. لم أكن قد عرفته من قبل، لكن ابتسامته طمأنتني أنا الذي تقلقني المطارات والحدود.
الأخ نعمان يوضح: كان الجو لطيفا لكنه انتكس..
توجهنا إلى السيارة التي تنتظر لتقلنا، وفيها الدكتور عمر، ثمّ بعد عناق تحركت السيارة، فإذا بنا نجابه بزحام سير، وهو ما أتاح لي أن أستمتع بمنظر الغابات الكثيفة التي تحف بالطريق الذي يأخذنا إلى مدينة دورتموند العريقة ..إحدى أهم مراكز الصناعة في ألمانيا.
عندما يلتقي الفلسطينيون فأنت لا تعرف من أين يبتدئ الكلام وإلى أين يمضي و يتشعب، وهو دائما مزيج من الحزن والألم والسخرية و..التأوهات!
تجول بنا الدكتور محمود في بعض أحياء دورتموند، فأدهشني طراز البناء وتشابهه من حيث المظهر الخارجي..وأناقته، واستقلاليته، فلا بنايات ضخمة، ولا صخب.
التقيت مساءً _ وأنا لم أعد اعرف متى يبدأ الصباح..وإلى متى يمتد النهار، _ بالدكتور هشام حماد رئيس الجالية في دورتموند، وتجولنا سيرا على الأقدام في وسط المدينة الجميلة الأنيقة، وامتد الحديث بيننا في أحد المقاهي، وقد حرصنا على الجلوس خارجا ليتمكن المدخنون من التدخين في (الهواء الطلق)، وبعد ساعتين تقريبا اقترح علينا أن ننال قسطا من الراحة استعدادا للقاء الجالية في الغد.
في اليوم التالي صباحا حضر الصديق نعمان واصطحبني أنا و(فهد) في جولة ابتدأت بوسط المدينة، ثمّ لنصعد على الجبل للتمتع بمشاهدة قلعة عريقة هناك، ولنطل على دورتموند ونهر الرور…
على جدران بعض البنايات ما زالت آثار الرصاص من الحرب العالمية الثانية، فهذه المدينة تعرضت لهجمات انتقامية تدميرية، لأنها كانت أحد أهم أماكن مراكز الصناعات العسكرية الهتلرية…
مصانع (كروب) التي زودت هتلر بكل أدوات الحرب ما زالت ترفع شارتها على واجهة بناء هائل. وجدتني أتمتم بمقطع من قصيدة (الأطفال والرصاص) للشاعر الكبير بدر شاكر السياب، وهي عن كروب والحرب:
ويبقى بعدنا كروب الجالب الموت والردى
ويبقى بعدنا كروب، تبقى المصانع
وها هي مصانع كروب..هاهو أحد عناوين الحرب العالمية الثانية التي كانت (الحاضنة) لولادة (إسرائيل) بفضل هتلر، الحليف (الحقيقي) للصهاينة بنعصريته ووحشيته.
مساء 17 أيّار التقيت مع الأخوة في الجالية، وجلهم أطباء ومهندسون، وكان الحديث في الثقافة الفلسطينية، ولذا أخذت راحتي في الكلام، فليس هناك ما نختلف عليه، فمن يتنكر لدور مبدعينا منذ مطلع القرن العشرين: شعراء، كتابا، فنانين ..وأهمية الثقافة في توحيد شعبنا بعيدا عن السياسات العقيمة التي مزّقت صفوف شعبنا، ومنحت الفرص للانتهازيين للعبث بقضيتنا.
في ختام اللقاء كان حوار مثمر وحميم، اختتمته بتقديم بعض أعمالي الروائية، فأعلن رئيس الجالية الدكتور هشام حماد وسط تصفيق الحضور عن تأسيس مكتبة للجالية بدءا بهذه الكتب…
في فيينا وغوتنبرغ ودورتموند ..التقيت بأهلي الثابتين على الإيمان بعروبة فلسطين من نهرها لبحرها.