في فهم الانقسام وتجاوزه-منير شفيق
السنوات قاربت من العشر، والأصوات تتعالى احتجاجاً على الانقسام الذي وقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد انطلق في الأساس ما بين فتح وحماس إثر الانتخابات التشريعية في 2006. ثم راح يتكرس بين وضعين مختلفين أهدافاً واستراتيجية وسياسة.
وجرت محاولات عدّة لرأب الصدع أو ما سمّي، بالمصالحة. وكان أهمّها ما عُرِفَ باتفاقات القاهرة 2007. وقد اشتركت في مداولاتها وقراراتها كل فصائل م.ت.ف وحركة حماس والجهاد. ولكن بدلاً من أن تسهم اتفاقات القاهرة المذكورة بإزالة الانقسام أو بإجراء المصالحة، أخذ الانقسام بالتعمّق والتثبت، ولا سيما مع انتصار قطاع غزة في الحرب العدوانية التي شنها العدو الصهيوني في 2008/ 2009 من جهة، ومع عقد الاتفاق الأمني بين سلطة رام الله (بقيادة الرئيس محمود عباس) والكيان الصهيوني وبرعاية أمريكية، نجم عنه إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال كيث دايتون.
إذا كان الانقسام قد بدأ مع امتلاك حماس للأغلبية في المجلس التشريعي وتشكيل حكومة برئاسة اسماعيل هنية قوبلت بالرفض التام من محمد دحلان قائد الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، معلناً أنه لن يسمح بمزاولة الحكومة لمهامها. ولم يكن محمود عباس بعيداً من هذا التوجّه بالرغم من أنه كلف اسماعيل هنية بتشكيل الحكومة كما يقتضي النظام الداخلي (الدستور) ذلك. الأمر الذي فتح باب المواجهات المسلحة على مصراعيه في قطاع غزة مُسْفراً عن تمكن قوات كتائب عز الدين القسّام الجناح العسكري المقاوِم في حركة حماس من السيطرة على الوضع. فكان ردّ محمود عباس، وبلا حق شرعي، تكليف سلام فياض بتشكيل حكومة مؤقتة –دائمة، مُسقِطاً “الشرعية” عن حكومة اسماعيل هنية، ومُعطلاً المجلس التشريعي من دون أن تكون له صلاحية في ذلك.
كل هذه التفاصيل قد تحتمل الخلاف حول هذا الجزء أو ذاك منها. الأمر الذي يدخل في جدال ثانوي ليس له من حل عملياً، إذ لكلٍ من الطرفين أن يدافع عن شرعيته. ولهذا يمكن القول في نهاية المطاف أن ثمة شرعيتين متواجهتان تشكلتا في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبالمناسبة إن شرعية حكومة اسماعيل هنية اعتمدت على ما سبق وتمكّن محمود عباس وأنصاره من انتزاعه من الرئيس ياسر عرفات في مصلحة صلاحيات المجلس التشريعي ورئيس الحكومة فيما قامت شرعية الرئيس محمود عباس لاحقاً على ما سبق واحتفظ به ياسر عرفات من صلاحيات في مصلحة رئاسة السلطة. ولهذا حقّ لمحمود عباس ومن ناصره أن يأكلوا أصابعهم ندماً على ما فعلوه بياسر عرفات الذي استشهد وفي قلبه جرحٌ عميق منهم.
على كل حال لنضع هذا البعد من الصراع جانباً لأنه البعد الأقل أهمية، بل هو في أدنى درجات الأهمية، عند تناول موضوع الانقسام والمصالحة. لأن الأسباب الرئيسة التي تكرّس الانقسام وتحول دون إزالته أبعد ما تكون عن حلّ الإشكال القانوني أو مراجعة تفاصيل ما حدث من صراع أدّى إلى نشوء السلطتين.
أصبح لدينا خلال تسع السنوات الماضية وضعان ماديين موضوعيان وذاتيان يختلفان في ما يتبناه كل منهما من أهداف واستراتيجية وسياسات. وقد ترجم كل منهما ذلك الاختلاف على أرض الواقع المادي الذي يقوم عليه. أي في كلٍ من الضفة الغربية وقطاع غزة.
ففي الضفة الغربية سلطة حصرت هدفها بحلّ الدولتين التصفوي. واعتمدت استراتيجية المفاوضات لتحقيقه. وأرست كل سياساتها التفصيلية والتكتيكية على أساسهما، كما اعتمدت أجهزة أمنية تشكلت وفقاً لخطة دايتون ومارست تصفية المقاومة المسلحة من كل الفصائل وفي مقدمّها كتائب شهداء الأقصى الجناح المقاوِم في حركة فتح، فضلاً عن مطاردة الانتفاضة وكل نشاط مقاوِم حتى لو كان في الشبكة العنكبوتية. هذا وما زالت مصرّة على المضيّ بهذا الطريق بالرغم من فشله المريع ومضاره مما جعل اتفاق أوسلو ممرّغاً حتى الاختناق في الطين الذي وُلِدَ فيه.
ولهذا فإن كل من يدعو إلى إنهاء الانقسام عليه أن يقول ماذا يريد أن يفعل مع هذا البرنامج أهدافاً واستراتيجية وسياسة وممارسة وعناداً حتى النهاية. أما إذا لم يفعل وحاول القفز عن هذا الواقع الموضوعي والذاتي فإنه يكون قد تعامل مع الانقسام من خلال الأمانيّ والرغبات، إن لم يكن الأوهام إذا كان ممن لا يوافقون على هذا البرنامج ولا يريدون له أن يكون أساس إزالة الانقسام وإجراء المصالحة. أي إذا لم يكن ممن يريدون انتقال الوضع القائم في الضفة الغربية ليسود في قطاع غزة أيضاً.
أما في قطاع غزة فقد تشكلت سلطة أو قيادة، عملياً، تحمل هدف تحرير كل فلسطين وتعتمد استراتيجية المقاومة المسلحة وتتبنى السياسات التفصيلية والتكتيكية التي تكرّس ما قام في قطاع غزة خلال تسع السنوات الماضية من قاعدة مقاومة عسكرية أثبتت جدارتها وصوابيتها خلال ثلاث حروب كبرى ضدّ العدو الصهيوني، وقد خرجت منها منتصرة وأكثر رسوخاً في تعزيز سلاحها وتطويره والتوسّع في الأنفاق الدفاعية –الهجومية حتى استعصت على إمكان احتلالها من قِبَل الجيش الصهيوني. وتجرأت على قصف مدنه بالصواريخ وخوض معارك مواجهة حتى وراء خطوطه الأمامية.
إن ما حدث من إنجاز مقاوِم عسكرياً على أرض قطاع غزة عديداً مقاتلاً وتسليحاً وأنفاقاً ووضعاً اجتماعياً وشعبياً وثقافياً وتنظيمياً مقاوِماً فاق كل تصوّر وتخطيط سبق وأين؟ على أرض فلسطين. فنحن إزاء معادلة استراتيجية عسكرية في مواجهة جيش الكيان الصهيوني بعيدة الأهمية في المدى القريب حتى في الإسهام بتحرير القدس والضفة الغربية بلا قيدٍ أو شرط. وأما في المدى البعيد، إذا ما حوفظ عليها، ودعمت وعززت، فسوف تسهم في تحرير فلسطين وتصفية الكيان الصهيوني. ولا مبالغة إذا ما قيل بأن القاعدة العسكرية المقاوِمة في قطاع غزة يجب أن يُنظر إليها باعتبارها في غاية الأهمية، بالنسبة إلى الأمن القومي المصري والعربي، أو بالنسبة إلى الصراع العام ضدّ وجود الكيان الصهيوني.
لهذا فإن كل من يدعو إلى إنهاء الإنقسام عليه أن يقول ماذا يريد أن يفعل مع هذا الوضع العسكري المقاوِم، مع عديده، ومع سلاحه، ومع أنفاقه، ومع خطته التي تستهدف تطوير قدراته العسكرية إلى أعز وأقوى أبداً؟ هل سيذهب بهذا الاتجاه أم سيقبل بشروط محمود عباس حول سلطة واحدة، وسلاح واحد، وقوات أمنية واحدة وقرار واحد في السياسة والحرب. أي أن يصبح الوضع في قطاع غزة مثل الوضع في الضفة الغربية حتى نتخلص من الإنقسام “اللعين”، ونحقق “المصالحة” التي ستُخرِجُ “الزير من البير” باعتبار أن الوحدة هي مصدر “القوّة”؟
إن من يريد إنقاذ فلسطين من حلّ الدولتين التصفوي، ولا يريد أن يُعمّم الوضع في الضفة الغربية إلى قطاع غزة، ويريد تحرير الإرادة الفلسطينية المقاوِمة لتشمل الضفة الغربية والقدس وكل قطاعات الشعب الفلسطيني فلا يحقّ له أن يتعامل مع الانقسام من خلال الأمانيّ والرغبات أو تحت شعار “الوحدة هي القوّة” (بغض النظر عن محتواها)، أو بأن الانقسام الراهن هو “سواء في جانبيه”، متخطياً ما أنجزه قطاع غزة بالتحوّل إلى قاعدة مقاومة عسكرية جبارة تستطيع أن تمتنع عن العدو بل أن تحاربه مواجهةً ندّاً لند. وتصمد حتى لحصار الأشقاء وتتحمّل ظلم الكثيرين حين يتجاهلون ما هي عليه من وضع مقاوِم في غاية الأهمية الاستراتيجية.
وبعد، فإن السؤال يبقى كيف يمكن التعامل مع حالة الإنقسام الفلسطيني؟
بدايةً، لا بدّ من الاتعاظ بالتجربة. فقد أثبتت كل محاولات الحوار لإنهاء الانقسام كما كل ما مورس من ضغوط، أو هجاء له، أو مديح لمزايا الوحدة بأنها ذهبت أدراج الرياح ومن العبث أن نستمر بتجريب المجرب. فلا محمود عباس يريد التخلي عن استراتيجيته، أو عن الوضع القائم في الضفة الغربية، ولا حماس والجهاد وعدد آخر من الفصائل المقاوِمة يمكن أن يتخلوا عن الوضع القائم في قطاع غزة. بل أن ذلك جريمة لا تغتفر. فلِمَ الاستمرار في خضّ الماء لإخراج الزبدة منه؟
ثانياً: إذا لم يكن من الممكن إزالة الانقسام فإن من الممكن التعايش بين الحالتين تحت سقف التخفيف من العداوة، أو الحيلولة دون القطيعة والصدام. ولكن مع التشديد على أهمية الحفاظ على قطاع غزة قاعدة عسكرية مقاوِمة ضدّ العدو من جهة ومع التشديد، من جهة أخرى، على ضرورة مقاومة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس. وذلك بإحداث توافق عام لتطوير الانتفاضة وأشكال المقاومة العفوية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، بلا قيدٍ أو شرط، فضلاً عن إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، وهي أهداف يتفق عليها الجميع، ولا سيما بعد أن سُدّت الأبواب في وجه استراتيجية محمود عباس وأهدافه وسياساته. فها هنا يمكن تحقيق المصالحة والتوافق العام وتحقيق الوحدة من خلال الانخراط في الانتفاضة أهدافاً واستراتيجية