في معنى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان – منير شفيق
وحتى الدول الكبرى في الناتو ممَّن شاركوها في احتلال أفغانستان طوال عقدين من السنين أُخطروا بانسحابها إخطاراً، ولم يُستشاروا. فمن يسمع تصريح بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الذي أعلن تخطئة القرار الأمريكي، وحذر من عواقبه، يتأكد من تخبط أمريكا في اتخاذها مثل هذا القرار، وتنفيذه بهذه السرعة.
ويأتي تحرك طالبان العاصف باحتلال أكثر من نصف الولايات الأفغانية، وبأقل من أسبوعين، ودخول العاصمة كابل، وهروب رئيس الدولة، ليحسم الصراع، وليظهر القرار الأمريكي هزيمة مدوية، لا لحكومة كابل فحسب، وإنما لأمريكا نفسها. فحال أمريكا الآن وهي ترحل من أفغانستان ليس بجيشها فحسب، وإنما أيضاً برعاياها الذين عملوا في أفغانستان طوال عشرين عاماً، يذكر بمشهد انسحابها المذل من جنوبي فيتنام، مع الفارق طبعاً.
حتى الانسحاب المدروس والمحسوب جيداً، والذي يمكن أن يمر بأقل ما يمكن من الأضرار، أو من مظاهر الهزيمة، لم توفره إدارة جو بايدن. وهي تشد الرحال للرحيل من أفغانستان.
إن الأسباب التي اعتبرت وراء الانسحاب في عهدي باراك أوباما ودونالد ترمب من فشل عسكري وخسائر بشرية ومادية، ومن استراتيجية جديدة تخفف من الانتشار العسكري الأمريكي في العالم، لم تعد مقبولة بأن تُردد في عهد جو بايدن. وذلك حين تعتبر أن رأس حربة الاستراتيجية الأمريكية العالمية ستكون الصين وروسيا للمرحلة القادمة. الأمر الذي يقتضي البقاء في أفغانستان، وتحويلها إلى قاعدة أمامية في مواجهة الصين أولاً وروسيا ثانياً.
فكيف والحالة هذه، يُفسَّر هذا الاستعجال في الانسحاب من أفغانستان وتركها لمصيرها حتى دون ضمان حيادها، أو تأمين جانبها في الصراع الأمريكي القادم ضد الصين وروسيا؟
ثم هل تحسبت أمريكا للأثر المعنوي الذي سيتركه انسحابها، وقد بدا هزيمة عسكرية وسياسية منكرة؟ وذلك في أعين حتى الذين يبحثون لها عن مسوّغات، ويعتبرون خطواتها مدروسة، وبأنها على أحسن ما يرام. ويرفضون كل من اعتبر سلطتها العالمية في تراجع، ولم تعد مسيطرة على الأوضاع. فلم يعد بمقدورهم أن يعتبروا كل ما تقوم به مدروساً، ويتم بقرار منها.
من هنا يقف أنصار أمريكا، وليس خصومها أو المحايدون وحدهم فقط، مذهولين أمام ما يجري في أفغانستان.
ولكن أمام هذا المشهد المفاجئ وأبعاده الظاهرية، ماذا يمكن أن يستنتج من أبعاده على المستوى الحقيقي لميزان القوى العالمي؟
أن تقرر أمريكا الانسحاب، وبطريقة مذلة، حدث قبل اليوم في فيتنام 1975، أيام كانت في عز قوتها الإمبريالية. ولكن الانسحاب الراهن يحدث وأمريكا تدخل في مرحلة الوهن والضعف والتراجع على مستويين: داخلي وعالمي. فمرحلة دونالد ترمب التي انتهت بسقوطه انتخابياً، ومجيء إدارة جو بايدن، تكشفت عن انقسام داخلي مريع، يحمل سمات ضعف مؤثرة في كل المستويات بما في ذلك الدولة العميقة ومراكز القرار. وهذا ما أظهرته إدارة بايدن من تردد في مختلف مواقفها السياسية.
فعندما حددت عدوها الاستراتيجي لم تستطع أن تميّز بين الصين وروسيا تمييزاً يدخل في أولويات الاستراتيجية، ويتحوّل إلى استراتيجية متماسكة، لتمضي بها خطوة فخطوة.
صحيح أنها حددت موقفاً واضحاً في مواجهة الصين وروسيا. ولكن لم تحدد حتى الآن استراتيجية مدروسة جيداً ومفكّراً فيها جيداً. وهذا يدل على ارتباك وضعف.
ولو أخذنا مثلاً آخر وهو الموقف من إيران ابتداءً بمفاوضات فيينا لوجدنا التردد والارتباك واضحين. فهي لم تحسم أمرها منذ ثمانية أشهر، هل تريد أن تذهب إلى اتفاق يهدئ، في الأقل، حدّة الصراع، للخروج من الغرق في خدمة الكيان الصهيوني، على حساب صراعها الاستراتيجي مع الصين وروسيا؟ لأن إبقاء الصراع مفتوحاً ضد إيران سيعطل بالضرورة على صراعها الاستراتيجي ما دامت أولويته الصين وروسيا. هنا إدارة جو بايدن غير قادرة على الحسم في السياسة والقوة. فجاء الانسحاب من أفغانستان ليكرس الضعف الأمريكي في الميدان العسكري.
وبالمناسبة إن من يراجع تاريخ التوسّع العسكري الميداني الأمريكي العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، سيجد أن الحسم العسكري، والوجود العسكري، وعلى مستوى عالمي، جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية. ممَّا جعلها منتشرة بقواتها العسكرية في كل المحيطات والقارات، وجعل ما خاضته من حروب صغيرة ومتوسطة وكبيرة لزوماً دائماً، لفرض سيادتها العالمية ونهضتها الداخلية.
على أن هذه الاستراتيجية كانت تتطلب من أمريكا، كما تطلبت من كل الدول الاستعمارية من قبل، ألَّا تحسب ما تخسره في الحرب والاحتلال وفرض السيطرة، سواء أكان بالماديات أم كان بالبشر. المهم تحقيق الهدف. مثلاً حربها في كوريا، أو في الحرب العالمية الثانية. أما عندما تحسب الخسائر المادية والبشرية فستجد نفسها متراجعة ومعرضة لاختيار الانسحاب المذل. وهو ما يفسّر قرار الانسحاب من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الاحتلال. هذا يعني باختصار: لم تعد أمريكا التي سيطرت على النظام العالمي هي أمريكا. ومن ثم دخلت في مرحلة تراجع وهو ما يتماشى مع مصالح شعوب العالم كافة، وفي مقدمها شعوبنا.