في فهم أسس السيطرة الغربية على العالم – منير شفيق
طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر راحت أوروبا الملكية الإقطاعية تتحرك باتجاه استيطان الأمريكيتين، والسيطرة عليهما وإخضاع شعوبهما الأصلية، أو في الأدق إبادتهم للحلول مكانهم.
وراحت في الآن نفسه تتحرك نحو السيطرة على إفريقيا جنوبي الصحراء، كما المرور من رأس الرجاء الصالح إلى الشرق الأقصى واجتياح ما يصادفها من جزر.
هذا التوجه أخذت يعود على أوروبا بالثروات، خصوصاً الذهب والفضة، الأمر الذي راح يحدث تغيّرات اقتصادية عميقة بنشوء طبقة البرجوازية في المدن، كما أَحدث هذا التوجه أزمات عميقة داخلية راحت تهز النظام الملكي-الإقطاعي التقليدي.
فقد أصبح يتطلب تعبئة عسكرية واسعة لمواجهة مقتضيات السيطرة العالمية التي فتحت آفاقها على أوسع نطاق، وأيضاً تزايدت هذه الحاجة إلى مواجهة التنافس العسكري بين دول أوروبا نفسها، ومن ثم إزاحة المنافسين من قِبَل بريطانيا التي راحت تسابق هولندا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا في السيطرة على المحيطات والبحار.
أصبحت ثمة ضرورة لتعبئة المجتمع كله في خدمة الضرورات العسكرية التي تقتضيها السيطرة على البحار و”المستعمرات”. من هنا نشأ الصراع الداخلي للقضاء على الإقطاع، فنظام القنانة لم يعد يستطيع تلبية الحاجات العسكرية من أجل السيطرة على البحار، وعلى العالم الخارجي الجديد. الأمر الذي انطلقت معه أول ثورة في إنجلترا، ثورة كرومويل 1649. وبدأ الحديث عن حقوق الإنسان والحرية والمساواة وقيام الدولة الحديثة التي تتخلص من استبداد الملوك ومن تقسيم الشعب إلى إقطاعات وتحويله إلى أمة قومية موحدة: دولة الأمة.
فكان هذا الهدف هو الهدف الذي سبق توحيد السوق للأغراض البرجوازية الناشئة مع تدفق الثروات الخارجية، بل كان توحيد السوق ونشوء البرجوازية لخدمته كذلك.
وبهذا فإن السيطرة على الخارج الجديد، الأمريكيتين وإفريقيا جنوب الصحراء، والتوجه إلى الهند والشرق الأقصى، تقتضي السيطرة على البحار. ومن ثم شكلا جزءاً عضوياً لا يتجزأ في تشكل أوروبا الدولة الحديثة. كما كان لهما دور في وضع البذور الأولى لما سُمّي “التنوير الفكري”، والثورات، وتوحيد الأمة، وتعبئة الشعب كله. وذلك ليكون في خدمة القوة العسكرية (زادت الحاجة إلى العلوم التي تطوّر حاجات الأسطول العسكري والجيوش الجرارة والمسافات الطويلة).
هذه المعادلة الجديدة هي التي أخرجت أوروبا من حصارها الخانق، وراحت تخرج أوروبا من “عصر الظلمات”، والركود، والتخلف الاجتماعي ومن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية التي ارتبطت بعصر الإقطاع والملوك المستبدين، إلى عصر الأمة القومية، عصر “الديمقراطية”، عصر “التنوير”، عصر “حقوق الإنسان”. وهذا كله كان له نقطة تركيز واحدة هي أوروبا ثم أمريكا (وهنا بات يتشكل بما يعرف بالمركزية الأوروبية، أو مركزية الغرب).
عملية هذا التغيير الثوري كانت الممهدة، والدافع الأول والأساسي لنهضة أوروبا، ولعصر “التنوير”، وللتطور العلمي والصناعي.
بكلمة أخرى، لا يمكن فهم أوروبا الحداثة إلاّ من خلال السيطرة على العالم وثرواته. على أن هذه الحقيقة راحت تُنسى وتُستبعد ويتم تجاهلها تعمداً، ليطغى عليها ما استحدثته أوروبا من حداثة وتنوير، ووحدة أمة، وثورات، لتصبح هي سبب التقدم والنهضة والحداثة. فبدأ تاريخ أوروبا الحديثة يُكتب من ثورتي كرومويل والثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. فالمنتَج أصبح في التحليل هو المنتِج وهو الصانع وهو الخالق. فقد اشتهر مثلاً أن الإصلاح الديني كان هو سبب النهضة الأوروبية وكأنه مطلوب لذاته، أو مٌنتَج واجب الوجود والحدوث، وليس نتاجاً مطلوباً لمعادلة سيطرة أوروبا العسكرية النهبية للعالم خارجها.
من يراجع التاريخ الأوروبي، والذي لا يكذب، لا يستطيع أن ينكر أن أساطيل السيطرة على البحار سبقت إسقاط الإقطاع والملكيات المطلقة، وسبقت ثورة كرومويل 1648، وسبقت الثورة الأمريكية 1783، والثورة الفرنسية 1789، وسبقت مفكريها ورجال التنوير الذين مهدوا لها، لأن تلك السيطرة بدأت في القرن السادس عشر واستمرت إلى القرن السابع عشر، فالثامن عشر حتى اليوم.
ومن يراجع التاريخ الأوروبي لا يجد طوال قرون حتى إرهاصات لما حدث بعد الاكتشافين اللذين أطلقا أوروبا للسيطرة على العالم. الأمر الذي غيّر تاريخ أوروبا، بل في الآن نفسه تاريخ العالم كله تقريباً.
طبعاً ما قامت به الثورات، وما أحدثته أفكار التنوير، وما حدث من تطورات علمية وتقنية، كان له تأثير هائل في تعزيز تلك السيطرة العالمية وتكريسها، ولا سيما في ما أحدثاه من تغيير داخلي في أوروبا، وتحويلها إلى قوة عسكرية جبارة، وقوة اقتصادية صناعية تقنية هائلة، و”منارة” إشعاع فكري وعلمي.
ولكن هذا كله يجب أن يُرى تابعاً لما أحدثته السيطرة ونهب الثروات، ولما أحدثته الاندفاعة الأوروبية الاستثنائية نحو الخارج. فخلال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ولدت أمريكا التي لم تكن موجودة في تاريخ العالم القديم، لتتابع مسار النهوض الأوروبي، وتعززه، وتصبح شريكاً أصيلاً به، وصولاً إلى قيادته، فلا التنوير ولا الثورات ما صنع أمريكا (الغربية الأوروبية)، إنما السيطرة العسكرية الأوروبية والاستيطان والإبادة الجماعية للسكان الأصليين. وجاء “التنوير” و”الحداثة” ليكونا في خدمة ذلك كله.
إنه التاريخ المر والمرير والذي يتعمد الفكر المعاصر تناسيه وتجاهله وهو يعرض النهضة الأوروبية وعصر التنوير والتغيير.
هذه الحقيقة التاريخية لا يمكن دحضها، أو نكرانها من جهة، ولكنها من جهة أخرى تفرض أن يُربط ربطاً عضوياً بين كل ما حدث ويحدث في الغرب (أوروبا، أمريكا) من حداثة وعصر تنوير وثورات وتطورات وتقدم، بالسيطرة على العالم خارجها. وهي سيطرة مرتبطة بنهب ثروات العالم، وهي السيطرة التي أصبحت بعد الحرب العالمية الأولى سيطرة عالمية شبه كاملة.
فمن لا يعتبر كل ما حدث في أوروبا وأمريكا يرتبط بالسيطرة الخارجية عضوياً، بل بترابط لم ينفصم حتى اليوم، يرتكب خطأ في فهم الغرب وفي قراءة المستقبل. فما قدمه الغرب من “تنوير” وحداثة وإنجازات وديمقراطية وليبرالية اعتمد أو ارتبط أو تعايش مع استمرار الغرب مستعمراً لأغلب العالم وناهباً لثرواته، ومكرساً لسياسة القوة والهيمنة. وهذه حقيقة تاريخية مستمرة منذ خمس مئة عام.
ويجب الانتباه إلى أن ما فعلته الدول الغربية الحديثة دولة المواطنين المتساوين الأفراد بالتخلص من الروابط العائلية والاجتماعية والتكافلية، ما قبل الدولة الحديثة، ما كان ليحدث لولا الثروات المنهوبة مباشرة، أو من خلال العلاقات الرأسمالية الاحتكارية العالمية. لأن حلول الدولة الحديثة مكان تلك الروابط وحلها والاستغناء عنها حتى يكون ممكناً يجب أن تمتلك الدولة من الثروات ما يسمح لها بذلك. وهذه معضلة دول العالم الثالث حين يراد من دولها أن تقتفي نموذج الدولة الغربية الحديثة، بما في ذلك تفكيك العلاقات العائلية والاجتماعية، في حين لا تستطيع أن تعوّض الفرد ما كانت توفره تلك الروابط من تكافل اقتصادي والتزامات.
والسؤال ماذا سيحدث للغرب إن فقد تلك السيطرة، وحرم ممَّا ينهبه من ثروات؟ هذه السيطرة تمت من خلال الحروب والقوة والاحتلال، واستمرت من خلال المحافظة على التفوق العسكري، والتهديد العسكري، فما العمل إذا أبطل استخدام القوة بسبب تطور قوى ردع موازية؟.. فهل يستطيع الغرب أن يحافظ على سيطرته دون القوة؟ وهل يوجد الغرب بمعزل عن السيطرة على الشرق والجنوب؟