في ملعب اوسلو – عبداللطيف مهنا
سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال في فلسطين المحتلة، ومعها كافة ضواحيها الأوسلوية من مريدين ومنتفعين ومناضلين سابقين متقاعدين، إلى جانب معارضاتها الفصائلية المستأنسة سلطوياً، أو الديكورية، وأيضاً المشاكسة المعترضة لكنما العاجزة، جميعهم، أو اقله اغلبهم، مشغولون هذه الأيام بحكاية الانتخابات البلدية. باتت شغلهم الشاغل، أو هكذا يراد لها، حتى ليتبدى وكأنما القوم قد عثروا على ما يعوِّضون به بطالتهم النضالية الضاربة اطنابها، إما اختيارا، وانتظاراً لعدالة شركة العلاقات العامة الأممية المتحدة لصاحبتها الولايات المتحدة وشركائها من مساهمي حق الفيتو كل على قدر ما يمتلكه من اسهم قوة يصرفها في مجلس ادارتها، أو عجزاً وقلة حيلة كفاحية.
هناك من اطنب في امتداح محاسن مثل هذه الخطوة الانتخابية وانعكاساتها على حياة الرازحين تحت الاحتلال وعدد ضروراتها وتأسف على تأخرها وتمنى لو انتقلت عدواها المستحبة إلى تليد المستعصي تشريعياً ورئاسياً، معرجاً على “الانقسام”، آملاً أن تسهم، إن لم يك في إعادة اللحمة المتهتكة، فأقله تضييق الهوة بين شطريه بعد أن عَزَّ التجسير ما بين متباعديها.
وهناك من وضع ما تقدم خلفه وانشغل بشؤون الشفافية وشجون مواصفات من يجب أن تسفر صناديق الانتخابات المباركة عن وضعهم في سدة المسؤولية، ليدلف بالتالي إلى التحدُّث بطوباوية يحسد عليها عن الكفاءة والبعد عن الولاءات والانتماءات، ويتعداهما إلى وجوب أن تتوفر في فرسانها صفات الأيادي البيضاء والنزاهة تردفهما الخبرة والتجربة.
لعله كلام جميل، لوكنا إزاء الحديث عن أي انتخابات ومن أي نوع ومستوى كان قد تجري في اللوكسمبورغ أو جزر القمر، لكنما نحن إزاء الحديث عن انتخابات محلية في معتقلات كبرى مقطَّعة الأوصال، تحاصرها الحواجز الاحتلالية، وتلتف من حول اعناقها غوائل التهويد ومخططات الترانسفير، ويتناهش أطرافها سرطان توسُّع المستعمرات، ويجول في احشائها المستعربون، يرفدهم التعاون الأمني الأوسلوي “المقدَّس”، حيث لا ينفك رئيسها يؤكد صباح مساء فحوى ما كان قد أكده في لقاء له مع حزب “ميرتس” الصهيوني من أن “التنسيق الأمني بين إسرائيل والفلسطينيين مستمر منذ عشر سنوات لإحباط العمليات” الفدائية…ولتتأكدوا، “لا تسألوني، اسألوا أجهزة الأمن الإسرائيلية”!
بمعنى أنها انتخابات، وسواء كانت مجرَّد بلدية محلية، أو انتقلت عدواها المأمولة والمستعصية إلى التشريعية أو الرئاسية اللتين عفى عليهما الزمن، فهي تجري وتدار في الملعب الأوسلوي الكارثي ذاته، وتعقد تحت مظلته البائسة ، ومحكومة بسقفه المنحدر، وتنسحب عليها تداعياته التنازلية المدمِّرة…وحيث يتدخَّل الاحتلال الغاشم في كل مسامات الحياة الفلسطينية ويقيس ليقرر حتى مدى التنفُّس المسموح به للصامدين فوق ترابهم المحتل. كما لا ننسى أن المسألة الانتخابية هنا محصورة بمستوى إدارة الخدمات وجمع النفايات، وحيث لا تصل المقترعين ومن سينتخبونهم نقطة ماء أو ساعة كهرباء لا يتحكم المحتلون بوصولها أو انقطاعها ومتى شاءوا.
لقد بات من المسلَّم به والذي لم يعد مدار جدل لا في الساحة الفلسطينية ولا خارجها، ولا ينكره الصهاينة ولا الأوسلويون، أن السلطة الأوسلوية موضوعيا قد غدت ذراعاً أمنيةً واداريةً للعدو، الأمر الذي اشرنا إلى أنه حتى لا يضير رئيسها أن يؤكده، وهو إذ يسهم في حفظ أمن الاحتلال وينوب عنه في مطاردة المقاومين وفدائيي الانتفاضة، يوفر لة احتلالاً مريحاً لم يحظ به غاز عبر التاريخ. وعليه، لا يمكن فصل هذه الانتخابات التي نحن بصددها عن كونها افرازا اوسلوياً، أي يأتي في سياق يرتضيه العدو ويواصل توظيفه. وكيف لا وهو لا يتناقض أو يزد فتيلاً عن تليد سياساته المزمنة، أو تلكم المعبَّر عنها بدايةً بروابط القرى، أي ترسيخ عملية تحويل كل الحالة الفلسطينية الكيانية نهائياً إلى مجرَّد مسخ اداري خدمي محدود الصلاحية تحت الاحتلال وفي خدمته، أو ما ينسجم تماماً مع بائس تلك التسمية سيئة السمعة التي خلعتها اتفاقية اوسلوا التنازلية الكارثية على سلطة “اوسلوستان” القائمة تحت الاحتلال، أي سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني المحدود.
بقي أن نقول لأولئك المشفقين على مصير مثل هذه الانتخابات من غوائل ما يدعونه مستمر “حالة الانقسام، أو انعكاسات هذه الحالة لجهة انجاز عقدها أو حصاد نتاجه، وكذا لمن ينظرون إليها كخطوة يرتجونها باتجاه “الوحدة الوطنية”، وهل من وحدة وطنية بدون برنامج اجماع حد ادنى وطني مقاوم لا مساوم؟!
وفي ظل هكذا نهج وهكذا ممارسة، ومع هكذا نخب أقل ما يقال فيها أنها منهزمة ومفرِّطة ومتعاونة مع محتليها، وذهبت بعيداً في مسارها المدمِّر، بحيث لم يعد سهلاً عليها ولا في واردها العوده عنه، أو تلمس سبل المنجاة من هاويته، هل تكون الوحدة سوى الالتحاق ببرنامجها ومشاركتها السقوط في هاويته؟!
وإذ لا نعمم، ولا نساوي المقاوم بالمساوم، لابد من القول للفصائل، التي تتدرج مواقفها ما بين المعارض المهادن بمعنى المتكيِّف المشارك والمعترض المشاكس لكنما العاجز: إنه لن تأتي هذه الانتخابات بما يخرج عن ما سبق وأن بيَّناه، أي أن تبقى الحال كما هي الحال، سلطة متهالكة تتعاون مع محتليها، وفصائل تعارضها لكن تنسِّق معها حفاظا على “الوحدة الوطنية”، التي هي موضوعياً لا تعني سوى المحافظة على هذه السلطة، الأمر الذي بدوره لا يعني سوى استمراريتها الوظيفية المرادة لها تصفوياً.